-
قال عنه نجيب محفوظ: «وهبه الله روحا شعبية عميقة من قلب الريف والصعيد
-
كون الفرق والمسارح الشعبية ورفض منصب وكيل وزارة الثقافة
-
وقال للوزير فتحى رضوان: «أنا راجل مكتبى على قارعة الطريق وفى الشارع»
قال الأديب العالمى نجيب محفوظ، إن زكريا الحجاوى ذكرى جميلة كالوردة اليانعة ذات العبير الدائم، قل من عرفت من الأصدقاء فى وفائه ومروءته وشهامته وحبه لأصدقائه، بل ليس حبه لأصدقائه إلا دفعة من حبه الإنسانى للبشر جميعا.
امتاز الحجاوى ببلاغته الخاصة وتعبيراته المبتكرة، وكأن كل عبارة فيها من وحى إلهام سام، وفن رفيع.
عرف بتعلقه بالفن الشعبى، ورحلاته فى أنحاء مصر لجمعه من مصادره وتسجيله وإحيائه فى الحفلات التى كان يقيمها، ما أضفى عليه الريادة فى هذا المجال.
ولا عجب ولا غرابة فى ذلك، فقد وهبه الله روحا شعبية عميقة وحميمة، كأنما خلق لخدمة هذه الروح ومتابعتها فى مصادرها ومجالها.
أوصاف كثيرة نالها زكريا الحجاوى، بسبب عشقه للفن الشعبى، فهو العراب ورائد وناظر مدرسة الفن الشعبى، و«عاشق المداحين، وإمام المتكلمين»– حسب وصف الأديب السودانى وصديقه الطيب صالح- وهو أيضا «موال الشجن فى عشق الوطن» وهو عنوان الكتاب الذى كتبه عنه وأصدره عقب وفاته الأستاذ يوسف الشريف فى بداية التسعينيات.
ويصفه الشريف فى كتابه بأنه مثل: شجرة الجميز حينما كانت أبرز معالم الجمال فى الريف المصرى، والتجسيد الحى لتقاليده العريقة فى الجود والكرم، كانت شجرة زكريا الحجاوى الثقافية تذكرنا بحكيم الصين العظيم كونفوشيوس، فقد زرع نبت شجرة قبل وفاته منذ 3 آلاف عام، ولا تزال حتى اليوم عفية ومورقة، حتى يسعد الصينيون ويفخروا بكنوز اكتشافاته لموروثهم الشعبى والحضارى الزاخر بالحكمة والخير والجمال.
كان قلبه ينبض دوما بمصر وبالإنسان، فأحبته مصر وأحبه الإنسان فيها، بحث فى أرضها عن الأصالة وفى طينها عن العراقة والقدم والفن الأصيل والتراث الضائع، عن حضارة غير مكتوبة على شاطئ نيلها، فاصبح راهبا فى محراب الفن الشعبى وشيخ مشايخه ومكتشف أسرار العاشقين والفنانين الذين ألهبوا القلوب بحب مصر.
ويروى- كما جاء فى كتاب «موال الشجن فى عشق الوطن»- أنهم عرضوا عليه ذات مرة أن يكون وكيلا لوزارة الثقافة فى مصر، فأبى ورفض وقال لهم: «أنا رجل مكتبى على قارعة الطريق ولا حاجة لكم بمثلى، ضرب فى البلد شرقا وغربا وجمع أهل الغناء وأهل الرقص وأهل الريف».
ويؤكد هذه الرواية رفضه عرض وزير الإرشاد القومى «الثقافة لاحقا» فتحى رضوان، أن يسافر فى بعثة علمية إلى يوغوسلافيا ليتأهل بدراسة أكاديمية تساعده على إنجازه الذى كان قد بدأ فيه.
أصبح رائد الأدب الشعبى فى مصر، ولعب دور المثقف العصامى الذى أفنى عمره وبدد جهده ورزقه المتواضع حتى يظل «سندباد مصر» الذى جاب حقولها وصحاريها – بشهادة صديقه الأديب يحيى حقى – باحثا عن موال أو شطرة من مطلع موال أو أسطورة منسية وربما صوت شجى أو مرجعية فى الأدب والفن الشعبى.
ونجح فى تقديم التراث الشعبى المصرى عبر وسائل الإعلام الحديثة كالصحافة والإذاعة والتليفزيون.
زكريا الحجاوى لم يكن مجرد كاتب أو أديب أو صحفى، بل موسوعى ملهم منذ نشأته.
هو من مواليد 4 يونيو 1915 فى المطرية بالدقهلية، وبدأ دراسته فى بورسعيد، ونال الابتدائية بتفوق، فكان الأول على مديرية القنال، والتحق بعدها بمدرسة الصنايع البحرية بمدينة السويس، ثم بمدرسة الفنون والصناعات الملكية فى القاهرة، واشترك فى أنشطة الطلاب الثورية، وبلغ نشاطه حدا دفع حكومة الوفد نفسها إلى تحديد إقامته فى قريته.
ويذكر أن الحجاوى عمل فى بداية حياته موظفا بمجلس مدينة الجيزة عام 1947، ثم فى وزارة الداخلية.
قضى آخر سنوات حياته فى قطر التى سافر إليها سنة 1971، للعمل كمستشار وزارة الإعلام القطرية، وهناك أسس مركزا لتجميع الفنون الشعبية، وتوفى هناك فى 7 ديسمبر عام 75، عن عمر يناهز الستين، وبعد وفاة الحجاوى كرمته الدولة ومنحت اسمه شهادة تقدير من أكاديمية الفنون.
ويعتبر زكريا الحجاوى مكتشف العديد من الفنانين الشعبيين، أشهرهم محمد طه، وخضرة محمد خضر، وأبو دراع، وجمالات شيحة، وكثير من الفنانين الشعبيين من قرى ونجوع مصر، الذين أصقل مواهبهم حتى أصبحوا نجومًا فى سماء الفن الشعبى، وتزوج من الفنانة خضرة بعد ذلك، وله دراسات علمية عن الفن الشعبى المصرى وهو صاحب فكرة مسرح السامر والثقافة الجماهيرية ويعتبر من رواد الكتابة الإذاعية، ورائدا فى تقديم السير الشعبية التى أصبحت بفضله من أشكال الفن الإذاعى حيث بلغـت أعمـاله الإذاعيـة 60 عملا منهـا: أيوب المصرى - كيد النسا - سعد اليتيم - ملاعيب شيحة.
قدم للتليفزيون العديد من الأعمال منها : سيد درويش-أدهم الشرقاوى، قدم للسينما العديد من السيناريوهات وحوارات الأفلام منها، أحبك يا حسن بطولة نعيمة عاكف وشكرى سرحان، له العديد من المؤلفات منها: «قاع النهر- يا ليل يا عين»، ومسرحيات «ملك ضد الشعب، نهر البنفسج، حكاية اليهود، موسوعة التراث الشعبى الجزء الأول»، ودراسات علمية نشرها فى مجلة الرسالة الجديدة عن الفن الشعبى المصرى، حيث تعتبر أولى الدراسات العلمية فى هذا المجال.
ولاقت أعماله استحسانا كبيرا، واكتسبت شعبية جارفة، فكان الناس يلتفون حول أجهزة الراديو فى البيوت والمقاهى، فى أوقات إذاعتها، ويرددون أغانيها، حيث وجدت صداها فى وجدان عموم الشعب بكل طبقاته، لكشفها الجوانب العميقة من الهوية المصرية.
وكان للمديح النبوى، والمواويل والبكائيات والعمارة جانب من اهتمامات زكريا الحجاوى، ولاقت أعماله استحسانا كبيرا من قبل الجمهور، وترك بصمة كبيرة على مدار مشواره الفنى.
وهو أول من نادى بإنشاء قصور الثقافة، وأول من عمل على إنشاء معهد الفنون الشعبية، وأول من أنشأ الفرقة القومية للفنون الشعبية.
كانت جولات زكريا الحجاوى الدائمة فى المحافظات للكشف عن المواهب فى الفن الشعبى، حتى عرف بعاشق المداحين، ما أتاح له التعرف على المجتمع المصرى.
لم يحصل زكريا الحجاوى سوى على دبلوم الصنايع، لكن ثقافته العامة كانت تفوق مَن يملكون أعلى الشهادات، ما جعله مدرسة مؤثرة فى الحركة الثقافية؛ فهو أحد رواد جمع التراث الشعبى فى مصر، ومن أكثر المهتمين بالفن الشعبي، فأعاد الحياة للمصريين بفنه بعد النكسة بالطرب والغناء الشعبى والسامر.
عمل فى الصحف المصرية منذ أوائل الأربعينيات من القرن العشرين، ومن أهم الصحف التى عمل بها المصرى والجمهورية، حيث عمل سكرتير تحرير لجريدة الجمهورية تحت رئاسة أنور السادات، ولأنه كان قد آوى السادات فى بيته عند هروبه بعد اتهامه بقتل أمين عثمان، فكان ينادى السادات بدون تكليف، ففصله السادات من الجريدة التى كان يعشقها، واتهمه بكتابة تقارير عنه لعبدالناصر، فصُدم الحجاوى صدمة شديدة ولم يعد إلى الصحافة مرة ثانية، رغم أن كل من كان بالقرب من السادات يؤكد أنه لم يؤثر أديب أو فنان فى رؤية الرئيس السادات للعالم والحياة كما فعل صديقه زكريا الحجاوى، وأنه ألهمه سيرة البحث عن الذات.
ومن مفارقات القدر، أن الحجاوى مات فى عهد السادات مغتربا فى قطر، وفى عبقرية الحياة، سنجد فيها قصة مشاركة الحجاوى لـ.. محمد على ماهر فى تهريب الرئيس السادات من مستشفى قصر العينى أثناء اتهام السادات باغتيال أمين عثمان 5 يناير 1946، وأخذه إلى منزله فى المطرية وبقى فيه شهورا..!
بعد الصحافة اتجه إلى الفن الشعبى وقد حرمته الظروف من أن يتم تعليمه بالحصول على المؤهل، لكنه عوض هذا بتعليم عميق وثقافة واسعة أكسباه منهجا فكريا متميزا.
كتب زكريا الحجاوى وهو لا يزال طالبا، عددا من الأوبريتات والمسرحيات الغنائية قدمتها فرقتا أوبرا ملك، وأحمد المسيرى، ونفذت مسرحياته بنجاح كبير.
كذلك نبغ زكريا الحجاوى فى كتابة القصص القصيرة، وعمل زكريا الحجاوى بالصحافة، وكتب فى «روز اليوسف» و«الرسالة»، وفيما بعد فى «القاهرة» و«الجمهورية»، وكان من أبرز نجوم جريدة «المصرى» الوفدية، وشارك فى تحويلها إلى منبر ثقافى عريض القاعدة، ورفيع المستوى.
فعقب قيام ثورة يوليو 1952، اتجه زكريا الحجاوى لعمل مسح شامل للقطر المصرى لجمع الفنون الشعبية من مصادرها، واكتشف خلال ذلك العديد من المطربين الشعبيين مثل خضرة محمد خضر ومحمد طه ومحمد أبو دراع وإبراهيم خميس وفاطمة سرحان وجمالات شيحا.
وحكاية اتجاهه واهتمامه بالفنون الشعبية بدأت مع تكليف الأديب يحيى حقى عقب ثورة يوليو، بتقديم مجموعة من أعمال الفنون الشعبية، وكان هذا اللون لا يجيده، فاستعان بزكريا الحجاوى، وطلب منه الوقوف بجانبه من خلال تقديم مجموعة من الأعمال الفنية الشعبية للثورة، وقدموا العديد من الأعمال الناشئة للقطاع الناشئ، ثم كلفه حقى بتقديم عمل فنى كبير وضخم يتم من خلاله خدمة الفنون الشعبية، وبالفعل قدم أوبريت «يا ليل يا عين» الاستعراضى الغنائى الراقص الشعبى موسم 1957، من تأليف أحمد على باكثير وزكريا الحجاوى، وشارك فى بطولتها نعيمة عاكف، شهر زاد، محمود رضا، محمود شكوكو، وعبدالحفيظ التطاوى، وإخراج زكى طليمات، حيث ذهب فى رحلة طويلة فى البحث عن عازفين، ومؤدين، وملحنين لهذا الأوبريت، حتى عاد بعدد كبير من الفنانين.
وعندما تولى زكريا الحجاوى الإشراف على فرقة الدولة للفنون الشعبية منذ 1962، منحها خلاصة تجاربه وحياته دون أن يبحث عن مغانم أو حقوق إبداع، وعمل مدرسا بمعهد السينما 1965، وبفضله أصبح للفنون الشعبية حضورا قويا فى ساحة النشاط الثقافى، بل لاحت أمام هذه الفنون الفرصة لتمثيل مصر فى مهرجانات عالمية وإحراز جوائز رفيعة ومتقدمة.
ويعد الحجاوى صاحب الفضل الأول فى انضمام الفنانين الشعبيين إلى نقابة المهن الموسيقية، وجعل لهم اعتمادا فى الإذاعة المصرية، إضافة إلى اعتماد أجور أساسية للفنان الشعبى، قدم فى بداية مشواره مجموعة من المقالات والتحقيقات عن الحرف اليدوية التراثية والسير والحكايات الشعبية، وكانت الإذاعة المصرية تحويه وخاصة الدراما الإذاعية، حتى قرر أن يقدم رائعته الشهيرة «أيوب المصرى» ولاقت نجاحا كبيرا وينتظرها الجميع أثناء إذاعتها، ذاع صيته بشكل كبير فى الإذاعة المصرية، حتى أصبح الأب الروحى فى الأدب الشعبى. وتشكل المقتنيات الخاصة بالجماعة الفنية، التى يحتفظ بها متحف المركز القومى للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، إرثا فنيا ضخما، نظرا لما يحفظه من تاريخ يمثل حركة وتطور الفنون المسرحية والموسيقية والغنائية بشكل كبير.
وتظل مقتنيات الفنان تخليدا لذكراه، فقد كان الفنان زكريا الحجاوى أشهر من جمع التراث الفنى الشعبى المصرى ومؤسس مسرح المقطم للفن الشعبى، وأول من قدم أوبريت الفن الشعبى على مسرح الأوبرا فى 1957، جمع ما يقارب الـ72 ملحمة شعبية، واكتشف خلالها أشهر الفنانين الشعبيين، طاف بهذا الفن داخل مصر وخارجها، وأقنع معظم الفنانين بالانضمام لفرقته أو أى فرقة غنائية، واستطاع أن يقوم بعمل مسح جغرافى لمصر، وذلك لجمع كل كلمة ألقيت فى التراث الشعبى.
يتمثل إنجازه الأكبر فى ريادته الفنون الشعبية.. اكتشافا.. وتأريخا.. وتأصيلا.. وتهذيبا.. وتطويرا، وهو بلا خلاف أهم الرواد الميدانيين للفنون الشعبية العربية جميعا، وقد مارس فى عمله أرقى أساليب البحث العلمى دون ادعاء، ونفذ كثيرا من خطط المسح العلمى بحثا عن التراث الشعبى فى الموسيقى والغناء فى جميع أنحاء الوطن، وكان يؤمن عن حق بأن الإبداع الفنى الحقيقى ليس هو ما كتبه المثقفون أو ما نشر فى الكتب، لكنه إبداع رجل الشارع، وقد تمكن من جمع أكثر من اثنين وسبعين ملحمة شعبية، وإليه يرجع الفضل فى بعث كثير من فنوننا الشعبية التى تمكن من العثور عليها فى مسوحه الجغرافية، وقدم من صور هذه الفنون: الرقص، والغناء، والمواويل، والبكائيات، والأراجوز، وخيال الظل، والسامر، والألعاب، والحواديت، والأساطير، والموالد، والأفراح، كما نجح فى تسجيل المدائح حتى سمى «عاشق المداحين»، كما جمع الأمثال والحكايات الشعبية، والملاحم والسير بألحانها البدائية بأصوات الباقين من أصحابها قبل انقراضهم.
وأثناء رحلاته فى قرى ريف مصر اهتم بكل الإبداع الشعبى، من المديح النبوى إلى الأغانى والسير الشعبية والرقص الشعبى، والمواويل والبكائيات والعمارة وغيرها، وذكر فى كتابه «حكاية اليهود» إن أولى رحلاته كانت إلى شمال سيناء والقنطرة والبردويل ورفح وغزة ثم فلسطين، سنة 1941،ورحلته الثانية فى 1949، عبر الصحراء الشرقية من إسنا إلى القصير، ثم إلى دير سانت كاترين، ومنحه عمله فى مصلحة الفنون 1954 فرصة أقوى، ومدعومة ماديا، للطواف بأقاليم مصر لجمع الرقصات الشعبية وعرضها على مسارح البلاد 1956، وجمع «يا ليل يا عين» من فم «ياقوت الحلاق» بالإسكندرية، وصاغ منه مسرحية، واستلهمه الراحل الكبير «يحيى حقى» عنوانا لأحد كتبه، وبهر الأوبريت الجماهير فى مصر وسوريا عند عرضه لأول مرة.
ومعروف أنه قدم فى هذا الأوبريت الفنانة «نعيمة عاكف»، والفنان «محمود رضا»، بطل «فرقة رضا» المعروف، وكان وقتها لا يزال شابا صغيرا يعمل فى «شركة السويس للبترول»، وكذلك استعان الحجاوى بـ «عبد الحليم نويرة»، و«على إسماعيل» لقيادة الفرقة الموسقية.
ولأنه كان يقيم فى الجيزة، اتخذ مجلسه الأساسى فى مقهى «عبدالله»، واجتذب إليه المثقفين والكتاب من مختلف الأجيال، والتخصصات، ومنهم «نعمان عاشور»، و«محمود السعدني»، و«سمير سرحان»، وعشرات غيرهم. فقد كانت ندوات الحجاوى فى المقهى الشهير قبل هدمه، تضم أعلام الفكر والفن والأدب والصحافة، تتناول كل شيء وأحيانا كان عدد الذين يتواجدون من زبائن المقهى، أكثر من رواد الندوة يستمعون إليه، فالموضوعات شيقة فى الشعر والموسيقى وحتى النكت التى يتداولها الناس، وكانت سهراتهم كثيرًا ما تمتد حتى الفجر وأحيانًا إلى ما بعده.
كان زكريا الحجاوى أوعى أبناء جيله بغنى التراث المصرى، وأخلصهم للفنون الشعبية، ما مكَّنه من لعب دور جوهرى فى إحيائها، وحفظها، قبل أن تجتاح التكنولوجيا حياتنا، وتحاول العولمة طمس معالم هويتنا الحقيقية.