حالة طمع متوحشة صارت تسيطر على سائقي التاكسي الأبيض، خلال الفترة الماضية، بالرغم من ثبات أسعار الوقود، لدرجة أن بعضهم لم يعد يستخدم "العداد" من الأساس اعتماداً على "كرم الزبون"، أو استغفاله أيهما أقرب، فإن لم تكن تعرف كم تدفع في المسافة التي تقطعها يومياً من وإلى المقصد الذي تتوجه إليه، ستقع حتماً ضحية لضمير أحدهم الخرب، الذي ربما يعطيك تقديراً قد يصل إلى ضعف الأجرة المستحقة فعلياً.. وأنت ونصيبك!
جشع سائقي التاكسي الأبيض لم يعد مرتبطاً بفكرة فتح وغلق العداد فقط، بل إن أحدهم قد يستخدمه، لكن في النهاية لا يقتنع بقيمة الفاتورة، فيعطيك نظرة امتعاض، مصحوبة ببعض عبارات الاستنكار والتمرد، خاصة إن كانت المسافة التي يقطعها في نطاق قريب أو لا تتعدى بضعة كيلومترات، وحينها سوف يلجأ إلى أحاديث من نوعية الحالة الاقتصادية، والوضع العام، وابنته التي يحاول تجهيزها للزواج، ومصروفات الأبناء التي باتت فوق كل احتمالاته، فهذه استراتيجية أخرى لانتزاع الجنيهات من جيبك!
الأسبوع الماضي كنت في إجازة خارج القاهرة، وفور العودة ومغادرة "الباص" في محطة عبد المنعم رياض بالتحرير، بدأت أبحث عن تاكسي، وبخبرتي البسيطة أعرف أن الأسعار التاكسي في هذه المنطقة دائماً ما تكون أكبر من غيرها، فالكل يترقب ذلك القادم من المصيف أو السفر، فالصورة الذهنية لمن يحمل "شنطة سفر"، مازالت تشير إلى أنه قادم من الخليج، حتى وإن كان عائداً من جمصة أو فايد، لذلك أستعد دائماً لدفع "الضعف"، ما دمت أحمل في يدي حقيبة سفر.
المسافة من عبد المنعم رياض إلى منزلي في الدقي تقريباً لا تتجاوز 3.5 كيلو متر، أي أنه وفق الحسابات المعتادة لا يمكن بأي حال أن تزيد عن 25 جنيهاً، لكني عرضت على أحدهم 50 جنيهاً، فما زلت أحمل حقيبة السفر وبصحبتي الأولاد، لكنه رفض تحت دعوى أن المبلغ لا يتناسب مع الرحلة، وسرعان ما جاء سائق آخر، وعرضت عليه نفس المبلغ، فقال 60 جنيهاً، فقلت له ما رأيك أن نعقد صفقة من نوع خاص، أنت تستعمل العداد، و في نهاية الرحلة أعطيك ضعف المبلغ، فوافق على الفور.
تحركنا إلى المنزل، وعين السائق قد تعلقت بشاشة العداد، وكأنه يحاول أن يكسب الرهان ويحصل على الـ 60 جنيهاً، التي طلبها قيمة لمشواره، لكن هيهات.. فالمسافة القصيرة لم تسجل على العداد أكثر من 22 جنيهاً فقط، لذلك يصبح حسابه المتفق عليه 44 جنيهاً بعد مضاعفة الأجرة، فأعطيته الـ 50 جنيهاً، وعيناي مملؤة بالسخرية والشماتة ومن خلفي الأولاد يضحكون بهذا النصر الصغير على "عمو السائق الجشع" الذي ظن أنه سيصيبه الغنى من توصيلة تاكسي!!
الشاهد من هذه القصة القصيرة في السطور السابقة أن الاستغلال والجشع صار علامة مسجلة في كل مظاهر الحياة داخل المحروسة، الكل يضع يده في جيب الآخر، ويطمع دائماً في أكثر من حقه، ويستغل الظروف ويضغط بقوة من أجل حفنة مكاسب وقتية، حتى اتسعت متوالية القهر التي صرنا نمارسها تجاه بعضنا البعض، لتصبح نتائجها أكثر مأساوية وكارثية على المجتمع، خاصة في ظل أزمات الاقتصاد العالمية، وموجات التضخم العابرة للحدود.
حالة الجشع العامة في قطاع النقل الخاص والجماعي انتقلت إلى الشركات الخاصة العاملة في هذا المجال، فقد تم رفع التسعيرة مؤخراً دون إعلان تفاصيل، أو احترام لحقوق العملاء، بل أكثر من ذلك أن حالة السيارات باتت متهالكة وبمواصفات فنية رديئة جداً، بالإضافة إلى دقائق الانتظار الطويلة، واشتراك السائقين في أكثر من تطبيق في وقت واحد، وتأثيرات ذلك على جودة الخدمة، وبالطبع كل ما سبق يتفاقم تأثيره في ظل غياب الرقابة والمتابعة من الجهات المعنية، لذلك صارت أغلب الخدمات التي كنا نرى يوماً أنها نقلة حضارية مهمة على مستوى الجودة والخدمة، إلى وضع غير آدمي ولا يليق، فبات مهماً أن ندرك خطورة ما يحدث.
ما زلت أتصور أن رفع مستويات الوعي لدى الناس أهم سبيل لمواجهة أي مظاهر سلبية في المجتمع، فالرقابة وحدها ليست كافية للوصول إلى الحلول التي نرضاها جميعاً، لذلك يجب أن يسعى الإعلام بدوره إلى توعية الناس، وتقديم المعلومات المناسبة والنصائح المهمة، والتركيز على القضايا الجماهيرية التي تستهدف الصالح العام وتنوير المجتمع، دون ترك هذه المساحة الهامة لوسائل التواصل الاجتماعي، التي وإن كانت تصل إلى الجميع وتعيش داخل كل البيوت، لكنها في الوقت ذاته لا تراعي خصوصية المجتمع، ولا تستهدف سوى الانتشار المحموم.