حازم حسين

مؤتمر السكان والمحنة المُزمنة.. هل تفرض لعنة الديموغرافيا وصايتها على التاريخ؟

الثلاثاء، 12 سبتمبر 2023 02:48 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تقليديًّا ومكرورًا صار الكلام عن أزمة السكان، هنا وفى بلدان كثيرة، ولا يزال غالبية الناس لا يستشعرون حجم الأزمة، وبعضهم يتعمَّد التهوين منها أو اتخاذها منصَّةً للنقد السياسى. الحقّ أن كل تضعيف للأعداد مع قلَّة فى الموارد أبعد ما يكون عن العقل، وكل انطلاق من أنّ «التُّخمة البشرية»، ما بعد الثورات الصناعية والرقمية، عنصر قوّة فى ذاتها مُقاربة خاطئة، إن لم تكن مُوجَّهة وغير بريئة. بين حزمة تحدَّيات تحيط مصر فى الوقت الراهن؛ لعل انفلات الإنجاب أكبر المشكلات وأعمقها، وليس ذلك وليد اللحظة أو خطاب سلطة 30 يونيو وحدها؛ بل كان موضوعًا على طاولة الدولة آخر خمسة عقود على الأقل. قد لا تكون العبرة بالحجم، ولا الخفَّة ميزةً بالضرورة؛ إنما لياقة الدول يحكمها التناسب بين الكتلة والسرعة ومجالها المُتاح، وللأسف بينما يزداد الوزن، تتعثَّر الخُطى ويضيق البراح، ولا تكفى الإمكانات المُتاحة لتعويض الفاقد أو استحصال التوازن المطلوب.
 
كان الرئيس واضحًا فى رسائله، بالمؤتمر العالمى للسكان والصحة والتنمية، الثلاثاء الماضى. لا جدال فى حرّية الإنجاب بوصفها حقًّا شخصيًّا، كما لا خلاف على وجوب تنظيمها بمنطق الموازنة بين الخاص والعام، واختلال المُعادلة يُفضى إلى كارثة. إثارة الموضوع عنوانها «المصلحة الوطنية» لا التهرُّب من التزامات الدولة، وقد وجَّهت 10 تريليونات جنيه للبنية الأساسية آخر ثمانى سنوات.. النظر فى مُؤشِّرات الإنفاق الصاعدة، مُقابل محدودية العوائد الاجتماعية وبطء تحسُّن الخدمات والخصائص السكانية؛ إنما يُشير لانفلات يتولَّد عن عجزٍ مُزمن. ماكينة إنتاج البشر سبقت ماكينات التصنيع والاقتصاد، وظل ذلك عقودًا حتى تغوَّل الماضى والحاضر على المستقبل، وصرنا نخصم من الأجيال المُقبلة لتعويض نزوات آبائهم. الوضع ليس صالحًا للاستمرار، ولا يجب أن نستسلم للغرق فى دوَّامة تغذيها الشعبويَّة وقصور النظر.
 
فى النصف الأول من القرن العشرين زادت مصر 10 ملايين نسمة، وفى الثانى قفزت 46 مليونًا. الرقم نفسه تقريبًا حققناه فى عقدين، منه 25 مليونًا آخر 10 سنوات. لو بقيت مُعدَّلات الخصوبة الحالية سنسجل 120 مليونًا فى 2030، و165 مليونًا فى 2050. صحيحٌ أن الصورة لا تخلو من نقاطٍ مُضيئة: كان مُعدَّل الإنجاب 2.85% فى 2021 وصار 2.1%، تراجع الزواج المُبكِّر من 15 إلى 8%، وعمالة الأطفال من 5 لـ2%، والأُميَّة من 25 لـ12.6%، وقفز استخدام وسائل تنظيم الأسرة من 66 إلى 75%، والالتحاق بالتعليم من 94 إلى 98%، لكن لا يزال الوضع صعبًا، بالنظر لثوابت الاعتقاد والأعراف، وشىءٍ من أثر الذكورية والقبائلية فى الأفكار والمُمارسات. نحتاج على الأقل لترشيق النسبة بما لا يتجاوز 1.6 %، وممَّا نراه مُتسلِّطًا على وعى المجتمع قد لا يبدو ذلك هدفًا قريبًا أو ميسورًا.
 
مؤتمر السكان الذى انعقد بمشاركة نحو 8 آلاف من حول العالم، وبرنامج حاشد يضم 270 مُتحدّثًا فى 65 جلسة، وعدد من الورش، يُمثّل العودة العالمية الأقوى لإثارة الملَّف مُجدّدًا، بعد قرابة ثلاثة عقود من نسخةٍ شبيهة استضافتها القاهرة أيضًا عام 1994، وضمَّت 11 ألفًا من 179 دولة، تخلَّلتهما جولة محدودة الحجم والأثر فى كينيا 2019. بدأت فكرة مُؤتمرات السكّان عام 1954 فى روما، تبعتها عدّة نُسخ: بلجراد 1965، بوخارست 1974، مكسيكو سيتى 1984. يمكن القول إن نسختى القاهرة كانتا الأهم والأكثر زخمًا فى المسيرة الطويلة؛ ربما لأن مصر فى طليعة المُتضرِّرين من الأزمة، لذا أكد الرئيس استعدادها لتنظيم الحدث سنويًّا. الرسالة أن المشكلة عالمية، بالانفلات فى دولٍ أو النُّدرة فى غيرها، بعد 7 عقود، يُمكن القول إن الحصيلة أقل من المطلوب، العالم عند عتبة 8 مليارات مُرشَّحة لأن تكون 10 فى 2050، وهناك مجتمعات شاخت وأخرى يخنقها الزحام، بينما تُعمِّق أزمات الاقتصاد وصراعات التجارة والأقطاب الكبرى من فداحة المحنة المُزمنة.
 
أفريقيا على محكٍّ بالغ القسوة. تعدادها 1.4 مليار يتخطَّون 17% من سكان العالم، ونصيبهم دون 3% من ناتجه، والمُتوقَّع أن تضيف القارة مليار نسمة بحلول 2050. يُمثّل الأمر تحدِّيًا حقيقيًّا للأفارقة والعالم، لا سيّما لو ربطناه بالمُستهدفات الاقتصادية والتزامات الأسواق الرائدة تجاه دول الجنوب، على ضوء أجندة التنمية المستدامة التى اعتمدتها الأمم المتحدة 2015 فى 17 بندًا، وبعد انقضاء أكثر من نصف المُدّة لم تُنجز أغلب برامجها، فيما يخص القضاء على الفقر والتمييز وسوء المعاملة، أو إنقاذ البيئة وعدالة التنمية. فجوة التمويل الآن 272 مليار دولار سنويًّا فى القارة، و1.3 تريليون بحلول 2025 فى مجموع الأسواق الناشئة ومُنخفضة الدخل، وبمُعدَّلات النمو السكَّانى الحالية فلن تضيق الفجوات القائمة بالطبع، كما لن تبقى على حالها؛ إذ يتعمَّق الجرح بتحلُّل دول الشمال ومُؤسَّسات «بريتون وودز» من مسؤولياتها، وتضخُّم كُلفة التمويل والديون مع عجز المساعدات وبرامج الدعم، وتصدير أزمات القوى الكبرى لمجتمعات الفقراء، على إيقاع موجات التضخُّم وقيود التجارة وإرباك سلاسل التوريد، والأخطر تسييس موضوعات التنمية وإخضاعها لتأثيرات الاستقطاب والمواجهات الخشنة فى البيئة الدولية.
 
أضاعت مصر عقودًا فى مُراقصة قضية السكان؛ وكان باديًا أنها لا تستشعر خطورة الملف، أو تتعاطى معه برفاهيةٍ لا يحتملها السياق. منحنى النموّ منذ 1950 للآن يُغنى عن أى نقاشٍ أو نقد، حتى عندما أطلقت حملات توعية مُوسَّعة بدءًا من الثمانينيات، لم يكن الموقف ضمن رؤية شاملة لمُعالجة القصور وسدِّ الثغرات؛ فظلَّت الجهود الإعلانية قاصرةً عن تحصيل أثر ملموس، وقد بقيت خطابات الوعظ والترييف جامدةً. بدت الجدّية فى إطلاق «الاستراتيجية القومية للسكان 2015/ 2030»، لكن أثرها فى ثمانى سنوات أقل ممّا كان مأمولاً، ما دعا لتحديثها وإطلاق «الاستراتيجية الوطنية 2023/ 2030». تضع الدولة يدها على المشكلة، وتتحرَّك لتفكيكها؛ لكن بعض أدواتها مُعطّلة أو تعمل فى مسارٍ مُعاكس. ربما لهذا دعا الرئيس فى حديثه إلى أن تشتبك النُّخب الدينية والثقافية والاجتماعية مع القضية، وأن تلعب دورًا جادًّا لترقية الوعى، وإغلاق الأبواب الخلفية التى يلتف منها البعض على طموحات ضبط التمدُّد البشرى، وصياغة مُعادلة عقلانية مُثمرة بين رغبتنا فى إنتاج البشر، وحاجتنا لبشر مُنتجين.
 
تتأسَّس الخطَّة الجديدة على 7 محاور. وأهم ما فيها أنها تُوازن بين حقوق الإنجاب ومُقتضيات التنمية، وبينهما التعليم والاستثمار فى البشر، ودور المرأة، وحوكمة ملف السكان. المعضلة أن عناصر القضية مُركَّبة ومُتشابكة دائريًّا: الزيادة المُنفلتة تضغط على المُوازنة؛ فتضرّ التعليم والصحة والتنمية والخدمات، أمّا تراجع تلك الروافع فيُؤثِّر على الخصائص السكانية ويزيد البطالة ويُبقى الرواسب القديمة؛ لتصبح بدورها سببًا فى مزيدٍ من الإنجاب. الدخول من أيّة حلقة لا يكفى لتفكيك السلسلة، لذا فإن كل الجهود الحالية لترقية الصحة والتعليم، وما هو أكبر منها حجمًا وتمويلاً، لن تُؤتى ثمارها ما لم تتبدَّل الثقافة، كما لا فرصة لتعليمٍ جيد وصحة مثاليّة دون تعدادٍ معقولٍ وينمو بانضباط. هكذا لا يكون الأمر مسؤوليةَ الدولة بالكامل، ولا على عاتق الأفراد وحدهم؛ إنما هو امتحان جامع يتطلَّب موقفًا تضامنيًّا. يُمكن أن يُوفِّر المؤتمر رؤىً مُعمَّقة وأفكارًا علمية، وتتيح «استراتيجية السكان» خططًا وبرامج عمل لا غبار عليها؛ لكن يظل أساسيًّا أن يُؤمن المجتمع بالغاية، وأن ينخرط فى ورشة العمل عليها بجدّية واقتناع.
الملف من زاوية أنه سؤال عالمى راهن، يحتاج أجوبةً وطنية ودولية مُتجانسة. تقع فى القلب منها موضوعات: التمويل والتجارة والتنمية ونقل المعرفة وسياسات اللجوء. المجتمعات الشائخة تعانى تضخُّم فاتورة الرعاية الصحية والضمان الاجتماعى، مع عجز الأيدى العاملة وقدرات الإنتاج، ومصانع الأطفال تتكبَّد عبئًا مُرهقًا فى الخدمات والرعاية الأولية ومُعدَّلات الإعالة. وبينما تتّجه الأولى لتعديل سياسات الإنجاب شديدة التحفُّظ، تعانى الثانية فى ضبط سياساتها شديدة الانفلات. ربما يسمح التعاون المرحلى بتخفيف أعباء الطرفين، عبر الإزاحة وإعادة التوزيع الديموغرافى، مع استكمال العمل على حوكمة النمو وتحسين خصائص السكان. المُنطلق هنا ليس وليد براجماتية رومانسية، إنما يستهدف تنظيم حالة قائمة بالفعل، وقد باتت كثير من الدول تشكو تدفُّقات الهجرة غير المُنضبطة، بينما لو وُضِع ذلك تحت لائحةٍ مشمولة بمواصفاتٍ انتقائية؛ قد يُسرّع وتيرة التحوُّل الثقافى، ويُخلخل البيئات المزدحمة، بما يُحقّق انتقالاً حضاريًّا، وفوائض مالية يُعاد توجيهها لهيكلة الديموغرافيا.
 
 
الخروج من الخندق ليس سهلاً. بدأت الصين تجربتها فى 1968 واحتاجت 5 عقود للتوازن؛ ثم الرجوع جزئيًّا عن سياسة الطفل الواحد فى 2017. مصر وغيرها من الدول المأزومة قضت تلك السنوات فى عُمق المحنة، وتحتاج مثلَها لرفع ركام التهاون الطويل والإخفاقات المُتلاحقة. قال وزير الصحة إن كل جنيه يُنفَق على تنظيم الأسرة يُوفّر 151 جنيهًا من أعباء الصحة والتعليم والغذاء. المخصَّصات الحالية دون المليار، ومُضاعفتها عشر مرّات مثلاً تُحرّرنا من فواتير اضطرارية مُستقبلاً بـ1.5 تريليون جنيه، وتشطب قدرًا من الميراث القديم و«أصل الدَّين»؛ لكن المشكلة أن الموارد محدودة، وكل رَفعٍ هنا سيُقابله خفضٌ فى خدمة أو استثمار، وما يُمثّل احتياجًا وجوديًّا للدولة يعتبره البعض مساحةً للكيد أو التحدِّى، وبين التزام أن نرعى الواقع على حالته، أو نتطلَّع للمستقبل كما نتمناه، تضيع للأسف كثير من الفرص والأولويات.
 
لم نعد فى فسحةٍ من الوقت والطاقة. والعالم إن شاركنا بحث الأزمة؛ فإنه لن يتولَّى حلَّها بدلاً منّا. المؤتمر بالغ الأهمية من زاوية وضع الملف على الطاولة الدولية، وفرز المسؤوليات والالتزامات، والاستضاءة بالتجارب وخبرات المُتخصِّصين من كل الدنيا، كما أسفر عن توصياتٍ مُهمَّة، بشأن التنسيق من خلال المؤسَّسات والمحافل الأُمميّة، وإعادة ضبط المصطلحات وتخطيط الأدوار بين الحكومات والمجتمع المدنى ومسؤوليات الأفراد؛ إنما لا يغنى ذلك عن رؤيةٍ وطنية وبرامج عمل محلّية، تضع فى اعتبارها أنها تخوض حربًا فردية من دون مُساندةٍ خارجية. كما يتعيَّن أن نراجع محفوظاتنا وتجاربنا القديمة؛ كان يُرَدّ دائمًا على مسألة تقييد الإنجاب قانونًا بأنها صدامية وقد تُنتج أثرًا عكسيًّا، وعلى إقرار غرامات بأنه يضر الأطفال لا الكبار. الحقيقة أن غياب التشريع لم يمنع المسار العكسى أو يكبحه، والتسامى على العقاب شجَّع الانفلات وأضر الصغار أيضًا، بعدما أنجبهم آباء مُستهترون وعاجزون عن إعالتهم. يجب أن تُسرع الدولة خطاها بالتوازى مع إبطاء عجلة المجتمع، حتى يقع التوازن وتتحقَّق الفوائض الكافية لإحداث انتقالة نموٍّ حقيقية فى الحجم والنوعية.
 
إن كنا راغبين فى صيغةٍ مُنضبطة فعلاً؛ فلا بديل عن منطق الثواب والعقاب، وعن تحديث الرؤى وتطوير الخطابات. سياسة الإنجاب يجب أن يُرافقها ضبطٌ وحوكمة، مع مزايا للمُلتزمين وأعباء على المُخالفين، ويمكن تخصيصها بشكلٍ نوعى بما لا يطال المواليد، وحتى لو تسبَّبت فى بعض تأثيرات سلبية، فإنها على الأقل قد تمنع الآباء من الذهاب إلى الطفل الرابع أو الخامس. وليس مقبولاً أن يستمر بعض الخطاب الدينى فى استدعاءاته السطحية عن فضل التناسل، ولا أن تُطبِّع الدراما والفنون مع الانفلات؛ بطرح نماذج إيجابية للأُسر كثيفة العدد، مع إعداد رؤية شاملة للخطاب السكانى ودمجها فى كل صور الاتصال، وفى مناهج التعليم، والنظر للخصائص والتوزيع الديموغرافى بحسب المدن وطبيعتها، بمعنى أن تكون السياسات مُخصَّصة، وتراعى طبيعة الاقتصاد والعمران والفرص الحالية والمستقبلية فى كل منطقة. دور الرائدات الريفيات مُهم؛ لكنه يحتاج تطويرًا شاملاً، مع الاستعانة بالجامعيات وتأهيلهن بصورة مُتقدّمة، والإتاحة المجانية الكاملة لخدمات الصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة، ومنح مزايا مهنيّة ومالية للعاملات، والتوسُّع فى تعليم الفتيات وتشغيلهن وإمدادهن بمنحٍ وبرامج دراسات عُليا.. المرأة مفتاح الحل بمزيدٍ من التمكين، والرجل سرّ الأزمة وعلاجه الإغراء أو التخويف. والدولة المُتضرِّر الآن والرابح الأكبر من أىّ تحسُّن غدًا، وقد اكتشفنا بين المؤتمرين العالميين «1994 و2023» أن الأزمة أكبر من عدد الجلسات وأعداد المُتحدِّثين، والمنظومة الدولية أبطأ وأوهن من أن تبتكر المخارج السليمة وترعاها، وحتى لا نلتقى بعد 29 سنة أخرى على وضعٍ أسوأ، ولا تفرض الديموغرافيا وصايتها على الجغرافيا والزمن، وما سيكون تاريخًا؛ يجب أن نعدو الآن بأقصى سرعة، وأن نكون أجرأ على المُكاشفة بالأزمة وإنفاذ الحلول، بجدّية وتعقُّلٍ وصرامة.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة