كأنها مواسم محفوظةٌ تتجدَّد فى الزمن. أصبح تعامل إسرائيل مع ذكرى حرب أكتوبر وملفَّاتها رتيبًا مُكرّرًا، ويستهلك الأكاذيب القديمة أكثر ممّا يُوفّر جديدًا عن فاصلٍ تاريخى وحيد، هُزمت فيه عصابة الاحتلال وانتصر طرفٌ من دُول الطوق؛ وكان نصرًا مُستحَقًّا وكاملاً بالحرب والسلام. أحدث الحلقات ما استحضره إعلام «تل أبيب» من محفوظاته الباهتة ضد أشرف مروان، تحت لافتة الإفراج عن وثائق ظلَّت طىّ الكتمان لخمسة عقود؛ لكنها عندما حُرِّرت من غُرف الأرشيف المُظلمة لم تُقدِّم غير ما بات معروفًا ومقطوعًا به: نجح المصريون فى إدارة معركة سياسية وعسكرية لامعة، وأنجزوا واحدةً من أروع خطط الخداع الاستراتيجى، وامتلكوا المُبادأة فى الميادين الخشنة والناعمة على السواء؛ فاستعادوا الأرض وفرضوا صيغةً مُتوازنةً للتهدئة؛ وفوق كل ذلك كشفوا ضعف منظومة الخصم واهتزاز أجهزته وقادته؛ رغم كل ما بُذل منه، بدعائيّةٍ واستماتة، لتسويق سرديَّة مُصطنَعة عن الكفاءة والسيادة الكاسحة.
عُقدة الإسرائيليين أنهم خُدِعوا أوّلاً؛ ثم كان من نتاج ذلك أن تلقّوا ضربةً مُوجِعة، وبفضل التصحيح المُباغت لموازين القوى، وجدوا أنفسهم مُضطرِّين لقبول تسوية أقل كثيرًا من أطماعهم. كل ما تلا ذلك من دعايةٍ وتزييف كان بغرض التعويض النفسى، وتجفيف نزيف الكرامة الجريحة بعدما تصدَّع جدار حمايتها، وتوسَّعت فيه الثقوب والثغرات. تستند استراتيجية الدولة العبرية إلى آليات الردع المعنوى، وتلجأ فى ذلك لاختلاق صورةٍ ذهنية وحَشوها فى أدمغة الخصوم؛ لتثبيط عزائمهم أو إبعاد فكرة المُواجهة عن أذهانهم. هكذا برزت خطابات التفوُّق والفوارق العسكرية، وحكاية الجيش الذى لا يُقهَر، وخطّ بارليف الذى تجاوز «ماجينو» الفرنسى ليُصبح أعتى التحصينات مُستحيلة العبور. ربما كانوا يعون فى البداية أنهم يصطنعون حربًا نفسيّة؛ لكنهم تورَّطوا فيها لاحقًا إلى حدِّ تصديق الكذبة. مسألة أشرف مروان ليست مُختلفة؛ إذ أوهموا أنفسهم بإحراز اختراقٍ عند أرفع مستويات السلطة والقيادة؛ ثم انكشفت الخديعة وتجدَّدت الهزيمة المعنوية؛ ومثل أيّة صدمة يلجأ المكروب للحِيَل الدفاعيّة، بالإنكار حينًا أو بالتوهُّم والإيهام أحيانًا.
بدأت حكاية «مروان» بزيارة السفارة الإسرائيلية فى لندن. يختلف الثَّبْت فيها بين أعوام 1968 و1969 و1970. المهم أنه فجَّر مفاجأته الصادمة بعرض خدماته، واستجابت مُخابرات العدو بعد أخذٍ وردّ. لعلَّها فسَّرت الأمر بأثر المُعاملة المُتحفِّظة من الرئيس عبدالناصر لزوج ابنته، أو بضيق الصهر الشاب من تحوُّل دَفّة النظام مع السادات، ولعلَّها رأت تقرُّبه للرئيس الجديد ثأرًا من القديم أو انحيازًا له، وفى الحالين؛ فإن لديه على الأغلب شعورًا عدائيًّا تجاه التركيبة الناشئة، التى تدرَّج فيها حتى صار سكرتيرًا للمعلومات ثم مُستشارًا للاتصالات الخارجية. هكذا برّرت لنفسها ابتلاع الطُّعم، أما الاحتمال الأقوى والأكثر منطقية بأنها كانت مُناورةً مصريّة محسوبةً، تجاهلته أجهزة إسرائيل تمامًا؛ ربّما تحت ضغط الحاجة لكسبٍ معنوى كبير، وثِقَل العجز عن صناعته بقُدراتها الفعليّة. كانت «تل أبيب» تحت سطوة الوهم لدرجة أنها اشترت الخدعة بسعرٍ عالٍ، وملأت صدرها بنشوة الفوز؛ حتى لم يعد فيه مكان أو قدرة على ابتلاع المرارة المُغلَّفة بطبقة سُكّر.
ليس من المنطق إطلاقًا افتراض أن شخصًا بحيثيّة «مروان» يمكن أن يضرب المنظومة الأمنية فى عُمقها، وداخل أهم مقرَّات السياسة والإدارة فى بلدٍ بقدر مصر، أو أنه قادر على إخفاء اتّصالاته بالعدوّ الاستراتيجى هنا أو فى أيَّة عاصمة، فضلاً على أنه من بيتٍ عسكرى، وشغل مواقع فى مرافق التصنيع الحربى، واقترن بابنة رئيس وبمكتب رئيس من نوعين مختلفين تمامًا، وهو مسارٌ أقرب للاستقامة بالطبيعة وكافٍ جدًّا لكشف الانحرافات حال وقوعها. ولأنه على درجةٍ رفيعة من الأهمية؛ فإنه محلُّ مُتابعة مُستمرّة ولو لغرض التأمين على الأقل. تلك أوّل ثغرةٍ فى بِنية التخليقة الإسرائيلية، أما الثانية فتبدأ بالتقدير والاحتفاء من السادات، ثمّ «مبارك» وكان بينهما عناقٌ حار فى لقاءٍ شهير مطلع الألفية، مع حرّية واسعة فى الحركة بعدما تحوَّل للتجارة والاستثمار، وأريحيّة فى السفر والعودة، ورسائل إيجابية رصينة من الدولة عندما سرَّبت إسرائيل اسمه، وصولاً إلى جنازة رسمية بتمثيلٍ من أرفع مستويات السلطة.. والخلاصة، أن الرجل لم يكن محلَّ شكٍّ من المُؤسَّسات الوطنية، لا فى حياته ولا بعد الرحيل، وليس اللغط العبرى المُتكرِّر عنه سوى استهلاكٍ محلّى، يستمرئ الوهم ويُكابر فى الاعتراف بالفشل، وفى ذلك لا ينطلق من معلومةٍ ولا شُبهة أو تحليل؛ بقدر ما يُواصل حروبه النفسيّة الخفيفةَ؛ لتحصين جبهته الداخلية بالأساس.
أفاقت «تل أبيب» من صدمة أكتوبر على واقع أنها كانت نمرًا من ورق، وأن كثيرًا ممّا اعتبرته عناصر قوَّةٍ هو أقرب للضعف والاختلالات. تحقيقات «أجرانات» كشفت عن قصورٍ كبير فى عقل الدولة، وبين أجهزة الأمن والسياسة، وفى كفاءة أنظمة المعلومات وقنوات اتصال الجيش والاستخبارات. خرجت فضيحة الضابط «يهودا جيل» إلى العلن، بعدما تبيَّن أنه لفَّق تقارير عن عميلٍ مزعومٍ على الجبهة السورية، فتضخّمت المخاوف من تعدُّد صفقات شراء الوَهم؛ ومن وقتها صارت قصّة أشرف مروان مثار توجُّسٍ عميق. وبينما وقف «الموساد» وحيدًا فى الدفاع عن سرديَّة العميل الاستراتيجى، تعدَّدت روايات الشاباك و«أمان» والسياسيين والعسكريين والإعلام عن أنه عميلٌ مزدوج، زرعته مصر ونجحت فى خداع إسرائيل. كتبت صحيفة معاريف: «لقد أفشلَنا فى حرب أكتوبر.. وترك بقعةً سوداء تُلوّث تاريخ الجاسوسيّة؛ بعدما جعل المُؤسَّسة أُضحوكة».
ربّما لهذا بدأ تسريب بيانات «مروان» من التلميح فى محاضر أجرانات ومذكرات إيلى زعيرا 1993 وتقارير ومعالجات الصحافة، إلى التصريح باسمه علنًا فى 2002، على عكس الثوابت الاستخباراتيّة فى صيانة سريَّة المُتعاونين. كان الغرض استفزاز القاهرة لتُعلن سرديَّتها الخاصة، وكان المعنى أن «تل أبيب» فى حيرةٍ منزوعة اليقين، والأقرب أنها نفضت مزاعم ولاء «مروان» لها، فقرَّرت رفع غطائه انتقامًا. أى أنه لو كان أنجح عمليَّاتها كما تدَّعى؛ لأبقت عليه فى صندوق الأسرار المُقدَّسة.
يقودنا ذلك للبحث عن الأسباب الحقيقية وراء انقلاب الصهاينة على أنفسهم فى تلك العملية الفاشلة. يعود الأمر على الأرجح لحكايةٍ ثانية ووجهٍ مُغاير. كان زلزالاً مدويًّا فى 1986، عندما نشرت مجلّة «المصوّر» حلقات مُسلسلةً عن جاسوسٍ مصرى، قضى سبع عشرة سنة داخل إسرائيل، ولعب دورًا فى تمرير خطّة الخداع، وفى انكشاف المصريِّين على عقل الدولة المُعادية. كان الرجل قد رحل قبل أربعة أعوام، وما يزال واحدًا من رموز النخبة العبرية وأصحاب الصلات الوثيقة بقادة تنظيماتها المدنية والعسكرية طوال الستينيات. تحوَّلت القصة إلى مسلسلٍ فى 1988؛ وصُعقت دوائرهم النظامية والأهلية بأن جاك بيتون هو رفعت الجمال، أو «رأفت الهجان» بحسب الحلقات، وكانت الصدمة فوق الاحتمال؛ لأنه كان صديقًا لخيرة أعلامهم من جولدا مائير إلى موشيه ديان وطليعة الجيش والحكومة والهستدروت ومجتمع المال، وظلّ موضع احتفائهم طوال ثلاثين سنة حتى أفصحت مصر عن سرِّها العظيم. حاولوا ردَّ القصّة بادّعاء أنه عميل مزدوج، واختلقوا سيناريو عن كشفه مبكّرًا وتجنيده لصالحهم، ثم استسلموا للحقائق؛ بفعل كثافة المعلومات المصرية، والحسم فى مذكرات الراحل نفسه، وشهادة أرملته، فقاطعوا أسرته ومنعوها من دخول إسرائيل بحسب تصريحٍ لابنه، واستداروا باحثين عن روايةٍ مُقابلة أو «شخصٍ ضِدّ» يُمكن أن يمسح غبار الخيبة عن وجوههم، وأن يُحقِّق لهم التوازن فى مواجهة التفوُّق المصرى؛ ومن هنا تجاهلوا صدمتهم القديمة فى أشرف مروان، وقرَّروا أن يبتلعوا مرارته مرَّتين؛ ليكون ورقة اللعب العاطفية على الداخل، وضد الخصوم الذين خدشوا كبرياءهم بقسوةٍ، وسرُّ الاختيار أنه كان قريبًا لرأس السلطة فى القاهرة، ويصلح أن يكون خرقًا مُكافئًا لما فعله فيهم بيتون/ الهجّان.
جُرح «الجمّال» العميق قادهم لإعادة تحريف روايتهم عن «مروان». كان رئيس الاستخبارات العسكرية قال فى مُذكّراته إنهم وقعوا ضحيَّة عميلٍ مُزدوج، وأثار سؤالاً منطقيًّا: «كيف لمسؤول مصرى رفيع أن يأتى للسفارة الإسرائيلية نهارًا، بينما يعرف أنها كغيرها من سفارات إسرائيل مُراقبةٌ من عشرات أجهزة المخابرات». واعتبر هو وكثيرون شاركوه الرؤية أن الثقة فى مروان «أكبر هزيمة لإسرائيل فى تاريخها». وإلى ذلك، سادت حالةُ تضاربٍ بين مُعالجات الصحافة وتدوينات مُؤرِّخين مثل أهارون بيرجمان ويورى بار جوزيف. من أجل تمرير التناقضات أشاعوا تفسيرات ساذجة عن قطع التعامل معه، ثم محاولة تنشيطه مُجدّدًا بالتسعينيات، بينما أسرَّ هو لزوجته وآخرين بخشيته من التصفية على أيدى الإسرائيليين.
الحقيقة أن جهد آلة الدعاية العبرية لاختلاق وتوظيف سرديَّة مُحرّفة عن الرجل، يفوق ما بذلوه للتحقُّق من إخلاصه لهم، أو تحليل البيانات الواردة عن طريقه. والمُحصّلة أن مصر أنجزت غايتها بعبور القناة، وتثبيت وضع جيوسياسى جرى تطويره عبر التفاوض، وفى ذلك أقوى الأدلّة على أنه لعب دورًا حيويًّا فى تعمية أنظار العدو، وأن ما قدَّمه من معلوماتٍ ظلَّت قيد الانتقاء والتدقيق وفق فلسفة الخداع المصرية.
من الشواهد أنه نقل رسالة السادات إلى الزعيم السوفيتى بريجنيف بأنه «لن يُحارب إلا بعدما يُزوَّد بصواريخ سكود»، ورغم أنه لم يحصل عليها فقد وقعت الحرب.
إسرائيل عندما ضربها القلق وتشكَّكت فى ولاء «مروان» أعلنت عن هويّته؛ لتلتمسَ الدليل على نجاحها أو إخفاقها من ردِّ فعله أوّلاً، ثم من موقف الدولة المصرية؛ أى كان المقصود أن يهرب إليها، أو يقع تحت طائلة العقاب فى القاهرة كى تشعر «تل أبيب» بالطمأنينة. حدث العكس، وتأكَّدت الصدمة بعدما ظلّ الرجل ثابتًا فى حياته وتجارته، ولم تُبدِّل السلطة والأجهزة الوطنية موقفَها تجاهه. يُمكن الجزم اليوم بأن الدولة العبرية فى عُمقِ وعيها المُؤسَّسى تُوقن أنها تلقّت صفعةً قاسية، وخُدِعت فى العميل الذى كانت تعتبره دُرّة نشاطها الاستخباراتى؛ لكنها تتحرّج من الإقرار لاعتباراتٍ عدّة: أوَّلها يخص سلامة جبهتها الداخلية وموثوقية مرافق الأمن والمعلومات، ثمّ استقامة سرديَّتها الزائفة عن تجاوز هزيمة أكتوبر، وأهمّها أن تستثمر فى إشاعة الاختلاقات تخديمًا على عادتها فى معارك الريبة والغُبار.. إذا كانت مصر بأوراقٍ مثل «رفعت الجمَّال» اخترقت حصون صناعة القرار الإسرائيلية، وترجمت ذلك تفوّقًا فى الميدان وفاعليّةً فى السياسة؛ فإن امتلاك العدوّ ورقةً بقيمة «أشرف مروان» وقدراته المعرفيّة كان كافيًا للانتصار، أو تجنُّب الانكسار على الأقل؛ ولا تفسير إلا أنهم لم يتمتّعوا بخدمات «الملاك» كما يدعونه؛ بل كانوا على الحقيقة أضحوكةً فى لُعبةٍ مُخطَّطة، وظلّوا طوال الوقت يتقلَّبون بين الجَمر والثلج/ جَمر الهزيمة النكراء وثلج الوهم المُخدِّر.
كانت عملية جاك بيتون/ رفعت، أو رأفت على الشائع، رصاصةً خارقةً للدروع، نفذت لقلب إسرائيل ومراكز قرارها؛ وكانت لعبة أشرف مروان صفعةً لا تقل عنها فى الإتقان والأثر.. يعزّ على إسرائيل أن تختبر سقوط نظرية التفوُّق الإقليمى، ولا تريد التفريط فى آلتها الدعائيّة بمنطقها القديم؛ وتُراهن فى ذلك على الكثافة وتداخل الرسائل وخلط المعلومة بالشائعة، وعلى سطوة التكرار والإلحاح فى تغييب اليقين واختلاق الشكوك؛ لكنها تعجز عن إنتاج روايةٍ مُتماسكة، أو تقديم أجوبةٍ صالحة لردم الفجوات العميقة فى أكاذيبها الاستشفائية الباهتة. الحقيقة الوحيدة أنها تلقَّت الهزيمة الأولى والأكبر من مصر، وأن حرب أكتوبر أوَّل موجةٍ انكماشيّة تضربها بعد عقودٍ من التوسُّع المُتوحّش. هكذا تعلو القاهرة على تل أبيب بالفاعليّة المادية، وتتقدَّم سرديَّتها على كل أساطيرهم؛ لأن هناك ما يدعمها من وقائع الأرض. يكفى لإثبات وطنية «صهر ناصر ومستشار السادات» أن بلده الكبير، بكل تاريخه وحجمه الجيوسياسى وتراثه المُؤسَّسى، يشهد لدوره الوطنى، ولو لم يحن أوان التصريح به كما قال مبارك فى نعيه له، ويكفى لإثبات فجاجة الرواية العبرية وتهافتها أنها باتت «روتينًا مُملاًّ» لترميم الكرامة المُبعثرة، وتخدير الشعب الذى ورث فشلاً ثقيلاً تتجدَّد ذكراه سنويًّا.
الجنون الصهيونى فى القصَّة مفهوم؛ لناحية أنه تعبيرٌ عن محنةٍ وخيبة أمل، وسعىٌ لإنكار أن عقلَهم كان مُستباحًا ومجتمعهم الصغير ظل مُتنزّهًا سهلاً للأجهزة المصرية؛ لكنها تظل الحقيقة على أىِّ حال، وكلُّ إفراطٍ فى نفيها يُؤكّد الجنون لا أكثر، ويُجدِّد دَوىّ الرصاصة وسُخونةَ الصفعة، ويضع مزيدًا من أكاليل الورد على قبور «الهجّان ومروان» وسلسال أبطالنا فى ميادين الحرب والخداع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة