أحرق «بايدن» مراكبَه فى عَرض البحر؛ حتى أنه كمَن يُشرفُ على الغرق، ولا يرى منجاةً إلَّا على جُثث الآخرين. يحدث ذلك فى غزَّة، وقد طالت الحرب وانحدرت مواقفُه لهاويةٍ أخلاقية غير مسبوقة، كما يحدث فى الداخل الأمريكى. فبينما تتصاعد المنافسةُ قبل شهورٍ من الانتخابات الرئاسية، وتتوالى استطلاعات الرأى بمُؤشِّراتٍ غير مُطمئنةٍ؛ صار يُعوِّل على فَسْح الطريق لولايته الثانية بإزاحة خصمه الأبرز. وهكذا تتشكَّل معركةٌ سياسية وقانونية لم تشهدها البلاد سابقًا، تتكثّف فيها كلُّ المآخذ والشبهات، وتتكشَّف تناقضات الليبراليين والمحافظين ظاهرًا، وتطابقاتهم باطنًا. والمُفارقة أن الطرفين يستعيران خطابات بعضهما، ويتبادلان المواقع، ليتأكَّد عمليًّا أنهما وجهان لعُملةٍ واحدة.
كان ترامب رافضًا لنتيجة 2020، وصحيح أنه حاول القفزَ عليها أو تعطيلَها؛ لكنه لم يستبقها بالسعى لإطاحة مُنافسه خارج السباق كما يُعانى اليوم. ومنذ غادر البيت الأبيض أُغلِقت الملفَّات القديمة على ما فيها، إلى أن لوَّح بتحضُّره لجولة 2024؛ فأُعِيْد نبشُ الماضى وتتابعت القضايا. وأحدث الحلقات قرارُ وزيرة خارجية «ماين» ومسؤولة انتخاباتها قبل أيام، باستبعاده من بطاقة الاقتراع التمهيدية للجمهوريين، وهو قرار تنفيذى وهى مسؤولة ديمقراطية. ويتبقى الطعن بالولاية ثم الاستئناف فيدراليًّا. وسبق ذلك أن قضت محكمة كولورادو العليا بالاستبعاد أيضًا، ثمّ علَّق «بايدن» بعدها بأن غريمه اشترك فى تمرُّد، وأنه يترك الفصلَ للقضاء. كأنه يُخبِّئ وراء القانون رغبتَه فى استبعاد سَلفِه، ووراء السياسة تنصُّلَه من حركةٍ تبدو مُنظَّمةً جدًّا لإنجاز المهمّة.
قصة كولورادو أن محكمتها الابتدائية رفضت دعوى لاستبعاد ترامب. لقد قالت إنه شارك فى تمرّد، وأدانته فى شِقِّ الحنث باليمين؛ لكنها نَفَت أن تنطبق عليه المادة الثالثة من التعديل الدستورى الرابع عشر. والنص يعود للعام 1868، وكان من نتاج الحرب الأهليّة وغرضه مُعاقبة الذين انحازوا للولايات الجنوبية فى خروجها على الاتحاد. لكن المحكمة العليا استجابت لطعنٍ من ناخبين، وقضت بأغلبية 4 من 7 قضاة بشَطبه من السباق، والمفارقة أنهم مُعيَّنون من الديمقراطيين، بينما الثلاثة الباقون ومعهم قاضيةٌ جزئيّة رأوا أن المحكمة تجاوزت سلطتها واستنطَقت الدستور.
تنصُّ المادةُ على عقاب المشاركين فى أىِّ تمرُّدٍ بالاستبعاد من المناصب؛ لكنها لا تشمل الرئيسَ بنصٍّ صريح. وكانت حالةٌ سابقةٌ طُرِحَت فى ميشيجان، ورفض القاضى نظرَ القضية لأنها «نزاعٌ سياسى». كما رُفضت دعاوى فى نيوهامشير ومينيسوتا، انطلاقًا من حقِّ الأحزاب فى تحديد مُرشَّحيها. وثمّة ترقُّب فى أوريجون، وتتبقَّى ثلاث عشرة دعوى نشطة من نحو ثلاثين سقطت أغلبها فى محاكم الولايات. والواقع أن البلد يختبرُ التجربةَ لأوَّلِ مرَّة؛ إذ لم يسبق أن أُثِير ذلك بحقِّ رئيسٍ سابق، كما لم يُستبعَد بسببه أىُّ مُرشَّح فيدرالىّ. والصادمُ أنَّ لُعبةَ الإلغاء يقودها الديمقراطيون، بكلِّ ما فى خطابهم من ليبراليةٍ وانفتاحٍ وأحاديث عن تمكين الناخبين، وما فى ماضيهم من ذكرى سيئة، كان القضاءُ أداةً ضدَّهم؛ عندما انتصر للجمهورى «بوش الابن» على مُرشَّحهم «آل جور».
علَّقت «عُليا كولورادو» حُكمها حتى الرابع من يناير، وهى مُهلة الطعن المُتاحة أمام المحكمة العُليا الفيدرالية، وقد بادر الحزب الجمهورى بالتداخل طعنًا بالفعل. ويترقَّب ترامب استئنافًا يخصُّ المسألة خلال أيام، ثمّ جولةً قضائيّة ابتداء من 4 مارس، قبل انتخابات كولورادو التمهيدية بيومٍ واحد. والمُؤكَّد أنه سيطعن، ما يُؤجِّل تطبيق القرار لحين الفصل فيدراليًّا، ولأنّ المحكمة لن تحسم من الجلسة الأُولى؛ فغالبًا سيُدرَج فى بطاقات الولاية. لكن حتى بافتراض العكس؛ فإنه يصحّ أن يخوض الانتخابات بدونها، وأن يفوز أيضًا؛ لا سيما أنها مالت سابقًا لصالح «بايدن» بفارقٍ كبير، ما يعنى أنه قد لا يكسب بإثبات اسمه فيها ولا يخسر. لكنَّ الأزمةَ أن يكون ذلك بداية موجةٍ لحصاره فى بقيَّة الولايات، وقد دعت نائبةُ حاكم كاليفورنيا لشىءٍ مُشابهٍ، أو مدخلاً للضغط على القُضاة الفيدراليِّين؛ وقد أسفرت الأسابيعُ الأخيرة عن سلوكيّاتٍ دعائيّة، تتخفَّى وراء شعار إنقاذ الديمقراطية الأمريكية ممَّن يُحاولون سرقتها أو تقويضها.
سوءُ النيَّة ربما تكشفه مُطالبة المدعى العام الفيدرالى بتسريع نَظر الاستئناف. ولقاء ذلك فقد رفضت المحكمةُ طلبًا قبل أيَّام بالبتّ العاجل فى مسألة الحصانة الرئاسية. والمقصود بها أن «ترامب» وقت الانتخابات السابقة كان مُتمتِّعًا بغطاء المنصب ولا تجوز مُساءلته عن أفعاله فى السلطة، لكنّ بعض القُضاة يقولون إنه لا نصَّ يحمى الرؤساءَ السابقين من المُلاحقات الجنائية. هكذا يبدأ الاستئناف 9 يناير، وقد يستغرق أسابيع؛ فتتأجَّلُ قضيّةُ الحصانة لِمَا بعد مارس، بينما تنتهى السباقات التمهيدية فى يونيو على الأكثر. وإلى الآن، يصبُّ الموقف القانونى القائم فى صالح الرجل، بأكثر ممَّا هو ضدّه أو يُهدِّد فُرصَه فى المنافسة؛ بل إن الحشد الذى يراه البعض مصنوعًا يُتَرجَمُ مزيدًا من الدعم والتبرُّعات، وحضورًا أكبر فى استطلاعات الرأى؛ حتى بين الشباب كفئةٍ تقدُّميةٍ بطبعها. وما يبدو أنه أقربُ لانتزاع البطاقة الجمهورية؛ ما لم تقع انعطافاتٌ طارئة، وقد تنقسم حملتُه بين المُؤتمرات وجلسات المحاكم، وإن نجح فى توظيف المظلوميَّة وفكرة الصراع مع المُؤسَّسات العميقة؛ فقد تتحقَّق مفاجأة كبرى بحلول نوفمبر.
دخولُ المحكمة العليا على الخطِّ قد يُنهى آمال «ترامب» فى العودة للبيت الأبيض، أو يُحصِّنها من بقيَّة المُحاولات المُعلنة والمُضمَرَة. وإن كانت تركيبةُ القضاة تُرجِّح أن يخرج فائزًا، بالنظرِ إلى أن ستًّا من أعضائها التسعة مُحافظون، وثلاثةً عيَّنهم بنفسه. والأهم أن كلَّ ذلك من شِقاق التحضير؛ وقد يتطوَّر لتحدِّيات أكبر بمجرّد الخروج من التمهيد داخل الأحزاب إلى الانتخابات العامة. لكن المُلاحظة غير العابرة أن الطبقة السياسية الأمريكية تعيشُ ازدواجًا حقيقيًّا، ويضربها انقسامٌ عمودىّ قاسٍ؛ وفائدةُ التشابكات الخَشِنة أنها تكشف الكامن، إنّما لا تُنشئه. وليس بعيدًا أن نتذكَّر مُحاولةَ نانسى بيلوسى وأغلبيَّتها مُساءلة الرئيس السابق فى الكونجرس تمهيدًا لعزله، ولا انتهاج الجمهوريين للخطوة نفسها مُؤخَّرًا بحقِّ بايدن، أو عَزل رئيس مجلس النواب كيفين مكارثى بأصواتٍ من حزبه؛ بعدما توافق مع خصوم الأيديولوجيا على أمورٍ تخصُّ المُوازنة والإغلاق الحكومى. وهنا قد لا تكون مواقفُ الطرفين من «غزّة» تفصيلاً هامشيًّا.
يشيعُ أن اليمين يُشعلُ المحارقَ، ويُطفئُها اليسار. وفى الظاهر تختلف الأدوات بين جنون الجمهوريِّين وكياسة الديمقراطيين؛ إنّما فى الجوهر يلعبون مباراةً واحدة من مراكز مُتفاوتة. قديمًا فازت إسرائيل بدعم التقدُّمى ليندون جونسون فى عدوان 1967، ودعمَها المُحافظ نيكسون فى هزيمتها الثقيلة 1973. والذى ألقى القُنبلتين الذرِّيتين على اليابان ديمقراطى، والذى ضغطَ على الصهاينة فى العدوان الثلاثى ضدّ مصر جُمهورى. السياساتُ واحدةٌ والقراراتُ تفرضها المصلحة، وإن كان «بوش» سَخَّن المنطقة العربية بغزو العراق؛ فإن «أوباما» أحرقها بالأُصوليّة الدينية والاستثمار فى فوضى الربيع العربى. ومن مدريد لأوسلو ثم كامب ديفيد وأنابوليس، أخفق الحزبان بالتساوى فى تسوية القضيّة أو ردِّ حُقوق الفلسطينيين؛ بل كانوا عَونًا للإسرائيليِّين على تقطيع الوقت واستنزاف طاقة السياسة والدبلوماسية.
كان «ترامب» شَرسًا فى مُعاداة فلسطين. هو الذى قاومَ استعادة المفاوضات، ونقلَ السفارة للقدس واعترف بها عاصمةً عِبريّة، واستعاض عن السلام الجاد بالتطبيع المُلفَّق، وأوَّل ما طُرِحَ مُخطَّط التهجير عمليًّا كان على يد صهره ومُستشاره جاريد كوشنر. أمَّا الديمقراطى بايدن فقد زالت تقدُّميته ومحفوظاته الأخلاقية، وانخرط بوُزرائه فى مجلس الحرب تحت صِفَتى التصهيُن والتهوُّد. وبهذا المعنى؛ فإن سلوكَ الإدارة الأمريكية المُنتظَرة قد لا يختلف تجاه «غزّة» التى تأكلها النارُ حاليًا، ولا فلسطين بكاملها وقد تُرِكَت للموت بالتجاهُلِ حِينًا، وبإذكاء الانقسام والفُرقة بين أبنائها أحيانًا. وإذا كان العرب والمسلمون فى أمريكا يُلوِّحون بمُعاقبة الرئيس الحالى، والقصاص من مواقفِه المُشينة ضدَّ الغزِّيين فى الانتخابات؛ فإنهم على الأرجح قد يُصوّتون لغريمٍ لا يقلُّ إخلاصًا للصهيونية. وليس ذلك فى حقِّ بايدن وترامب بشخصيهما فقط؛ إنّما ينطبق على الحزبين وثوابتهما، وربما على بيئة السلطة والإدارة الأمريكية بالكامل.
مثلما يُمكن الحديثُ عن علاقة تَخادُمٍ بين الأُصوليَّة فى إسرائيل وفلسطين؛ فإنَّ الصيغةَ نفسَها تنطبقُ على الشِّقاق الموهوم بين الجمهوريين والديمقراطيين.
صحيح أنَّ كلَّ طرفٍ يسعى لأن يبقى فى السلطة من دون انقطاع؛ لكنَّ الفواصل التى تُحدثها تحوُّلات الأوزانِ النسبية لدى الرأى العام تُجدِّد الدمَ وتُعيد إنعاش السرديَّة؛ فينقطع التسلسلُ وتُنسَى السوابقُ، ويتبدَّل المحافظون والتقدُّميون على رأس السلطة كأنهم يبدؤون من الصفر. إنَّ الولايات المتحدة بلدٌ شديدُ اليمينيّة والتجبُّر، ولا يختلف ذلك عن إسرائيل التى كان يسارُها أشرسَ من يمين الآخرين، وما يفعله الحمائمُ أنهم يضعون مساحيق ليبرالية رخيصة على الوجه المُتغضِّن، وما يفعله الصقور أنهم يغسلونها ويفضحون الملامح الحقيقية. أى أنَّ فريقًا يُضلِّل العالمَ والآخر يصدمه؛ لكنَّ العُقدةَ اليوم أن المُوكلين بالتضليل ذهبوا إلى الصدمة: دعموا الحرب على غزَّة، ووفَّروا السلاح والذخيرة، ودفعوا بقوَّاتهم لتتولى مهمَّة إسناد الحليف وإرهاب الخصوم، وبسطوا غطاء السياسة والقانون، بسُلطة واشنطن المعنويَّة وبحضورها الإلغائى فى مجلس الأمن. إننا نُعاين إدارةً جمهوريّة بقُبَّعة ديمقراطية، وتلك مُعضلةٌ ربما لم تُختَبَر من قبل.
على هذا الشرط؛ فإنَّ بقاء «بايدن» ربما يقود لترشيد أثر الصدمة، والعودة لمناورات «الحِمير» بدلاً من طَيش «الأفيال»؛ بينما فوز غريمه يُوصِل السلسلةَ ويُعطِّل جولات الانقطاع المُعتادة. قد لا يكون ذلك فى ذِهن الذين يختصمون الرئيس السابق قضائيًّا؛ لكنه من الأثر الذى لا يغيب عن مراكز الفكر ومُخطِّطى السياسات، والمُهمّ أن «ترامب» فى تلك اللحظة، والجمهوريِّين بشكلٍ عام؛ ربما يكونون مصلحةً للعالم وخصوم أمريكا، على الأقلّ لناحية أنهم يُجاهرون بحقيقتها دون رتوشٍ أو مُحسِّنات، ويدفعون الدراما بإيقاعٍ مُتسارع؛ قد يُعجِّل بكشف تناقضات المنظومة الدولية القائمة أو تصويبها، والمثالُ الأبرز تُجسِّده الصين، إذ لا فارق فى مواقف ترامب وبايدن منها؛ لكنّ الثانى يُظهِر التهدئة ويُبطِن الصراع، والأوَّل كان أجرأ فى العداوة؛ فتصاعدت الحربُ وأُعِيْد ترسيمُ الميدان، ونشطت مرافقُ جنوبيّة مُهمَّة عمَّا كانت عليه، ومنها بريكس وآسيان وشنغهاى. والعكس مع روسيا، بين لِيْن الأوَّل وغِلظة الثانى، والنتيجة أن التسليم بالقُطبيَّة الأمريكية صار محلَّ جدلٍ واعتراض، وبحثٍ لا يتوقَّف عن البدائل. وأيًّا يكن مآلُ النزاع القائم؛ فإن الديمقراطيِّين بدت منهم ميولٌ يمينيَّة مُفرطة التشدُّد، وإن أطاحوا المنافس فقد تُغريهم صورةُ الصقور الجارحة فيُعمِّمونها بالداخل والخارج، وإن خسروا فسيتقدّم ذوو المخالب ليشغلوا مواقعَهم بالأصالة، ومهما كانت المتاعبُ المُرجَأة فى فلسطين وروسيا وللصين والشرق الأوسط وغيرها؛ فالمكسب الأهمُّ أن تُلعَب الأوراقُ على المكشوف، وألَّا تظلَّ سرديَّةُ التفوُّق الحضارى والأخلاقى شُعلةً مُخاتلةً فى قبضة تمثال الحرية، يضىء بها عندما يطيبُ له أن يكون رِساليًّا ومنفعتُه فى الضوء، ويُحرِقُ وقتما تقتضى المصلحة أن ينفخَ النار ويُثيرَ الخراب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة