مات السنوارُ مُقاتلاً، وعلى السطح لا فى بطون الأنفاق؛ لكنه مات. ولا فارقَ بين مَوتَين؛ إلَّا بقدر ما يتصوَّرُ البعضُ فى بلاغة القول ما يغنى عن الفعل، وفى الصورة المشحونة بالعاطفة بديلاً لواقعٍ ملىءٍ بالخراب والدم. حربُ الإبادة مُتواصلةٌ، وغزّة ما عادت صالحةً للحياة، والفصائلُ التى افتتحَتْ مُغامرةً غير محسوبة لدفع القضية إلى الأمام، ارتدَّتْ بفلسطين وشعبِها عقودًا للوراء. المُحتلُّ يشتغلُ فى الخرائط بسِكِّينٍ حامية، والمُقاوِمُ أرهقَتْه السياقاتُ التى تصدَّى لها دون جُهوزيَّةٍ، وحُلفاء الطرفين ينفخون فى النار، قصدًا أو بعشوائيَّةٍ مُفرطة، ولا أحدَ يدفعُ كُلفةَ النزوات إلَّا الأبرياء.. قائدُ حماس ليس أوَّلَ الضحايا ولا آخرهم؛ إنما ما بعد غيابه ليس كما قبله؛ وكأنَّ المقاديرَ تجرى على رقاب الغزِّيين كلَّما أصابوا أو أخطأوا، إذ ينقلبُ «الطوفان» وبالاً عليهم دون استشارةٍ أو اختيار، ويصيرُ انكسارُه بأفدحِ الصُّوَر عنوانًا لنكبتِهم الجديدة، ولا خيرةَ لهم من الأمر أيضًا.
انصرفَ الجميعُ عن الجوهر إلى المظهريَّات، وبات النزاعُ على سرديَّةِ الرحيل لا حقيقته وآثاره. الاحتلالُ يتبدَّلُ بين المُصادفة والاستهداف المقصود، وجمهورُ المُقاومة يشغلُه أنَّ الرجل كان مُسَربَلاً بجعبته العسكريّة. والحال أنَّ إسرائيلَ تجاوزَتْ مسألةَ الصورةِ مُبكِّرًا، أكان لاستعجال الجنود وإفسادِهم احتمالية الفبركة والتزييف، أم لاكتفاءٍ بالحدث وقيمته، المهمُّ أنَّ الفارقَ بدا بعيدًا بين القوىِّ الغاشم إذ يقفُ على جُثَّة غريمه مُتطلِّعًا لِمَا بعدها، والضعيفِ المأزوم وقد فتَّشَ فى الهزيمة عن علامةٍ تُحمَلُ على النصر، أو تُحقِّقُ التعويضَ النفسىَّ عن مرارة الانكشاف السهل. والمُؤكَّد أنَّ الراحلَ لم تعُد تشغلُه التفاصيل، ولا أنه بات أسيرًا فى صندوقٍ بارد، وقد يصيرُ جُثمانُه ورقةً للمُساومة. وهُنا يستعيدُ الذهنُ وُجوبيًّا ما قالته أسماء بنت أبى بكر لوَلَدِها عبد الله بن الزبير، وكان يخشى ما سيطالُه لو وقع فى أيدى الأمويِّين، فطمأنته بأنه «لا يضرُّ الشاةَ سلخها بعد ذبحها»؛ أمَّا سؤالُ الضَّرَر الواقع على الميدان ومناصريه فيظلُّ قائمًا، ولا يَنقضى بالوفاة.
ربما كان يحيى السنوار أكثرَ الحماسيِّين معرفةً بالصهاينة. قضى ربع القرن فى سجونهم، وتعلَّمَ لُغتَهم وتَرجَمَ عنها، وأدار معهم مُفاوضاتٍ شاقّةً قبل أن يستعيد حريَّتَه بها فى «صفقة شاليط»، وقبلها كان قد نَازَلَهم بالعقل والسلاح، من خلال جهاز «مجد» الذى يتتبَّعُ العُملاءَ ولا ينصرف عن المُقاومة. والسيرةُ بهذا التسلسُل لا تنمُّ عن عقلٍ خاوٍ، ولا نفسيَّةٍ انتحاريَّةٍ مهما كانت الضغوط، وأغلبُ الظنِّ أنه كان موعودًا من الحُلفاء ببرنامجٍ مُغايرٍ تمامًا لمسار الطوفان الذى رأيناه، أو أراد استدراجَهم للاصطفاف مع برنامجه، وفيما بين خطأ الحسابات أو خذلان المُمانَعة، سارت الأمورُ على عكس ما تمنَّى، وتلك المسألةُ تكفى لتعميده «بطلاً تراجيديًّا» بجدارة، يرتكبُ خطيئةً واحدةً تحكمُ طريقَه للنهاية، وحين يُزاحُ عن موقعه يتحوَّلُ أسطورةً، بطوليَّةً أو مأساويَّة، وكلاهما تُجسِّدُ الإخفاقَ الذى تشكَّلَ ذاتيًّا، أو صنعته ظروفٌ قاهرة؛ لكنَّ المُحصِّلةَ الأخيرة أنه إخفاقٌ لا أكثر.
لم يكُن غائبًا عن ذهنِه قطعًا أنه أضعفُ من غريمِه، ولا تناسُب بينهما على الإطلاق فى القوَّة أو المراكز السياسية. العالمُ قوانينه مُختلَّة وموازينه مائلة، والدولةُ العِبريَّة مُسلَّحَة حتى الأسنان، وإذا كانت مَفتونةً بالشُّرب من دَم الفلسطينيين دون مُناسبةٍ؛ فلن تُفوِّتَ فرصةً تأتى المُبادرة فيها من جانب حماس. والمعنى؛ أنَّ الرجلَ ربما رتَّب فى ذهنه كلِّ الاحتمالات؛ لكنه تغافلَ عمدًا أو استخفافًا عن أخطرِها وأكثرها منطقيَّةً. وهو لم يكُن سياسيًّا على كلِّ حال، وحَيَّد السياسيِّين تمامًا عن التخطيط للجولة، ثمَّ عن إدارتها والتعاطى مع ارتداداتها، قبل أن يُلاقيه نتنياهو على المحطَّة نفسِها باغتيال صالح العارورى فى الضاحية، ومن بعده إسماعيل هنيَّة فى طهران. وافتقاد «السنوار» للحساسيَّة السياسيَّة لم يُورِّطه فى الخيارات الحربية المُطلَقة فحسب؛ إنما عرَّى الحركةَ من إحدى أوراق قوَّتها. بالضبط كما فعلت هى سابقًا فى الانقلاب على مُنظَّمة التحرير انفرادًا بحُكم غزة؛ إذ فازت بالانتخابات على قاعدة أوسلو وترتيباتها، ثم أزاحتهما معًا، وبهذا نفهمُ أنَّ القضيَّةَ تعرَّضَتْ للتجزئة والتقسيم من داخلها مرَّتين أو أكثر: الأُولى بين الضفَّة والقطاع، والثانية داخل البيت الحماسىِّ، والأخطرُ فيما بين الفصائل وحاضنتها الشعبية. والحال؛ أنَّ أيّة قوَّة صلبة لا تغنى عن رديفٍ ناعم، وكلّ تحالفات الدنيا لا تكفى لإقالة بيئة مُنقسمةٍ ومُتشَظِّية لأبعدِ مدىً، وهذا ما لم يستوعِبْه «أبو إبراهيم»، ولا سعى لمُداواته قبل أن يحقِنَ شرايينَه بفيروس الجنون الصهيونىِّ فى أشدِّ حالاته ارتباكًا وانحطاطًا، وكانت حكومتُه على شفا الانهيار، وتبحثُ بكلِّ طاقتها عن منفذٍ أو طوق نجاة.
الإغراءُ الذى حرّكَه كان الفخَّ الذى أسقطه. لعلَّه رأى فى أزمة الائتلاف الحاكم لتل أبيب، بعد مشروع الإصلاح القضائى، فرصةً لا تتكرَّرُ لطَعن العدوِّ فى خاصرته الهَشَّة، رهانًا على فوضى الشارع وجاهزيته للانقسام أو الانتفاض ضد الحكومة. وما فاتَه؛ رغم معرفتِه بالكيان، أنَّ إسرائيل تأسَّست بمنطق الحياة على حدِّ السِّكّين، وبقدر ما تزدهرُ فى أزمنة الصراع؛ فإنها تُجيدُ ترتيبَ الأولويَّات، وتتَّخذُ من الأزمات مادةً لترميم شُقوقِها. كما أن الإدارة الأمريكية كانت أسوأَ نسخة يُمكن اختصام الاحتلال فى وجودها، وليس غائبًا عن أحدٍ أنَّ «بايدن» يتباهى بصهيونيَّته منذ التقى جولدا مائير قبل عقود، كما أنَّ فاصلَ السنة عن انتخاباتها الرئاسية كان طويلاً بما يكفى لإرخاء حَبل نتنياهو، وقصيرًا لدرجةِ أنْ يقمعَ أيَّةَ مُغامرة يُخشَى منها تصعيد ترامب. وبهذا؛ كان الطوفانُ مبادرةَ السنوار، وآخرَ عهدِه باتخاذ أىِّ قرارٍ بشأن الجولة، وكلّ ما تلاه صار أقربَ لمسارٍ إجبارىٍّ لُعِبَ به خلاله من العدوِّ والصديق: الأوَّل يقتلُ دون رادعٍ، والثانى يُصَلِّبُ الظهر دون أُفقٍ سياسىٍّ أو إسنادٍ حقيقى.
بعقلٍ بارد، ودون عاطفةٍ أو إنكار. يُساقُ تنشيطُ القضيَّة ودَفعُها للواجهة على صِفَة المكسب؛ لكنَّ استفاقةَ الضمير العالمىِّ ما أثمرَتْ شيئًا، ولا تيَّار المُمانَعة أثبتَ فاعليَّته فى الميدان. خسر الغزِّيون زهاءَ مائتى ألفٍ بين قتيل وجريح ومفقود، وصار القطاعُ الضيِّقُ مساحةً عظيمة من الردم والأشلاء. نتنياهو مأزومٌ قطعًا؛ لكنَّ شعبيَّتَه اليومَ أعلى مِمَّا كانت قبل سنة، والاستجابةُ الانفعاليَّةُ التى بدأها بنِيَّة الثأر للكرامة المُهدَرَة، تطوَّرتْ فى يديه لخُطَّةٍ شاملة لتعقيم الإقليم وإعادة ترسيمه.. أمَّا «حماس» نفسها فلَمْ تختبر فى تاريخِها القصير وجيعةً كالتى تعيشُها، وقد صار واضحًا أنها تضرَّرت حتى النخاع، وأبسط الخسائر أنها فقدَتْ وضعَها الإدارىَّ بمعانيه السلطوية والسياسية، وأعلاها انحلال جهازها العسكرىِّ لدرجة يصعب التنبّؤ بمُستواها؛ إنما فى أكثر التقديرات تفاؤلاً تتطلَّبُ عقودًا للترميم وإعادة البناء، هذا لو سُمِحَ لها أصلاً بالبقاء مع أىِّ هامش للعمل. والهجاء الواقع على العدوِّ هنا يشفى الغليل، ويُبرِّد حرارةَ الرؤوس؛ لكنّه لا يُغيِّرُ شيئًا من تفاصيل الواقع الثقيل. كانت فلسطين بلدًا ضائعًا بإمكاناتٍ حاضرة، وصارت هى والإمكانات معًا فى غياهب الضياع؛ على الأقل فى العُمر المنظور لمَن تبقّوا من قادة الجيل الحالى.
تلقَّت حماس على مدار عمرها ضرباتٍ شَبيهة؛ لكنَّ ضربة السنوار ربما تكون أقساها وأفدحها. فى اغتيال أحمد ياسين والرنتيسى مثلاً كانت مُجرَّد فصيلٍ مُقاوم، لا فاعلاً سياسيًّا ولا سُلطةَ حُكم، وكان «عرفات» حاضرًا برمزيَّته وثِقَلِه المعنوىِّ، ولو مُحاصَرًا فى المُقاطَعة. الجديدُ أنَّ إزاحةَ الحركةِ تنسحبُ على القطاع، وتأتى بعد أضرارٍ عضويَّة عميقة، وبعدما توحَّد المُستويان السياسى والعسكرى فى رأسٍ واحد. والمُعضلة ليست عن الإحلال فى زمن الحرب فحسب؛ إنما فى إعادة تربيط المفاصل، وتجميع عناصر القوَّة، وفى أنها تتهاوى بعدما لعبت دورًا مُباشرًا فى إضعاف السلطة؛ فغابت وغاب البديل. وبينما كان «يحيى» نفسُه مَعزولاً عن أغلب أجنحة القسَّام الباقية؛ فأىُّ خليفةٍ له من الداخل أو الخارج لن يكون قادرًا على وَصل المُنقطِع فى التنظيم بسرعةٍ وكفاءة. وسيتسبَّب ذلك فى بطءِ القرار أو عشوائيَّته، وفى عدم القُدرة على البقاء الفاعل فى الميدان أو الخروج المُثمِر منه. أمَّا الأخطر؛ فأنَّ الرجلَ بمشهدِ رحيلِه الأسطورىِّ طَبعَ بصمَتَه الثقيلة على هيكل الحركة وخياراتها، فصار عَصيًّا على الوارث أن ينحرفَ شِبرًا عن حدود التركة، وهكذا لو صعد أحدُ الحمائم فسيجد نفسَه مُنتدَبًا لمهمَّة الصقور، ومن دون مخالب أو أجنحة. والقصد؛ أنَّ الثعلب كان قادرًا على التخفِّى والمُراوغة والاصطياد، وحال استبدالِه بأحدِ الحِملان؛ فسيكون مُقيَّدًا بذهنيَّة الصيَّاد وحَركيَّة الفريسة. باختصارٍ؛ سيحكمُ الراحلُ قبيلَتَه من القبر مثلما كان يحكمُها من النَّفَق، وسُلطة الموت الأسطورىِّ لن تقلَّ عن سُلطة الهيمنة على ميدان القتال.
نعودُ مُضطرّين لمسألة تحريف القضية بالتديين والنمذجة الأُصوليَّة بانتحالِها المُقدَّس. الأثرُ المُباشر ليس فى تسويغ سرديَّةٍ توراتيَّة مُضادَّة فحسب، ولا علاقة التخادُم التى صَعَّدت العقائديين فى تلّ أبيب بمُوازاة تمكين الحماسيِّين. مأزقُ النكهة الدينيَّة أنها تخلقُ بديلاً عن السياسة والحرب معًا؛ إذ تصيرُ المعركةُ محكومةً بفقه العالم الآخر بتعويضه السماوىِّ المضمون، وبهذا يغتنى المُقاوِمُ عن الحاجة للاجتهاد بأشراط الواقع، والنظر فى سياق الصراع بمزيجٍ من الديناميكية والبراجماتية؛ لأنه يُؤدِّى مهمَّةً رِساليَّةً تحصَّلَ على مُقابلِها مُسبَقًا، ولأنَّ «قتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار». والخطابُ العلمانىُّ الذى يردُّ المسألةَ لسياقِها القانونى والإنسانى، ليس ضرورةً لأنه ينسجمُ مع طبيعة العالم ومنظومتِه الحاكمة فقط؛ إنما لأنه لا يجعلُ الجنَّةَ تعويضًا للهزيمة أو بديلاً عن النصر، بل يضعُ الخيارَين المادّيين فى مُقابلةِ بعضهما، فيصيرُ الربح والخسارة مَحكومَيْن بما فى اليدِّ لا ما وقر فى القلب، وواجبُ السياسىِّ هنا يدفعُه للإقدام على القتال بقدرِ خشيته منه، وللانسحاب من الميدان ولو كان قادرًا على البقاء فيه؛ لأنَّ الأمور تُؤخَذُ بحَقِّها الموضوعىِّ وبالاقتدار عليها، لا بالأمانى أو الغيبيَّات.
المادىُّ يُحفِّز التكتيكَ والمُناورة، وربما التراجُعَ لو فرضَتْه الظروف، أمَّا الميتافيزيقىُّ فإنه يُسوِّغ المُغامرةَ، ويُبشِّرُ بالتعويض؛ فيُحَبِّبُ للنفسِ اختبارَ الخيارات الحارقة، بنزعةٍ انتحاريَّة تفصلُ الطموحات الشخصية عن المصالح العمومية. بهذا؛ لا شكَّ إطلاقًا فى صِدقيَّة «السنوار» وهو يقول، فى مقطعٍ مُصوَّر، إنه يتطلَّعُ للموت شهيدًا بدلاً من الكورونا أو الجلطة؛ لكنَّ حياتَه فى معناها المُفرَد يُمكن أن تنالَ جائزة الاستشهاد بمَعزلٍ عن تعميمه. وبالموضوعيَّةِ ذاتِها؛ لقد تخفَّى سنةً كاملةً، وكان الهروب مُبرَّرًا بمنطق حرب العصابات، ولعَدم تقديم هديّةٍ مجّانية للعدوِّ؛ لكنه فى نهاية المطاف سقط صريعًا دون أن يحسمَ المعركة أو يُجنِّبَ أهلَه تكاليفَها. هل يحقٌّ هنا السؤال عن احتمالية ترشيد الفاتورة؛ لو اتَّخذ قرارًا بالقتال وجهًا لوجهٍ منذ البداية؟ صحيحٌ أنَّ الصهاينةَ لا عهدَ لهم، ونواياهم ظاهرةٌ دائمًا، لكن لعبةَ الاحتمالات تتَّسع للخيارات التى نهواها أو نزهدها. ومنها أنَّ «السنوار» الذى أتعبَ الاحتلالَ شهورًا، من الغريب أن يصطادوه بتلك السهولة المُفرِطة. نظريةُ المُصادفة العشوائيَّة صالحةٌ للتفسير طبعًا؛ إذ ربما جرَّب المسألةَ ألفَ مرَّةٍ وأفلَت ناجيًا؛ لكنْ ألَا يُحتَمَلُ أنه اقتربَ منهم لأقلِّ من ألف قَدَمٍ عامدًا، أى أنه سار لقَفَص الصيَّاد مدفوعًا بعُقدة الذنب، أو انغلاق المسارات، أو شىءٍ من القُربانيَّة التى تصوَّرَ أنها قد تفتحُ البابَ لإرواء شهوة الدم لدى نتنياهو، ومَنحِه صورةَ النصر اللازمة لبدء التداول فى إيقاف المَقتَلَة؟ لا أحدَ يُمكنه الجَزم بما اعتمَلَ فى صدرِه باللحظة الأخيرة؛ لأنه من الواضح بعد المسار الطويل أنه هو شخصيًّا لم يكُن يفهمُ نفسَه جيِّدًا، ولم يستوعِبْ كثيرًا من التوازُنات القائمة، ولا حركتها اللاهثة فيما تلا الطوفان. إنه مأزقُ التديين مُجدَّدًا!
لن تموت «حماس» بموت السنوار؛ لكنها لن تعود كما عرفناها أو عرفت نفسَها. اغتيالُ القائد دشَّن رادعًا مَعنويًّا عاليًا، قد يمنعُ الآخرين من الطمع فى خلافته، وإنْ تصدّى أحدٌ للمهمَّة فسيكون بين مطرقة العدو، وسندان «ميراث الزعامة» الذى يرى التعقُّلَ تفريطًا ويأباه. لقد أُبرِمَتْ هُدنةٌ أُولى فى نوفمبر، واتَّضح لاحقًا أن الطرفين ذهبا إليها لاختبار بعضهما، وخرجا منها بإفاداتٍ خاطئة عن انكسارِ الآخر وإمكانيَّة تطويعِه. وبعدما كانت صالحةً للتكرار فى وقتها، انحاز «بنيامين» لخيار التفاوض تحت النار، ووافاه «يحيى» بمنطق أنَّ الجولة تُبشِّر بمُكتسباتٍ أكبر. واليومَ يئِنُّ القطاعَ، وليس فى مَقدور حُكَّامه أن يعودوا لِمَا كان، كما لم يعُد العدوُّ مُتقبِّلاً إيَّاه أيضًا. وكُلَّما انكسرت حماس بالَغَتْ فى إظهار قُوَّتها، وكلَّما أظهرَتْها يتشدَّدُ الصهاينةُ فى الإبادة والإفناء. والحال؛ أنَّ الحركةَ ما عادت قائمةً، والتقتيلَ الوحشىَّ لا يتوقَّف. وأيَّا كان البديلُ المُقترَح للأصيل الراحل: شقيقه محمد من الداخل، أم مشعل والحيّة وأبو مرزوق من الخارج، فإنَّ قنوات اتِّصالهم قد انسَدَّت، ولم تعُد لُغتُهم واحدةً، ولا سيطرةَ لأحدٍ منهم على المفاصل؛ كما كانت حال «السنوار» نفسِه فى شهوره الأخيرة. صار القسَّامِيّون أقربَ لجُزرٍ معزولة، وهذا إن كان يُعطيهم هامشًا للحركة، ويُقلِّص تأثيرات التداعى القيادىِّ عليهم؛ فإنه يُحجِّمُ الفاعليَّةَ والبرنامجَ المُوحَّد، ويُغيِّبُ المعلومات الميدانيّة وحال المقاتلين، والأخطر أنه ينسفُ ورقةَ الأسرى؛ لأنهم لم يعودوا أصلاً واحدًا يُدَار مركزيًّا؛ إنما أحزمةً ودروعًا تُديرها كلُّ مجموعة كيفما ترى، فلا يُعرَفُ الأحياء من الأموات، ولا كيفيّةُ تجميعِهم إذا تحقَّقت الصفقة. هذا ما أراده نتنياهو ونَالَه، أن يحرِمَ الحماسيِّين من ورقتِهم الوحيدة، فلا يعودُ بمَقدورهم توظيفها فى التفاوض أو فى الردع.
نظريًّا، يفتحُ غياب السنوار بابًا للتهدئة؛ إنما عمليًّا وقعت التفّاحة فى وقتٍ خاطئ، كحال غزَّة منذ بداية المأساة. تجاوز نتنياهو هدفَ الحصول على صورةِ نصرٍ، ويسعى اليومَ لتقليم أذرُع المُمانَعة فى الإقليم. والرحيل إنْ كان يزيحُ جناحَ الصقور فى الحركة، وينهى فلسفةَ الاشتباك فى حربٍ شاملة؛ فإنه يُحيِّدُ الحمائم أيضًا عن المُلاينة وتقديم التنازلات. انتكسَتْ الشيعيّة المُسلَّحة فى لبنان وسوريا، وربما يقعُ الانتكاسُ قريبًا فى طهران نفسها؛ لكنها قبل أن تنزفَ بالأصالة، أعادت غزَّة بالوكالة لرُتبةٍ أدنى من العصر الحجرى. لا يُؤمَلُ أن يضغطَ الأمريكيِّون للتهدئة، فالانتخاباتُ طرَقَت الأبوابَ، والأنظارُ ارتحَلَت عن القطاع أصلاً إلى جبهة الشمال وما وراءها. فكأنَّ الذين ناصَروا فضيّة فلسطين قد أوقَعوها فى مأزقٍ وجودىٍّ وانصَرَفوا، ولأنهم مَأزومون أيضًا فلا إمكانيَّة لديهم لمُداواة جروحها، فضلاً على أنهم لن يُضحّوا بوَرَقتِها كمَنفذٍ إضافىٍّ يُخفِّفُ الضغطَ عنهم. وهكذا؛ يُنتَدَبُ الغزيِّون العُزَّل لإسناد رأس المحور، بعدما كانت الدعاياتُ فى اتّجاهٍ مُعاكس، وبعدما تسبَّبوا بخياراتهم الصِّفرية فى دَفع الفصائل للمَحرقة، ثمَّ مَنعِهم من اختبار الفُرص المُبكِّرة لإطفاء نارها.. العدوُّ مُتوَحِّشٌ ولا جديدَ؛ لكنَّ الحليفَ غَبىُّ وهَشّ، وهذا ما تكلَّفَ نهرًا من الدم لأجل استيعابه، ولعلَّه آخرُ ما دار عليه عقلُ الرجل قبل أن يخترق الرصاصُ رأسَه النظيفَ، والعنيدَ أيضًا.
لا معنى للقول إنَّ شَطبَ «حماس» هدفٌ مُستحيل، وأقربُ للدعايات من التكتيك أو الاستراتيجية. صحيحٌ أنَّ الأفكار الإيمانية غير قابلةٍ للإفناء، وأقصى ما يحدثُ أن تتحوَّر أو تُعاد صياغتُها؛ إنما التاريخ أيضا مَلىءٌ بحركاتٍ وجماعاتٍ صارت أثرًا بعد عين. قُدِّمَتْ المنطقةُ لنتنياهو على صحنٍ من فضَّة، ومعها الحركةُ والقضيّة والمُمانَعة. ستظلُّ فلسطين حاضرةً؛ لكنها ستبدأُ مُضطرَّةً من نقطة الصفر. ما كان يُمكِنُ العَشَمُ فيه قبل شهورٍ صار مُستحيلاً الآن. وحتى لو جَرَتْ تهدئةٌ مُؤقَّتةٌ أو وَقفٌ للنار من طرفٍ واحد؛ فسيكونُ معناه بمثابة خَتمٍ بانقضاء زمن غزَّة القديم، وبداية لمسارٍ طويلٍ من الانحدار السياسىِّ. النتائجُ أهمُّ من المُعطيَات والآمال، ولا معنى للخطابة والرمزيَّات بينما تتجسَّدُ الانكساراتُ كلُّها دفعةً واحدة. فَقَدَ القطاعُ قوَّتَه الماديَّة والمعنوية، وارتفع سقفُ «حماس» بينما تهاوَتْ جُدرانُها. والمُختَلُّ الليكودىُّ فى تل أبيب يُفاضِلُ بين خياراتٍ أدناها حربٌ وأحلاها عَلْقَم. قراءةُ الفاتحة على روح السنوار؛ إذ لا يُعرَفُ له قَبرٌ، يجبُ أن تبدأ من التمرُّد على تَرِكَتِه والرجوع عن خياراته. الاعترافُ بالمرض أوَّلُ العلاج، والمُصالحة الوطنية طريقُ الشفاء الوحيد.