"حضرة المحترم مؤنس أفندى ياقوت، مرسل لكم طيه، كشف حساب بمبلغ 92 جنيه و 17 قرش و 3 مليم، عن قيمة ماصُرف فى بياض الغرفة البحرية بمنزل حارة قواوير"، جزء من مشهد تمثيلي قصير في فيلم "أبو حلموس"، بطولة العبقري الراحل نجيب الريحاني، وتم إنتاجه عام 1947، وشارك فيه كوكبة من نجوم الفن، على رأسهم عباس فارس، وحسن فايق، وزوزو شكيب، والفيلم تأليف مشترك بين الريحاني وبديع خيري، ويعتبر واحد من علامات السينما المصرية، وامتداد لمسار الأعمال الفنية التي تميز بها الريحاني، الذي عبًر عن حياة الطبقة المتوسطة ومشكلاتها، والقضايا الاقتصادية والاجتماعية، ومعاناة المواطن البسيط، ومعاناة البحث عن فرصة عمل، والفساد والفوارق الطبقية.
في الحوار العميق بين عباس فارس "ناظر الوقف"، ونجيب الريجاني "شحاتة أفندي"، تتجلي الفلسفة التي تقول "الفساد يكمن في التفاصيل"، فالمبلغ المذكور لبياض الغرفة " 92 جنيهاً"، في ذلك الوقت كان يمكن أن يشتري غرفة أو ربما شقة، وليس لبياضها أو تشطيبها، لذلك يسخر شحاتة أفندي من ناظر الوقف قائلا:"إيه إيه أوضة واحدة بـ 92 جنيه ليه ؟؟ بياض بلبن زبادى؟ بمربة تفاح ؟ ناظر الوقف بتاعنا ده حرامى وحمار كمان!
ليسارع عباس فارس بالسؤال: طيب يقيدهم ازاى ؟
ويرد الريحاني: نكتب كحت البياض القديم كذا، سنفرة الحيطان بعد الكحت كذا، تقطيب الخروم بعد الصنفرة كذا، تلييس الحيطان بعد التقطيب كذا، دهان أول وش كذا، ودهان تانى وش كذا، دهان تالت وش كذا ، وكده تكتب الكشف 192 جنيه كمان.. كده الشغل مش الناظر الغبي بتاعنا..
القضية التي تعرض لها فيلم "أبو حلموس" منذ ما يقرب من 80 عاماً، مازالت تحدث بتفاصيلها حتى الآن، ويمارسها البعض بصورة ربما لم تختلف كثيراً عن نموذج شحاتة أفندي وناظر الوقف، لكن البطل هذه المرة ليس بياض غرفة حارة قواوير، أو خروف أبو حلموس، لكنه شارع مصدق في حي الدقي، الذي تم تكسيرة منذ نحو شهرين تقريباً، وتحول من أحد أهم شوارع هذا الحي الراقي، إلى حفر عميقة ومتوسطة، وطريق يكسوه التراب، وفوضى على الجانبين، نتيجة أعمال حفر وتكسير، من أجل مد كابلات، لا أعرف إن كانت للكهرباء أو الاتصالات.
بعد أعمال الحفر والتكسير في شارع مصدق، بدأت عمليات إزالة الأرصفة الرخامية من أمام مقرات الشركات والبنوك والمؤسسات التجارية والمحال لتحويلها إلى بلاط "الانترلوك"، ولا أعلم ما السبب الذي يجعل حي الدقي، ومحافظة الجيزة، يعشقون هذا الانترلوك لهذه الدرجة، ليزيلوا أفخم أنواع الرخام، وتحويل الأرصفة إلى هذا القبح الصامت، وتحميل خزينة الدولة كل هذه الأموال "غير الضرورية"، التي كان يمكن توجيهها إلى المناطق المحرومة والقرى الفقيرة الأولى بالرعاية.
حتى اللحظة التي أكتب فيها هذا المقال، لم يعد شارع مصدق إلى ما كان عليه، وهذا أمر يستوجب المحاسبة للمسئولين، بداية من رئيس حي الدقي حتى محافظ الجيزة، وهذه المحاسبة يجب أن تشمل إجابات واضحة لحجم التكلفة الفعلية التي تحملتها المحافظة نظير تكسير الرخام الموجود على الأرصفة، واستبداله بـ "الانترلوك"، على "نفقة الدولة"، ومساءلة صاحب هذا القرار الذي يأتي في ظروف اقتصادية فارقة، يجب أن تتجه فيها الدولة لترشيد الإنفاق، ومراجعة أوجه الصرف بالصورة التي تضمن حسن استخدام الموارد المتاحة، بالإضافة إلى المحاسبة على الجهد المهدر، وحالة الفوضى التي خلقتها عمليات التكسير، وما تبع ذلك من خسائر لمنشآت الأفراد والشركات.
كما ذكرت سابقاً، أعمال التكسير والحفر في شارع مصدق كانت لمد مجموعة من الكابلات، لكني لا أعرف لماذا امتدت إلى الأرصفة والانترلوك، وأعمال الإحلال الكارثية التي تمت خلال الفترة الماضية، وما تم إنفاقه من أموال، حتى ولو كانت على سبيل الهدية من أحد الشركات، أو منحة من هذه الجهة أو تلك، وفي هذا السياق أتمنى ألا تفاجئنا محافظة الجيزة بردود على ما أسلفت ذكره من نوعية الهوية البصرية، وتوحيد المظهر العام، لأن أبجديات المنطق تقول:" الجمال لا يمكن استبداله بالقبح".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة