تكتسبُ الحوادثُ معانيها الوافيةَ بالتدقيق وضَبط التعاريف، لكنَّ جوهرَها لا يتغيَّرُ بالاتّفاق عليها أو مَنحِها تسمياتٍ مُغايرة، والحربُ إن كانت عدوانًا غاشمًا أو اشتباكًا مُتكافئًا تظلُّ قتالاً بين طرفين، لا يُحسَم السباقُ فيه بعيدًا من الأُطر العسكرية، كما أنَّ النصرَ لا يصيرُ هزيمةً لأنَّ صاحبَه يعجزُ عن تظهيره على وجهٍ قاطع، أو أنَّ المهزومَ يتهرُّب من الإقرار به، والعكس بالعكس. هناك دائمًا ما يُرضى القلبَ، وقد لا يتوافقُ مع ما يُقنع العقلَ. وثمَّة فارقٌ بين المُثُل والوقائع، بمعنى أننا نمقُت الباغىَ بالضرورة، ونأخذُ موقفًا أخلاقيًّا وسياسيًّا صريحًا من طغيانه، إنما لا يصحُّ أن تسرقَنا المشاعرُ من موضوعيَّة النظر للأُمور على حقيقتها، واستخلاص ما تكتنزُ به من عِظَةٍ وإفادات، لأجل الفَهم أوّلاً، ثمَّ لضمان ألَّا تتكرَّر المزالقُ نفسُها على فترةٍ من الارتباك وخطأ الحسابات، وإنْ كانت كراهيةُ الظُّلم ومُناصبتُه العداءَ مِمَّا يُجيزُ الجدلَ والنزاعَ فى الشواهد المَاثِلة، فإنَّ محبَّةَ المظلومين والانتصارَ لهم عن منطقٍ وبَيِّنة، يُجبران كلَّ ذى بصيرةٍ على عدم الانسياق وراء التضليل وخديعة الذات، أو التعالى على طِينةِ الأزمة وصولاً إلى مُلامسة ضباب الأوهام.
المُقدِّمةُ السابقة ليست توطِئةً للطعن فى الأُصول، أو اختصام الركائز الوطيدة لدى تيَّارٍ لصالحِ آخر، إنما أراها مدخلاً ضروريًّا لمعرفة كيف ننهزمُ بواقعيَّةٍ، إذا كُنّا نبتغى أن ننتصرَ بفاعليَّةٍ، حينما يحينُ أوانُ النصر، أو نقبضُ على أشراطِه الواجبة، والخلافُ هنا ليس على وَصْم المُجرم أو تبرئة الضحيَّة، فكلاهما من البديهيَّات التى لا تحتملُ نِقاشًا أو مُفاضَلة، ولكنَّ جهةَ الاعتبار الأُولى ألَّا يقودَنا الاكتفاءُ بالإدانة هُناك لمزيدٍ من التفريط فى القليل الحاضر، نزوعًا للكثير المستحيل، ظرفيًّا على الأقل، وألَّا يُقعدَنا الارتياحُ للطُّهرانية هُنا عن تفنيد الخطايا والانحرافات، إيمانًا بأنه «لا صوتَ يعلو فوق صوت المعركة»، أو أن نُصرة الأخ، ظالمًا ومظلومًا، تقتضى المُظاهَرَة الدائمةَ دون نقدٍ أو اعتراض، والأصلُ أنَّ إخفاقات العدوِّ لا تعنينا، إلَّا بقَدر ما تصبُّ فى حصَّالتنا أو نستطيعُ توظيفَها لتقويض سَرديَّته. وعليه، فليس مطلوبًا أن تُشفَعَ كلُّ مُقاربةٍ للمسألة بوَصلةِ هجاءٍ للشرِّير البعيد، ولا بالمُلاطفة والحُنوِّ السهل على الطيِّب القريب، فالمُنحازُ الصادقُ يحبُّ دومًا للعدوِّ أن يتمادى فى عثراته، ولا يُحبّه للصديق، لذا قد يغفلُ عن الأوَّل ويُغلِظُ القولَ للثانى، وفى الحالين إنما ينطلقُ من براجماتيَّةٍ فى الكُره ومَوضوعيَّة فى المَحبَّة.
فى مسألة غزَّة وحربِها الدائرةِ منذ سنة، تجاوزنا كلَّ ما يُمكن أن يُقال عن الدوافع والمُسبِّبات، وهل كان قرارُ الافتتاحيّة صائبًا أم طائشًا. والمُشكلةُ أنَّ الاحتلالَ نفسَه تجاوزَ محطَّة «طوفان الأقصى»، فلم تعُد مُنطلَقَ الشرعيَّة لهَجمته البربريَّة على القطاع، ولا يَنظرُ لها فى ترتيب فصول النكبة، والانتقال من كل مأساةٍ فيها إلى ما بعدها، بينما لم تتجاوَزْها الفصائلُ إلى الآن، لا فى الخطاب أو المُمارسة، ولا فى العقليَّة المُنشئِة للفِعلِ سابقًا، والمُفرِطة فى التهرُّب من استحقاقاتِه حاليًا. وأحسبُ أنَّ مبعثَ المُراوغة ليس عن جهلٍ بالارتدادات، أو ما آلَتْ إليه أوضاعُ الميدان واختناقاتُ السياسة، إنما يتأسَّسُ على نُزوعٍ حَرَكىٍّ يعزلُ شبكتَه النظاميّة عن بيئتِها الحاضنة، فيتوقَّف عند الهجمة الناجحة على غلاف غزَّة، باعتبارها تعبيرًا عن أعلى صُوَرِ فاعلِيَّته، ويتجاهلُ كلَّ ما تلاها انطلاقًا من أنه سيخصمُ من المكاسب المُتحقِّقة، ويُكبِّده فواتيرَ الانتكاسة، حالَ الجمع فى النظر بين المُقدِّمات والنتائج.
وفقَ هذا الفَهم، ما زال مُتدَاولاً على ألسنة الحماسيِّين ما يُشبه خطابَ النصر مع موقفٍ مَبدئىٍّ يتمسَّكُ بالهشاشة البادية من العدوِّ قبل عامٍ أو يزيد، دون اعتبارٍ لكلِّ ما أظهرَه من وحشيَّةٍ واستعراضٍ على أبدان الغزِّيين طوال الشهور اللاحقة، ولا يتحرَّجُ قائدٌ فى قيمة وعُمق تجربة خالد مشعل، من القولِ إنَّ عشرات آلاف القتلى والجرحى مُجرَّد «خسائر تكتيكيَّة»، فيما يُفصِحُ عن جمودٍ يتسلَّط على الوعى، كما لو أنه توقَّف بالآلة الزمنية عند الطوفان كربحٍ استراتيجىٍّ، أو أنَّ استمرارَ المَقتلَةِ يقومُ مقامَ «الهزيمة الاستراتيجيَّة» لدولة الاحتلال. هنا يبزغُ الخَللُ العقلىُّ والمَفاهِيمىُّ، لأنّه يُفرِّق بين السلاح ومجاله الحيوى، أو يُضحِّى بالأخير فى محنته التى لم يُنتدَب لاتخاذ قرارها، بغرض انتزاع شهادةٍ للأوَّل بالكفاءة والأثر، وإذا كانت القُدرة على إطلاق الرصاص معيارًا وحيدًا للبقاء والانتصار، فإنَّ البشرَ والحجرَ يصيرون بالتبعية تفصيلاً عابرًا فى جَردة الحساب النهائية، وهكذا تغيمُ المُحدِّداتُ المُعتبَرَة لفكرة النضال، إذ لو كان مطلوبًا لذاته، وبمعزلٍ عن الأرض وساكنيها، فما الغايةُ الأسمى منه بحسبِ أجندة الحركة؟ وماذا ينفعُ فلسطين لو كسبت الجولة وخسرت الحرب؟! هذا لو افترضنا أنها كسبت من الأساس!
لم يكُن الاستعدادُ غائبًا عن ذهن السنوار فى ميدان القتال فحسب، ولا استيعاب حجم الإيذاء وما يُمكنُ أنْ يُولِّدَه من طاقةٍ إباديّة لدى العدوّ، لا سيما فى سياق حكومةٍ يمينيَّة شديدةِ التطرُّف، وتحت ظلالِ أزمةٍ سياسية داخليّة مَسَّت شرعيَّتَها، وكادت تطيحُ ائتلافَها، إنما الانكشافُ قد تبدَّى بأفدحِ صُوَرِه فى الاستراتيجية الإعلامية المُواكبة للمعركة، وآليَّة إدارة المُناكفة السياسية والدعائية بغَرض الاحتفاظ بمكاسب الميدان، وتجنُّب الانجراف إلى مُستنقعٍ، يتجاوزُ قُدرةَ الحركة وظهيرِها الشعبىِّ على الاحتمال، ناهيك عن الأُفق المُستقبلىِّ للقطاع، ثمَّ للقضيّة الوطنية بكاملها. لقد بالغَ القسَّاميّون فى إظهار التسيُّد على الغُلاف الهَشّ، وأمعَنوا فى استثمار فائض الإنجاز بالتوثيق البصرى وتسعير الرسائل العاطفيّة، فوفّروا مادةً تطوُّعيّة كافيةً لاستنفار المجتمع الصهيونىِّ المشحون أصلاً، وتمرير حالة المظلوميَّة كمُقدِّمةٍ لسَرديَّة الدفاع عن النفس تجاه قبيلةٍ من الهَمَج المُغرَمين بالدم. وسواء وقعَتْ الخُروقاتُ التزامًا بخطّةٍ مُسبقَة، أو أُغرِى بها المُقاتلون فى وقتِها مع انكشافِهم على الجبهة، فالمُحصّلَةُ أنَّ العمليَّةَ كانت شعبويّةً بأكثر مِمَّا هى نِظاميّة ومحكومةٌ بأهدافٍ وسقوف، أو أنَّ القيادةَ لم تمتلك هيمنةً كاملةً على جنودها فى زمن النشوة، ما يُوجِبُ القلقَ استباقًا من أنْ يكون الانفلاتُ أكبرَ فى أزمنة الانكسار وانحلال جِسم التنظيم.
تصرَّفت «حماس» فى التحضير كما يليقُ بجيشٍ مُؤسَّسى، ثمَّ ارتدَّت مع التنفيذ وما بعده إلى صِفَة الميليشيا. وبعيدًا من الظِّلال السلبيّة للمُفردات فى أذهان البعض، فإنها تظلُّ مسكوكاتٍ تُعبِّرُ عن مجالاتٍ دلاليَّة وبنيويّة مُتمايزةِ فيما بينها. والحقُّ أنَّ الحركةَ منذُ انقلَبَتْ على السُّلطة الوطنية قبل عقدين تقريبًا، صارت أقربَ إلى الدولة، ولو لم تكتسب كاملَ الكيانيَّة الشرعيّة. لقد اتِّخذت صِفةَ النظام السياسىِّ الشامل، فأسَّستْ حكومةً وأجهزةً تنفيذيّة، وصارت ذراعُها العسكريَّةُ مُعادلاً لاحتكار القَمع بالقانون، وأدارت يوميَّات القطاع بإرادةٍ فرديةٍ وصلاحياتٍ إلهيّة مُطلَقَة. وبطبيعةِ الحال، فقد ترتَّبتْ عليها بالضرورةِ أعباءٌ ومسؤولياتٌ تجاه المجال الاجتماعىِّ العريض، لناحية تدبير حاجاته والقيام على شؤونه، وضمان أنْ تُسَاسَ الأُمور بما يُحقِّقُ الصالحَ العام، ودون إخلالٍ بالواجب الذى انتدَبَتْ نفسَها لأدائه، دونَ مَشورةٍ أو اختيار. وأوَّل المهام أن تُقدِّم اجتنابَ المخاطر على اهتبالِ المنافع، ولو دُفِعَت إلى الحربِ فلتَكُن بمنطِقٍ محسوب، وعلى قاعدةٍ من المُوازنة الدقيقة بين الآمال والإمكانات، وبما يضمنُ الذهابَ والرجوع بأقلِّ حدٍّ من الكُلفةِ والضربات القاصمة.
والمشهدُ على مأساويَّته، يطوى داخلَه واحدةً من أكثر المفارقات بُؤسًا وإدهاشًا. إذ يُنكِرُ الضحايا الهزيمةَ مع ما فى ذلك من تعميقٍ لحِدَّتِها، بينما يُنكر الجانى النصرَ، لرغبةٍ فى مُواصلة الحَفر الغائر فى اللحم الحَىِّ. وإذا كان استمساكُ نتنياهو بأهدافِه المُستحيلةِ يقبلُ التوصيفَ من جانب الفصائل بالعَجز عن الحَسْم، فإنَّ ما يُراد منه واقعيًّا أنْ تبقَى الجِراحُ النازفةُ مفتوحةً لآخرها، وأنْ يفوزَ بهامشٍ غير محدودٍ لإنفاذ أجندته الكاملة ضد خصومه على المعنى الواسع، بعدما بدا مُخلِصًا لشعار «وحدة الساحات» أكثر من إخلاص محور المُمانَعة نفسِه، فمدَّد حبلَ التوحُّش فى غزَّة إلى الضفَّة ولبنان وسوريا، ويتطلَّعُ الآنَ بعينٍ واسعةٍ للجائزة الكُبرى فى إيران. أمَّا ما لا يُفهَمُ على الإطلاق، كيف يُفرِّطُ القائمون على القطاع فى جانبٍ من المَظلَمة، أو يُنازعونها بدعايات النصر على خِفَّتِها وانعدام أيَّة شواهد قاطعةٍ عليها، إلَّا لو كانوا يُفرِّقون فى التقييم بين الحركة والشعب، ولا يَعُدّون خسائرَ الناس مِمَّا يخصُّهم بدرجةٍ مباشرة، كما لا تنسحبُ المكاسبُ الفصائليَّةُ المعنوية عليهم قطعًا، وقد صارت حياتُهم جحيمًا كامل الأوصاف، ومن السَّخَفِ أصلاً أن يُكتَفَى فى وَصفِه بالهزيمة.
لسنا فى فُقّاعةٍ مُعقَّمَة، ومهما كان العالمُ أعور النظر ومُعتلَّ الضمير، فلا بديلَ عن الانتماء إليه والإصرار على مُخاطبته باللغة التى يفهمُها. والبديهىُّ أنه لا يستقيمُ أن تدَّعى النصرَ، بينما تتطلَّعُ لإقناع الجميع بأنك واقعٌ تحت سطوةِ جيشٍ نازىٍّ فى حربِ إبادةٍ مفتوحة. الواقعُ يُنبئ عن نَازلةٍ ثقيلة، والرقصُ على السلالم لا يُوصِلُ إلى القِمَّة، كما يسرقُ العيونَ من المِحنَة المُتضخِّمةِ فى القاع. وتلك ربما تكونُ أكبرَ الأزمات التى تعيشُها الشيعيَّةُ المُسلَّحة بكلِّ أذرعها، وليست حماس وحدها، وخُلاصتُها أنهم ينشغلون دائما بغَايتين مُتنازعتين ولا يقبلان التوفيقَ والمُساكنة المُنتِجَة، والمُصيبةُ أنهم يُقدِّمون العاطفةَ فى تثبيت الحاضنة الداعمة، على العقل فى استمالة المُحايدين أو تحييد المُنحازين، وفى النهايةِ يرى الجمهورُ القريبُ واقعًا سائلاً يُناقض الخطابات الصلبة، ويُمسِكُ العدوُّ فى تعاليهم على وَجيعتِهم، كدليلٍ على أنه ما أنجز مهمَّتَه بعد، ولا استوفى حقَّ الدفاع وشروطَ الوصول إلى بيئةٍ مُحيطةٍ آمنةٍ وغير عدوانيّة.
عندما انتقلَتْ إسرائيلُ من حال العصابات إلى صيغة الدولة، لم تكُن مدفوعةً بالبحث عن غطاءٍ شرعىٍّ لأجندتها الإلغائية فحسب، إنما سارتْ إلى الحلم عن قناعةٍ كاملةٍ بأنَّ الأفكارَ تتحصَّنُ بالمَأسَسة، ولا بديلَ عن الصفة القانونية، حتى لو اختُرِقَت لاحقًا، أو تزامَنَ الاختراقُ مع نشأتها المُبكّرة. فى المُقابل، كان انقلابُ «حماس» على السُّلطة ومُنظَّمة التحرير انقلابًا على الهامش الضئيل المُتاح من الدولتيَّة، وارتدادًا لصيغةٍ ميليشياويَّة كاملةٍ، تُضحِّى بالحماية الباقية من زمن أوسلو، ولا تملك مقدرةَ الحياة تحت ظلِّ السلاح أيضًا. وإذا كانت الصورةُ ضبابيَّةً فى فلسطين، بأثر الاحتلال وغياب التسوية، فإنها ناصعةٌ لدرجة الفجاجة فى لبنان. إذ الكيانيَّةُ مُتحقِّقةٌ بالفعل، وأسبقُ فى الوجود من إسرائيل، وخاضت معها جولةَ السلام فى اتفاقيَّة الهُدنة بالأربعينيات، وجولات الحرب قبل اتفاق القاهرة 1969 وبعده. وما حدثَ فى تصعيد «حزب الله» تحت راية المُقاومة، ثمَّ فى تحوُّله إلى سُلطةٍ مُنفلِتَةٍ فوق السلطات المطوَّقة بالدستور والالتزامات، وبما يتجاوزُ الميثاقيَّةَ وفلسفةَ التعايُش وسطَ تعدُّديّةٍ طائفيَّةٍ شديدةِ التركيب، كان فى واقعِ الأمر تَهشِيمًا كاملاً لفكرة الدولة، وإهدارًا للمراكز القانونيَّة والسياسية المكفولة بأُطر النظام الدولىِّ، لصالح اختزال البلد بكاملِه فى صيغة الميليشيا. وبينما لم ينتفِع النظام الرسمىُّ من تلك النزوة الأُصوليَّة بشىء، فقد وجدَ نفسَه مُلزَمًا بسداد كُلفتها الكاملة دون فُرصةٍ للمُناورة أو الاختيار.
هكذا، لا يصيرُ التشبُّث بالنصر فى زمن الهزائم تعبيرًا عن روحٍ نضاليّة، أو رفضٍ للانكسار فى مُواجهةِ آلةٍ جُهنّميّة تختصمُ الجغرافيا والديموغرافيا معًا، فلا تكتفى من قَضم الأرض ولا ترتوى من الدماء. وبعيدًا من المُطاوعة العاطفية، فإنَّ هذا السلوك يُعبِّر عن محنةٍ عقليّة عميقة، وعن أزمةٍ فى الوعى والمفاهيم. فافتراضُ أنَّ الميليشيات مُحلِّقةٌ فى فراغٍ هيولىٍّ عظيم، وتُسأل فى الربح والخسارة عن مُقاتلِيها ومخازن لوجستيَّاتها فحسب، ينسفُ القاعدةَ التى تتأسَّسُ عليها فكرةُ النضال أصلاً، من حيث كونِه أُفقًا تحرُّريًّا يشتغلُ على الخرائط وساكنيها، وليس من غاياته أن يُفرِّغَ التُراب من المُحتل ليُسلِّمه إلى العدم أو كائنات البرارى. والحال، أنَّ الحقوقَ تُطلَبُ لأصحابها، لا لقوَّة عُليا خفيّة، وما لم يُنظَرْ إلى المُلَّاك الحقيقيِّين باعتبارهم مُكوِّنًا أصيلاً فى مُعادلة الاقتدار والاندحار، تصيرُ المسألةُ عملاً انتحاريا فوضويًّا، يخدمُ العدو بأكثر مِمَّا يُخلِصُ للصديق، إذ لو مَدَدنا الخطَّ على استقامته، فقد يصحُّ، ولو خيالاً، استشرافُ أننا بعد عقودٍ سنقفُ على جبلٍ لا آخر له من الطلل والأشلاء، وقد خسرنا الحجرَ والبشر، ولم يَبقَ إلَّا المُقاتلون فى سَرديَّتهم المَزهوّة بالقُدرة على اعتلاء الركام.
أمَّا الخطرُ الأكبر وراء هذا، فليس أنه ينمُّ عن طليعةٍ تفتقدُ البصيرةَ الشوّافة، وتخوضُ المعاركَ كأُضحيَّات مُعجَّلةٍ أو مُؤجَّلة، إنما قد يُفهَم منه أنهم يتعالَون على وجيعة البيئة اللصيقة، وهذا إمَّا ينبعُ من الانفصال عنها، أو من العمل لخدمة غايةٍ بديلةٍ لها. فضلاً على ما تُرتِّبه شواهدُ أُخرى عن العداوة البينيَّة، فيستحيلُ الانصرافُ عن هموم الناس عملاً مقصودًا ضدّهم. هُنا قد تستَدعِى الذاكرةُ ما فعلته حماس فى الفتحاويِّين وبقيّة خصومها عندما تسيَّدت القطاع، أو صحيفة سوابق الحزب من الاغتيالات والمُجاهرة بالعنف وصرف فائض القوَّة ضد اللبنانيِّين. ومع الذخيرة العقائدية التى ينطلقون منها، فقد يُساقُ مَوقفُهم من غير المُنتمين لهم على صِفَة الفرز والتطييف، ومنطق فسطاط الحق وفسطاط الباطل، وهو ما لا يختلفُ عن خطاب نتنياهو ذاتِه إذ يتحدَّثُ عن محور النعمة إزاء محور اللعنة. وباستدعاء «فِقه التترُّس» فيما فُهِم من فتوى ماردين لابن تيمية، وأفرطت فيه أدبياتُ الحنابلة والجهاديَّة الإسلامية لاحقًا، فقد يُخشَى أن يكون إنكارُ الهزيمة، أى إنكار مأساة العوام، صورةً معكوسةً من «التُّرس» البشرىِّ، فإذا كان مَشروعًا للمُقاوم أن يقتُلَ المُسلِمَ المُهادِنَ للاحتلال، فالأكثر مشروعيّة بالمنطق أن يتستَّر فيه. وهكذا، ينتشر المُقاتلون بين الناس، وتُوضَعُ منصَّات الصواريخ على عتبات بيوتهم، ويحقُّ للمُجاهد أن يفعلَ ما يراه صالحًا، وليس للقاعِد أن ينتقِدَه أو يُخَطِّئ مسلَكَه.
الشرعيَّةُ الوحيدة لدى الميليشيات تبدأ من القوَّة وتنتهى إليها. وعليه، إنْ أقرّت بالهزيمة فكأنها تبصمُ على شهادةِ وفاتها، وخيارُها الوحيد أن تظلَّ لآخر رجلٍ وآخر رصاصة، ولو تهرَّبت من رقصة الفناء على حساب المدنيِّين العُزّل. وبحُكْمِ المنشأ والفلسفة، فإنها تختصمُ أوَّلَ ما تختصمُ بيئتَها، وقد وقعَ الاستثمارُ لعقودٍ فى تفكيك مفهوم الدولة، سعيًا لوراثتها. والحال، أنَّ الميليشيا تنزعجُ من دُوَلِها بأكثر مِمَّا يُزعِجُها العدو، ذلك أنَّ الأخير يُقدِّم لها مُبرِّرَ الوجود والازدهار، بينما الأُولى توفِّر بديلاً موضوعيًّا عنها، وهى قادرةٌ على الاضطلاع بمهمّة الحرب ضمن باقة أدوارها، كما تقتدرُ على صناعة السلام الذى لا يعرفونه، كما أنَّ الدولةَ قد تُهزَمُ وتظلُّ على قيد الحياة، لأنها مُرتبِطَةٌ بشروطٍ تتجاوز ميادين القتال، ولديها هياكلُ مُؤسَّسية قادرةٌ على تثمير الانتصارات وامتصاص الهزائم، وعلى الانتقال المُتدرّج بين السياسة والسلاح، بينما الفكرةُ العصابية تنتصبُ على ساقٍ واحدة، وحياتها فى مَقتل الدولة، ومَقتَلُها فى افتقاد لياقة الميدان.
ما حدثَ منذ الطوفان هزيمةٌ كاملة، ولا تمنعُ الشَّفقةُ أو التحدِّى من مَنح الحقائق صِفتَها المُستحقّة، ورغم طُول المحنة منذ النكبة الأُولى، فلم يَسبِقْ أنْ كان الفلسطينيون مَكسورين ماديًّا ومَعنويًّا كاليوم. والحال، أنَّ المُبالغةَ فى إظهار البأس رغم الهشاشة، تُرهقُ المُقاتِلَ بقدر ما تُعظِّم مأساةَ المُسالِم. وتزدادُ المُعضلة بالنظر إلى إفراط محور المُمانعة، رأسًا وأطرافًا، فى محاولات التوفيق بين المُتناقضات، مثل اجتراع الهزيمة فى كؤوس النصر. وتتسع الأمثلةُ من أوَّل النزوة لمُنتهاها: طموحٌ عالٍ للإيذاء العميق مع رغبةٍ فى صفقةٍ مِثاليَّة وغير مسبوقة، عملٌ على تعرية العدوِّ على أجساد الأبرياء مع عَشمٍ فى تثبيتهم دون الكُفر بالمُقامرة، ادِّعاءٌ بالاقتدار مع تَطلُّعٍ لصِفَة الضحية، والتغنّى بالسيادة فى مناخ تطبيعٍ مع التبعية والتزامات المحاور. الإسناد دون اشتباكٍ حقيقى، والربح دون دفع الفواتير، والأخطر ما يخصُّ التخفّى فى الدولة والانقلاب على واجباتها. تتقوَّى الميليشياتُ بالدُّوَل، ثمَّ تأكلُها، وهذا مِمَّا لا يُبشِّر بدوام عافية الأُولى ولا بقُدرةِ الثانية على استيلاد نفسِها من جديد. إنَّ الإقرارَ بالهزيمة ليس تضحيةً ولا هَديّة للعدوّ، إنما يُؤسِّس لكلِّ ما بعده من استيعابٍ للواقع ومقدرةٍ على تجاوزه. وطالما ظلَّ المُؤمنون بالطوفان مُتوقِّفين عند السابع أو الثامن من أكتوبر، ولم يستوعبوا أنهم قرأوا الفاتحة للسنوار ونصر الله بالفعل، فستظلُّ النكباتُ تتناسلُ من بعضها، ونتنياهو يجنى من عِناد الخصوم وسذاجتهم، أضعافَ ما يجنيه بذكائه ووحشيّته، وقدرته على سرقة الوقت وفرض الخيارات الحارقة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة