ليست مُفارقةً عابرة أنَّ فكرة بريكس جاءت من الولايات المتحدة. لقد طرحها جيم أونيل فى مطلع الألفيَّة من منظورٍ رأسمالىٍّ بحت، عندما أراد أن يُقدِّم تصوُّرًا مُتفائلا للمستثمرين عن المستقبل واقتصاد الفرص، بينما كان المناخُ الكونى مشحونًا بتداعيات حادث 11 سبتمبر وآثاره على السوق. والخبيرُ الاقتصادىُّ اللامعُ وقتَها فى حاضنة «جولدمان ساكس»، لم يكُن مَعنيًّا فى المقام الأوَّل بمُخاطبة الجنوب العالمىِّ واستنهاض هِمّته، بقدر ما كان يقترحُ مسارًا بديلاً لتنشيط منظومة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لم يكُن الطرحُ مُتمرِّدًا على صيغة «بريتون وودز» ومُؤسَّساتها؛ بل سعى لتغذية شرايينها بدماءٍ طازجة، قبل أن تلتقط الدولُ الأربعةُ المُقترَحَةُ خيطَ الفكرة: روسيا والصين والهند والبرازيل، ثمَّ تدعو جنوبَ أفريقيا مُمثِّلاً عن القارة السمراء، وتبدأ التجربة على خلافِ ما كان فى مِخيالِ صاحبِها.
وما يُكمِلُ المعنى العميقَ هُنا، أنَّ «الحاكميَّة الأمريكيَّة» كانت حاضرةً فى مشهد التأسيس من زاوية ثانية. صحيح أنَّ البذرة كانت من أونيل، وحُمِلَت على منطقٍ عَولَمِىٍّ مُخلصٍ لقِيَم السوق ببنائها الغربىِّ المُحرَّف، إلَّا أنَّ ما تعهّدها بالرعاية والإنبات كانت واشنطن نفسها، بأثر الهيمنةِ الذى كان فاعلاً فى دَفع الهامش الصاعد إلى التمرُّد على المَتن المُتجَبِّر. والقصدُ أنَّ الأزمةَ صُنِعَت تحت العلم المُرقَّط بخمسين نجمةً، والضربة الافتتاحية على جدارها جاءت من هناك أيضًا. تسبَّبتْ المنظومةُ المُختلَّة فى تعميق مشاعر الظلم والإحباط فى نفوس القوى النامية، وساعدت المُقاربات الساعية لترميمها من الخارج، على تسريع وتيرة التشقُّق فيها، وتحفيز رَكب الساعين إلى إنتاج بديلٍ عنها، أو على الأقلِّ الوصول لنسخةٍ مُحسَّنةٍ وأكثر توازنًا.
وفقَ التسلسُل الزمنىِّ، طُرِحَت الفكرةُ فى العام 2001، فتلقَّفها المَعنيِّون بها ليُؤسِّسوا مجموعة «بريك» بعد خمسِ سنوات، ثمَّ عَقدوا قِمَّتَهم الأُولى فى 2009 واستدعوا جوهانسبرج، وصارت بريكس. وحتى الآن التأمَ الأعضاءُ الخمسةُ فى خمس عشرة قِمَّة، بينما صاروا عشرًا فى النسخة الأخيرة التى انطلقت أمسِ فى قازان، عاصمة جمهورية تتارستان الروسية، بعد إضافة مصر وإثيوبيا وإيران والسعودية والإمارات، وأمامهم طلباتٌ من نحو 34 دولة تسعى للانخراط ضمن التكتُّل، بالنظر إلى ما يملكُه من إمكاناتٍ، وبات يُوفِّره من فُرَصٍ واعدةٍ فيما يتَّصل بالتكامُل البَينىِّ، والانفتاح على العالم من مركز قوّة، مع تعزيز إمكانات التنمية الكفؤة والاستثمار غير المشروطِ بالسياسة.
ويظلُّ أهَمَّ ما يجذِبُ الأنظارَ نحو التكتُّل الجديد، أنه يفتحُ طريقًا بديلاً وغيرَ تقليدىٍّ فى العلاقات الدولية، لا يتأسَّسُ على قاعدةٍ من الهيمنة المَحميَّة بالسطوة، كما لا يُغَلِّبُ مصالحَ طرفٍ على آخر، وهو إنْ كان يُقدِّمُ نفسَه تحالُفًا اقتصاديًّا فى المقام الأوَّل، وربما الوحيد حتى الآن؛ فإنَّ الأبعاد السياسية والجيوسياسية لا تغيبُ عن فضائه بالإجمال، أقلّه من الزاوية الأورو-أمريكية، وفى ضوء وضعيَّة الدول السبعِ الكُبرى، وكيف تنظرُ للمسألة الاقتصادية مشبوكةً فى الهُويَّة والأيديولوجيا والوصفة الحضاريّة، وليس أدلَّ على ذلك من أنها طرَدَتْ روسيا سابقًا، ولم تُفكِّر فى استدعاء الصين حتى اللحظة؛ بعيدًا من استمساك الأخيرةِ بفكرة أنها بَلَدٌ نامٍ، لغَرَضٍ فى نفسِها، أو لحساباتٍ تخصُّ الأعباءَ والالتزامات، وانعدام الجاهزية للمُجاهرة بزمَنِها الامبراطورىِّ، وإطلاق حقبة القُطبيَّة المُتعدِّدة رسميًّا.، وباستحقاقاتها الصراعيّة الكاملة.
المُؤشِّراتُ الحاضرةُ تُشير إلى أن «بريكس» تجاوزت مُنافِستَها الأُولى «G 7» قبل أن تُطلِقَ مُحرِّكاتها على آخرها وبكامل طاقاتها. كانت حِصَّتُها من الناتج العالمىِّ تفوقُ الرُّبعَ، وقفزت إلى قُرابة 29 % بعد التوسعة، فضلاً عن أنها تمتلِكُ رُبعَ الصادرات وثُلثَ المساحة وخُمْسَى تجارة النفط، مع أقلّ قليلاً من مجموع السكَّان، وكلُّها أرقامٌ سائلةٌ ومُتحرِّكة بالنظر إلى مُعدَّلات نُموِّها العالية، قياسًا على حِزَام الدُّوَل الكُبرى التى تتآكلُ حِصَصُها باطِّراد، وبدا أنها على أعتاب مرحلةٍ من شيخوخة المجتمع والأسواق. قوَّةُ البشر والموارد تصبُّ فى حصَّالة الجنوب بما يفوقُ الشمالَ كثيرًا، ورياح الزمن تندفعُ فى أشرِعَتِه، والأهمُّ أنه مِساحةٌ بِكرٌ من الفُرَص والإمكانات، لم تُستَنزَفْ فى سباقات القرن العشرين، كما لا يغيبُ عنها الحافزُ الذاتىُّ، والقُدوة أو النموذج الصالح للمُقارنة والقياس مع العالم الأوَّل.
وسواء شاء الفاعلون من الطرفين أو أَبَوا؛ فإنَّ فكرة بريكس تختزنُ فى داخلها بواعثَ سياسيَّةً واضحة، قد يتأخَّرُ التصريحُ بها؛ لرغبةٍ فى البناء قبل الهدم، أو لزُهدٍ فى الصراعات الخشنةٍ وتَعَالٍ عليها؛ إنما لن يُغيِّر هذا من حقيقة أنها كامنةٌ فى الوعى. وإن لم يُجاهِرْ بها أصحابُها فى القريب؛ فإنَّ الغربَ وقائدَه الأمريكىَّ قد يَستحِثُّها مُبكِّرًا، أو تفرِضُها الظروف والمُتغيَّرات. إنَّ الفكرةَ فى منشأها طَلَبٌ للعدالة وتكافؤ المراكز، ومن المنطقىِّ أن تصطدِمَ مع أُطِر النظام الظالم، أو المُتربِّحين من مظالمه؛ إذ لا يتيسَّرُ أنْ يتعدَّل المسارُ وتُصَوَّب الأوضاعُ الخاطئة، من دون مُقاومةٍ من الراسخ واستبسالٍ من الصاعد.
بريكس قادرةٌ حاليًا على الوقوف فى مُواجهة أعاصير الانحراف، وانعدام العدالة فى إدارة البيئة الاقتصادية العالمية؛ لكنها إلى ذلك تُفاضِلُ بين مزيدٍ من الجنود المُتأهِّبين للقتال إلى جانبها، وفى قائمة المُنتظرين تقف أسواقٌ كُبرى مثل تركيا وماليزيا، ودولٌ غيرهما لها حظوظٌ مُتباينة من الإمكانات والمزايا. وعليه؛ فالإشارةُ الأقوى والأكثر صخبًا أنَّ عالمَ الجنوب يبدو عند أعلى مُستويات التذمُّر وعدم الرضا عن النظام القائم، ويُفتِّش بكلِّ ما وَسِعَته الحِيَلُ والحلولُ عن بدائلَ مَوضوعيَّةٍ تُحقق التوازُنَ المفقود، وتسعى لتثمير قُدراتها بما لا يُوجِّه ثِمارَها لسَلِّةِ أطرافٍ أُخرى، أو يَحرِمُها من التغذية الراجعة وفقَ مُعادلةٍ تنمويَّة، تشارُكيَّةٍ ومُتكافئة. والمنطقُ أنَّ تكرار الطَّرْقِ على الأبواب سيفتحُها بالضرورة؛ أكانَ بمُقاصّةِ الحقوق والالتزامات بين الأسواق الرائدة والنامية، وإعادة تحرير الرهانات بحسبِ المُعطيات المُستَجَدَّة، أو بمُواصلة اجتذاب الفراشات التى تحومُ حول نار الغرب؛ ولديها هاجسٌ دائمٌ من مَغبّة الوقوع فيها بكامل الجسد وارتهان القرار والمُقدَّرات.
قال الرئيسُ السيسى فى كلمته أمام الجلسة المُوسَّعة للقمَّة؛ إنَّ الأزمات الأخيرة أظهرت عجزَ النظام القائم عن التعامُلِ بإنصافٍ مع صراعات السياسة والاقتصاد. وما أكَّدَه من وُجوبيَّة تدعيم الأُطُرِ الدوليَّة مُتعدِّدَة الأطراف، وتفعيل أدوار الأُمَم المتحدة، والتطلُّعِ صَوبَ تحقيق العدالة والتوازُن المفقود بين الدول، على قاعدةٍ من التكافؤ والشراكة الإيجابية، لا يُمثّلُ وجهةَ النظر المصريَّة وحدها فى سياقٍ غائمٍ ومُلتبسٍ كالذى يحياه العالمُ. إنها عناصرُ ثابتةٌ ومُجمَعٌ عليها بين دول بريكس، وبقيّةِ الطَّيف الجنوبىِّ الذى يقفُ على أبواب الكُتلة، أو يُحايثُ فى فكرة الاقتراب منها والانخراط فى وَرشتها النَّشِطَة.
وربما لو أُثيرت المسائلُ ذاتُها داخل مجموعة السبع، أو بين دول العشرين، بل وفى القلب من القوى دائمة العضوية فى مجلس الأمن الدولى؛ ستجد الجميعَ مُتّفِقين على قصور الصيغة القائمة عن الاضطلاع بمهامِّها المطلوبة، والحاجة المُعجَّلة والشاملة إلى ضَبطها وتعديلها، حتى أنَّ الولايات المُتَّحدة نفسَها كرَّرت الزعمَ بأنها مع إصلاح المنظومةِ الأُمَميَّة، وتوسعة عضويات مجلس الأمن ولو من غير الفيتو، ولا يتوقَّفُ الكلام فى ضَبطِ أداء مُؤسَّسات بريتون وودز، وإعادة تدقيق ومُعايرة البوصلة التى تقود صندوق النقد والبنك الدوليين. وإذا كانت الشواهدُ كُلُّها تصبُّ فى اتِّجاه الإقرار بعموميَّة عدم الرضا؛ فالبديلُ الشرطىُّ أن تتواتر المُقترحاتُ بشأن الهيكلة، أو إعادة البناء على أُسُسٍ سليمة؛ إنما وقتَها سيكون الخلاف حتمًا فى النطاق المُعبَّأ بالتناقضات بين الاتفاق على الغاية والاختلاف فى الوسائل، ورُؤية كلِّ طَرفٍ للمآل الذى يتوخّاه انطلاقًا من أولويّة المنفعة وغطرسة الانتصار لمصالحِه المُباشرة.
الخطابُ المُعلَنُ أنَّ «بريكس» لا تُعادِى الغربَ ولا تُسابِقُه على وراثةِ الهيمنة؛ والمُؤكَّدُ أنها صادقةٌ لاعتباراتٍ عِدَّة: أوَّلها أنَّ أغلبَ دُوَلِها ما تزالُ مَشبوكةً معه من نواحٍ يصعبُ تجاوزُها أو تفكيكُها فى المدى المنظور، وأنَّ مسارَ الإصلاح وترميمِ تداعيات حِقبة الاستنزاف الطويلة قد يتطلَّبُ سنواتٍ عِدَّة؛ إن لم تَكُن عقودًا، والأهمّ أنه ليس من صالح الراغبين فى الانتفاع بثمار التراكُم المعرفى والحضارى للعالم، أن يذهبوا لاختصامِ كُتلةٍ كُبرى وفاعلةٍ فيه؛ أو لعلَّها الأكبرُ والأكثرُ فاعليّةً إلى اليوم. وعلى هذا المعنى؛ فإنَّ التجمُّعَ لا يُمارِسُ التقيَّة والمُداراة عندما يجزمُ بأنه ليس فى حربٍ مع النظام القائم، من حيث النظر لفكرة الحرب على أنها نزاعٌ على النصر الكامل، ولغايةِ الصعود فوق جُثّة الغريم.
وبطبيعةِ الحال؛ فليس الغرض أن تُطيحَه أو تُستَخْلَفَ على تَرِكَتِه؛ بل أنْ تجُرَّه عبر التعاطى معها نحو أنسنةِ أجندته الاقتصادية، والنظرِ إليها من زاويةٍ أكثر اتِّصالاً بالقِيَم الوازنة، وأنْ يتشاركا معًا فى بناء نظامٍ جديد، وليس تَسيِيد تصوِّرِ منهما على حساب الآخر. لكنَّ ما يُساقُ على صِفَة المُنافسة وطَلبِ المُساكنة الهادئة، هو نفسُه ما سيستفِزُّ نزعةَ الهيمنة الغربية ويُنشِّطُ غُدَدَ الصراع فى مُقدّم رأسِها؛ لأنَّ الشمالَ ما يزالُ على إنكاره للمَظلَمة أصلاً، ويتمسَّكُ بفكرة الاستحقاق مع كلِّ ما تكتنزُ به من معانى السَّبْق والأفضليَّة والتعالى. وعليه؛ فإنَّه يستنكفُ انتفاضةَ الجنوب على تُراث التهميش الطويل، ويتحسَّسُ من مساعيه لتجاوز قيودِه الحاضرة، وسيبذلُ كلَّ ما يستطيعُ من أجل تقويض الثورة الجنوبية الناعمة، أو استدعائها إلى ميدان الاحتراب الساخن.
قد لا يكونُ النزاعُ مع روسيا على الأرض الأوكرانيَّة بعيدًا من أجواء الصدام الاقتصادىِّ المُؤجَّل، والفكرةُ بعَينِها فى اختصام الصين من ناحية تايوان، أو تطويقِها بحزامٍ من التحالفات مثل «كواد» و«أوكوس» وما يحدثُ فى بحرِها الجنوبى. إنَّ الولايات المُتّحدة وقبيلتَها تختزلُ المُنافسةَ العالمية فى صورة موسكو وبكين، وتُرتِّبُ على ذلك أنَّ «بريكس» ما استُحدِثَتْ إلَّا لرَفدهما وتعزيز مراكزهما، وتأسيسًا على ذلك فإنّه يتيسَّر تقويضُها من جهة الغمز فى قناتيهما.
وهذا إن كان صالحًا للتداول على ظاهر الصورة؛ فإنّه يَسقطُ مُجدَّدًا فى فَخِّ التعالى على الأزمة الحقيقية، وإراحة الضمير عبر مَنح المُناكفة الدائرةِ صِبغةً سياسيَّةً تُؤطّرها الأيديولوجيا وحروب الثقافة والهُويّات المُغلقة، فى تناقضٌ صارخٍ مع خطاب العلمانيَّة الذى ابتدعوه بأنفسهم؛ بينما الواقعُ يجزمُ بأنَّ ما يُحرِّكُ الروسَ والصينيين تجاه الغرب، لا يختلفُ إطلاقًا عَمَّا تحملُه صدور بقيّة الجنوبيِّين بعد قرونٍ من الامبريالية المادية الخشنة، ثمَّ من استعمار القرار وتقويض المجالات الحيوية للنهضة والنمو، وتكريس كلِّ الجهود من أجل تقعيد فلسفة الاستلاب والاستتباع، وإكسابها طابعًا مُقَونَنًا عبر النظام الدولىِّ ومعاييره المُلوَّنة.
«الشرقُ شرقٌ والغربُ غربٌ ولن يلتقيا»؛ هكذا يبدو أنَّ الشاعرَ الإنجليزىَّ روديارد كبلنج مَنحَ بمَقولتِه الذائعة صِفَةً وُجوديَّة للصراع، قبل أنْ يُعمِّقها فوكوياما بحديثه عن نهاية التاريخ لصالح الليبرالية الاقتصادية فى صيغتها الأنجلوساكسونية. والمُفارقةُ أنَّ الافتراقَ المعنوىَّ فيما يخصًّ الثقافة اتَّخذَ طابعًا جغرافيًّا صلبًا وسهلَ التوقيع على الخرائط، بين الرجل الأبيض المُنتشر من مُفترق آسيا وأوروبا إلى أقصى الساحل الغربى الأمريكى، وبقيّة الألوان فيما عدا ذلك من أحوزةٍ مُتسامية. بينما قضيّةُ الاقتصاد ذات الهياكل الماديَّة سُبِكَتْ فى قالبٍ رمزىٍّ، فلا يُمكنُ الحديث عن الشمال والجنوب وفقَ التشريح الطبيعىِّ للأرض؛ إنما من زاوية العُلوّ والهيمنة ونزعة الاستتباع. وإذا كان من المُستحيل التوفيق فى الأُولى؛ فلا مفرَّ من اختراع التناسُب الغائب عن الثانية، بحيث يكونُ اللقاء فى منطقةٍ وَسِيطة، فلا يعودُ العالمُ مُتشظِّيًا فى قسمتِه المُركّبة؛ إذ يكفيه ما فيه من خصامٍ نفسىٍّ يُربِكُ أعضاءه وعمليَّاتِها الحيويَّةَ أصلاً، دون تحميلِها مَزيدًا من عوامل الفُرقة والصدام؛ وإلّا فستنقلبُ الآيةُ الرمزيّة رأسًا على عقب، وإذا كان الشرقُ والغربُ ثَابِتَين؛ فإنَّ الجنوب يمكن أن يصير شمالاً، والعكس.
بريكس ليستْ مُجرّد صرخةٍ جنوبيّة فى سماء الغرب الغائمة، ولا تعبيرًا عن وَصفَة العائدين من التهميش لإحقاق العدالة، واستكشاف قُدرتِهم على التشافى من العِلَل التى أُورِثوها، ولم يكونوا سببًا فيها. ميزتُها أنّها تنطلقُ من نطاقٍ يتجاوزُ الحكومات؛ وإن ظلَّتْ الطَّرفَ المُباشر فى مبناها وتعاقُداتها، بمعنى أنها تنظرُ للمُجتمعات من زاويةِ التساوى والتكافؤ، ولا تُرتِّب أيَّة تمايُزاتٍ لطرفٍ على آخر انطلاقًا من القوّة أو الضعف، أو من مُواءمةٍ فى الحاضر وبراجماتيَّةٍ خَفيّةٍ إزاء المُقبل؛ لذا تنشغلُ بالتنمية لا بالسياسات الاقتصادية، ويغيبُ عنها الانحيازُ الصارخُ لدى مُؤسَّسات ما بعد الحرب العالمية، وتُراهن على التعاون والاستثمار المُتبادَل، بأكثر مِمَّا تشتبِكُ وفقَ آليَّة المُقايضة على المواقف والتوجُّهات. والقصدُ أنها لا تُستَثمَرُ سياسيًّا لصالح دولةٍ على حساب الباقين، ولا يُنظَرُ إليها على صورة التحالف الجَبهوىِّ. صحيحٌ أنَّ حصّةً من نجاحها ستصبُّ فى خزَّانَى العَدوَّيْن اللدودين روسيا والصين؛ لكنّها الفائدةُ الطبيعية المُوَلَّدة عن كلِّ قفزةٍ للأمام، والتى لا تعنى بالضرورة حرمانَ الآخرين من الفرصةِ نفسِها، ولا إجبارَهم على القَفز معها إلى نطاقاتٍ تتجاوزُ حدودَ اللقاء والاتفاق.
حشدتْ روسيا كلَّ طاقتها لإنجاح النسخة الجديدة، وبجانبِ الشِّقِّ الأصلىِّ رفيع المستوى بعنوان « تعزيز التعدُّدية من أجل التنمية والأمن العالَمِيَّين العادِلَين»، استحدَثَتْ مسارًا مُوازيًا يتَّسعُ للشركاء من الخارج، مُسمَّاه «بريكس بلس»، وشعاره «بريكس والجنوب العالمى.. بناء مستقبل العالم معًا».. والحال؛ أنَّ حضورَ اثنتين وثلاثين دولة، تتمثَّلُ أربعٌ وعشرون منها بالقادة والرؤساء، لا يُعبِّرُ عن حالة الزخم المُرافِقةِ للكُتلة فى صعودها فحسب؛ إنما يُضىء للجانب الآخر بمِقدار المرارة التى فى النفوس، ودرجة الصلابة والتحدِّى للهيمنة الغربية، مع ما تردَّد عن مُمارسةِ ضُغوطٍ على بعض الدول للغياب عن القمّة أو تقليص مستوى التمثيل. ومع الإقرار بأنَّ السياسة ما تزال غائبةً عن شاشة المرفق التعاونىِّ الجديد؛ فإنَّ من معانيه الضمنيَّة التى يصعُب تجاهلُها، ما يؤكِّدُه من إخفاق الغرب الأطلسىِّ فى تطويق روسيا، أو خَنقِها سياسيًّا واقتصاديًّا، وعَزلها عن العالم فى الشراكة والعلاقات. مُؤشِّراتُها الاقتصاديَّةُ ليست أسوأ مِمَّا كانت عليه قبل سنتين، ولُعبةُ الاستنزاف التى مُورِسَت عليها من الجهةِ الأوكرانية؛ انقلَبَتْ على «الناتو» وبيئته إهدارًا للموارد وانقسامًا فى الرؤى والأهداف.
ستلعبُ الكُتلة دورًا مُهمًّا فيما بين الأعضاء؛ لكنها ستتركُ آثارًا غير مُباشرةٍ على بقيّة الجنوب البعيد عنها. إنَّ ترقيةَ حظوظ الهامش الجغرافىِّ والثقافى على حساب المَتن الغربى، سيقود الأخيرَ لترشيدِ بعض خياراته الزاعقة، وخَوض السباق وِفقَ معايير التنافُسيَّة والجذب؛ لاستمالة المُحايدين أو تحييد المُنحازين. هكذا يُمكنُ أنْ تستفيدَ دُوَل التجمُّع مَرَّتَين: الأُولى بما بينها من شراكةٍ وتعاونٍ وانفتاح على الاستثمار والتجارة وتسوية المُعاملات بالنقد المحلىِّ، والثانية بالمزايا والإغراءات التى قد يُقدّمها الغربُ لإبطاء مُعدَّل صعود الغريم وضَبط الموازين، وبارتداده عن سياساته الإلغائية والعقابية إلى صيغةٍ أقلّ توحُّشًا وأكثر اعتدالاً. قد تتقلَّصُ مستويات خَنق المُناوئين بالاقتصاد، وتذخير الدولار ليكون سلاحًا غير أمينٍ فى المعارك، مع العمل على بناء شراكاتٍ مُثمرة أو تحسين شروطِها التعاقدية، وحتى لو لم يحدث؛ فإنَّ القطار قد غادر المحطَّة، وعالم الجنوب بات عالمًا بالخرائط ويتلمَّسُ طريقَ الوصول. وكلُّ ما يُطرَحُ على طاولته مهمُّ للغاية: أمن الغذاء والطاقة، تطوير الحوكمة الدولية للديون، الاقتصاد الأخضر والتكيُّف مع المناخ، التجارة وتدفُّق الاستثمار بَينيًّا، التمويل المُيسَّر وتبادُل الخبرات، تعزيز الحضور فى المنظومة النقدية الدولية، والتوسُّع فى التسوية بالعُملات الوطنيّة، وربما الوصول إلى عُملةٍ مُشتركة فى المستقبل؛ لكنَّ الأهمَّ أنَّ المريض تعرَّف إلى عِلَّتِه وتوصَّلَ لوَصفة العلاج، وأنَّ عصافير الجنوب الحبيسة غادرت الأقفاصَ بالفعل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة