ليس من أدوار السياسيِّين أن يكونوا مُشعِلى حروب. وحتى لو كانت الحربُ صورةً من السياسة؛ فإنها أردأُ صُوَرِها وأقلُّها طَلبًا، فضلاً على اصطدامِها مع جوهر الفكرة السياسيَّة، من حيث كونها انحيازًا للإدارة المُنتِجة، وتحقيقًا للأهداف من أقصر السُّبل. ومهما كانت المَقدرة وفوارق القوَّة؛ فلا يصحُّ اعتبارُ القتال طريقًا مُختصَرةً، ولا عملاً مُثمِرًا ولو اختُتِمَ بالنصر. وعلى هذا المعنى، يذهبُ إلى الميادين أكثرُ الحُكَّام عجزًا عن إدارة الدواوين، ويتشدّدون فى الخيارات الساخنة تعويضًا عن افتقادهم للفاعلية الناعمة، بعيدًا بالطبع عن صِفَة الاضطرار حينًا، وعن الطموح لتحريك الأوضاع الجامدة أحيانًا. هكذا يُمكنُ أن نفهمَ سُلوكَ بنيامين نتنياهو تجاه غزَّة، وفى الضفَّة الغربية وجنوب لبنان وُصولاً إلى إيران. أتاه «طوفانُ السنوار» على شوقٍ واحتياج، وتلقَّفَ الهديَّةَ المجَّانية ليُجيّرها لحساب الخروج من أزماته الداخلية، وتفعيل أجندته اليمينيَّة فى نُسخَتِها المُحدَّثة، بعدما قاده التدرُّج الطبيعىُّ فى التطرُّف إلى شراكة التوراتيِّين، والاستناد إليهم، والتعبير بأكثر الصيغ فجاجةً عن وحشيَّة إسرائيل، وعن وجهِها الفاشىِّ القبيح.
بعيدًا من مشهد الولادة العِبريّة، أو النكبة وبَترِ الأرض بالمفهوم الفلسطينى؛ فالجولةُ الحالية من الصراع سجَّلت رقمًا قياسيًّا فى الوقت والدم. وما توافَرَتْ المُقدّماتُ الصادمةُ للوعى والهويّة الوطنية كما كان فى السابق؛ بمعنى أنَّ الجغرافيا مَسروقةٌ بالفعل، والديموغرافيا مُحاصَرة، والتوازنات مُختلَّةٌ لدرجةٍ فادحة.
فى الزمن القديم: طُبِخَتْ المأساةُ على نارٍ هادئة، وترقَّتْ تحت بصرِ الناس؛ لكنَّ توقيعَ ما أفرزته الهندسةُ الاجتماعيَّة المُوجَّهة على الخرائط كان صادمًا بما يفوقُ الاحتمال، فانتفَضَ الجمهورُ العريض، وتدخَّل المحيطُ العربىُّ تحت لافتةٍ قوميَّة عقائديّة، بينما فُرِضَتْ تراجيديا المذابح والترانسفير على الأغلبيَّة دون مُقاومةٍ أو نضال. والمسألةُ هكذا أقربُ إلى إغارةٍ كاسحة من الخارج، لا سبيلَ إلَّا التمرَّد عليها أو الانبطاح أمامها، ومن دون حسابِ القدرة على ذلك أو التوقُّف أمام أعبائه الباهظة. واختلافُ النسخة النَكْبَويَّة الجديدة أنها ما سقطَتْ على الناس من سماء العدوِّ، ولا أنشأها تحويرٌ عميقٌ فى بيئة القضية؛ بل افتُتِحَتْ بمُبادرةٍ من جهة المُنتدَبِيْن للنضال، أكان نَدبًا شعبيًّا، أم بتصديرِ أنفسِهم أو تصعيدِهم برعايةٍ خارجية. والقول هُنا غرضُه التفكيك والترتيب؛ لا الإدانة ولا تبرير العدوان.
والسؤالُ ليس عن أخلاقيَّة التصدِّى للاحتلال؛ إذ إنه من البديهيات الراسخة، وأحد الحقوق التى لا تقبلُ الجدلَ أو المُساومة. والتوقُّف إنما يقعُ أمام سؤال الإمكانيَّة والجاهزية، وطابع الرضا الشعبىِّ بالجولة والاصطبار على تكاليفها. وإذا كانت «حماس» قد أجادت فى حَفر شبكة أنفاقٍ عظيمة فى بطن غزَّة؛ فقد أحسنت التأسيسَ لاستراتيجيَّتها العسكريّة الراميَّةِ للتغلُّب على ضِيق المساحة، وافتقاد العُمق الجغرافىِّ الكفيل بتأمين الحركة واللوجستيات، وهذا لو نظرنا للمُواجهة من زاويةِ أنها صِدامٌ بين جيشين، أو بين عصابتين، من دون انتدابٍ للجمهور الذى لم تتأمَّن له سواترُ الحماية والنجاة كما تأمَّنَتْ للمُقاتلين.. استثنَى «السنوارُ» بيئتَه الشعبيَّةَ من الاهتمام تمامًا، وكان طبيعيًّا أن يُجاريه نتنياهو، وأنْ يَرُدَّ على صفعتِه فى الغلاف، بجَزِّ الرقاب فى القطاع. كان الهجومُ دَعائيًّا، والهجومُ المضادُّ استعراضيًّا، وكلاهما من عَملِ الذوات المأزومةِ بواقع الحال، والمنفوخةِ دون قُدرةٍ أو استحقاق، ما يعنى أنها حربُ قادةٍ بالأساس، ومُعضلةُ كفاءةٍ فى مقامِها الأوَّل.
أراد مُقاتلو القسّام التصويبَ على نتنياهو؛ فاتَّخذوا شَاخصًا بديلاً عنه فى أقرب نقطةٍ تطالها أياديهم. والنظرُ فى سلسلة الوقائع يكشفُ عن رغبةٍ فى استثمار المُنازعة الداخلية، والسعى لتكثيف الضغوط الواقعة عليه بأثر مشروع الإصلاح القضائىِّ، وارتفاع حِدَّة المُعارضة من تيّار الوسط، بل وفى داخل الليكود نفسه أو على يمينه. ورئيسُ الحكومة الصهيونيَّة إذ يتصلَّبُ اليومَ، ويضعُ سلاحَه فوق كلِّ أُفقٍ سياسىٍّ مُمكِن؛ إنما يثأرُ لذاته قبل أن يكون مَعنيًّا بصورة الدولة، ويدافعُ عن إرثه الطويل فى مُناكفة الفلسطينيين، وشَطبِ حُقوقِهم من قائمة الخيارات المعروضة للنقاش أصلاً. وإذا كانت كلُّ الجولات السابقة لم تحسمْها القوّةُ، فليس مأمولاً لأحد الطرفين أن يتوهَّم فيها حاليًا ما عجزت عنه فى السابق، وفيما دون الاستنزافِ الذى تُحقِّقُه الحقبةُ الطوفانيَّة، أو «حرب القيامة» كما أسماها الاحتلال؛ فالظاهرُ الوحيد منها أنها عبَّرتْ عن مِحنة القيادة لدى الجانبين، وعن حاجة كُلٍّ منهما إلى بديلٍ أكثر وَعيًا وفاعليّة، وينطبقُ ذلك على القتال مثلما ينطبقُ على الحوار؛ إذ تبدَّى أنهما عاجزان عن الأمرين معًا: إمَّا بالسَّير المُتخبِّط وراء سراب النصر الكاسح، أو بسذاجة افتراضِ الهزيمة بمُجرّد الاعتراف بالآخر.
كانت الخرائطُ مُشتعلةً والعقولُ باردةً؛ أمَّا اليوم فقد شَبَّتْ النارُ فيهما معًا. الدولةُ التى بُنِيَت على أكتاف العصابات، ومُخلَّفات الحرب العالمية الثانية، نجحت سريعًا فى اصطناع كيانيَّةٍ سياسيَّةٍ قادرةٍ على صَلْب عُودِها، وإقناع الداخل قبل الخارج بأنها صالحةٌ للحياة والازدهار. وفى كلِّ المحطات التالية؛ كانت ديناميكيَّةُ القيادةِ أثمنَ الأُصول العسكريَّة لدى السارق والمسروق على حدٍّ سواء. لم يَسِرْ فلسطينىٌّ تحت ظِلِّ السلاح كما سار عرفات، ولا أخلَصَ أحدٌ منهم للسياسة والبحث عن السلام مثلما فعل، وفى الأُولى أوجَدَ القضيَّة فى الوجدان والوعى، ومنحَها حضورًا ملموسًا عبر «فتح» ومُنظَّمة التحرير، رغم ما أُخِذَ عليه من أخطاء تجاه الحاضنة العربية. أمَّا فى الثانية فقد أعاد النضالَ إلى حديقة البيت، وسَوَّرها بحالةٍ إجماعيَّة تحت سقف الكاريزما والثقة. والعدوُّ أيضًا لم يُقَصِّر فى تقديم أُمثولته القياديَّة: كان مُتوحِّشًا حينما سمحت الظروفُ وتطلَّبَتْ شروطُ الإنشاء، وارتدعَ بتهديد أيزنهاور فى زمن العدوان الثلاثى، وعاد للتجبُّر عندما تمكَّن، وقدَّم أوراق اعتماده للحليف الأمريكى فى حرب الأيام الستّة. والمُفارقةُ أنَّ أحدَ صُقورِه الذين سطَّروا سرديَّتَه بالدم، مناحم بيجين، كان هو نفسُه مَنْ وقَّع على اتفاقيَّة السلام مع مصر بحِبرِ المذلَّة والانكسار.
عملانيَّة «عرفات» بدت غائبةً عن ورثته، على معنى الصلابة والتقافُز بين الخيارات. أى أن يكون المُناضلُ طبيبًا فى قسم الجراحة، لا مُمرِّضًا فى العناية الفائقة كحال عباس، فيظلّ قادرًا على اقتراح الحلول التلطيفيَّة بينما يقبضُ على مَشرط الجرَّاح بأصابعه الخمسة. والخِفّةُ التى طبعت المُنظَّمة بعدما خَفت بريقُ أوسلو، وأُزِيحَ سَيِّدُها الفلسطينىُّ من المشهد، بالحصارِ الخانق ثمَّ بالاغتيال الرمادىِّ، سمحَتْ للأُصوليَّة الإخوانيَّة أن تنتدبَ نفسَها بديلاً عن سرديّة النضال الوطنى فى تاريخها الطويل، واكتفت عن القطيعة مع التدرُّج الطبيعىِّ، بأن تنتسب للماضى رَمزيًّا عبر استعارة اسم السورىّ عِزّ الدين القسّام. والأخيرُ أوجدَتْه الظروفُ القائمةُ فى زمنِه، وكان الانتدابُ البريطانىُّ قائمًا، واليهودُ أقليّةً لا يَنظُمُها خيطٌ ظاهر، والمُنازعةُ الاجتماعيَّةُ بسيطةً لدرجةٍ تقبلُ التفسيرَ بالدين حصرًا؛ لكنَّ «حماس» جاءت مُتأخِّرةً أربعةَ عُقودٍ، وحاولت أن تبتدئ المُواجهةَ من نقطة الصفر، وأن تُعيدَ البلد لماضيه مبتورًا وضعيفًا، بعدما صارت للصهاينةِ دولٌة محلُّ اعترافٍ واسع، وانتقل الفلسطينيون من احتلالٍ عابر إلى احتلالٍ مُقيم وإلغائىٍّ. والشرخُ الذى أحدثَه الحماسيِّون لم يكُن فى جدار الزمن فحسب؛ بل فى إعادة القضيَّة لدوائر الانتماءِ البدائيَّة؛ بعدما تخلَّصت من الرطانة وصاغت هُويَّتَها الوطنية الجامعة، وفى التخلِّى عن الذاكرةِ الحَيّة بكلِّ ما فيها من مآسٍ ومُكتَسَبات، والتناقُض الصارخ بين الوقوف على أكتاف الآباء، وإنكارِهم برعونةٍ صارخةٍ ومُزايداتٍ فَجّة.
كانت الحركةُ تُقرّ بزعامة «أبو عمار» على مَضَض؛ ولأنها عاجزةٌ عن إنكارِها أو الحلول بدلاً منها. لكنها منذ رحيلِه سَعَتْ للاستحواذ على تُراثِه دون تفعيل رمزيّته. ارتقَتْ سياسيًّا على سلالم مُنظَّمة التحرير دون انصياعٍ لها، واعترفَتْ ضِمنيًّا بإسرائيل فى ترشُّحها للانتخابات الناشئة عن أوسلو، بينما ظلَّت على سرديَّة الوَقْف الإسلامىِّ من النهر إلى البحر، كما سَعَتْ لاختراع مرجعيّةٍ قياديَّة من جهة استغلال تراجيديا الشيخ القعيد أحمد ياسين، ثمَّ خليفته المقاوِم عبد العزيز الرنتيسى، ومع تكرار الفشل فى إنتاج «الصورة الطاغية» كرَّرت المحاولات بعد اغتيال إسماعيل هنيّة فى طهران، وسقوط يحيى السنوار على أرض غزَّة. ولأجل هذا غيَّرت روايتَها عن الطوفان مُؤخَّرًا، وبعدما كان يُنسَبُ لزعيم الحركة قبل مَقتَلِه، صارت تَرُدُّه إلى قائد كتائب القسَّام، محمد الضيف؛ فيما يَنُمّ عن رغبةٍ فى تطهير «السيرة السنواريَّة» من أيَّة شُبهات تخصُّ الخِفّة والاستعجال وسوء التقدير، أو ترميه بالتسبُّب فى إراقة الدم وإضاعة الأرض، على الأقلّ بالقفز دون تحضيرٍ، وبإرخاء المُبرِّرات لنتنياهو، والقصدُ هُنا ينصرفُ إلى إكساب الرجلِ صورةً مِثاليّةً تحتكمُ لمشهد الموتِ وحده، وتشطُبُ كلَّ ما عداه من مشاهدِ ارتباكٍ وإخفاق؛ كما لو أنهم يُحاولون إعادةَ إنتاج نُسخَتِهم الخاصّة من عرفات.
أحسبُ أنَّ «عرفات» كان يتقافَزُ بين العواصم، وعَينُه على «رام الله» منذ القفزة الأُولى. وفارقُ الزعيم الحَقِّ عن أبطال المنابر والحناجر، أنه يتطلَّعُ للمُستقبل بينما ينظرون تحت أقدامهم. وإذا كان القطاعُ قد استحال جِبالاً من الرَّدْم والأشلاء؛ فإنَّ الخيالَ الحَىَّ والخلَّاق مُلزَمٌ بالغناء للآمال لا البُكاء على الأطلال. وما يحدثُ أنَّ قادة حماس يقفون عند اللحظة الراهنة، ولا يتركون هامشًا للبحث فيما وراء الهزائم والحِداد. ولنَدَع عنوانَ «اليوم التالى» كتسميةٍ أمريكيّة مشبوهة، أو لأنها صارت تُعبِّرُ عن استراتيجيَّة إسرائيل فى غزّة، بأكثر مِمَّا تخصُّ الأرضَ وساكنيها. إنما لا يغنى ذلك عن ضرورة التحرُّر من سطوة المشهديَّة المأساوية، ومن دعايات الصمود والبأس وأنه «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، وما أعنيه ليس تركيبةَ الإدارة التنفيذية فحسب؛ بل طبيعة الأجندة السياسية، ونمط القيادة، وآليَّة الوصول إلى رمزيّةٍ إنسانيَّةٍ مُوازيَّة للقضية، ومُعبّرة عنها ومُعزِّزة لها. وإذا كانت الضغوطُ الوقتيَّةُ قد تجاوزت ياسر عرفات وزمانَه؛ فإنَّ أحمد ياسين وعيالَه لا يصلحون أيضًا. وواجبُ البحث فى الرمز؛ ربما يفوقُ رومانسيَّة الحديث عن شرعية التمثيل، وبناء السلطة صعودًا من القاع إلى القمّة.
التجربةُ العملية أنَّ الحركة الأصوليّة صعدَتْ بالصناديق؛ ثمَّ انقلَبَتْ عليها. فِقهُ الأزمة أجازَ لها أن تلغى الشارعَ تمامًا، وألَّا تتشارك الهيمنةَ على مقاليد الحُكم مع فصيلٍ آخر، ولا أن تُعيدَ الولايةَ لأصحابها الأصليِّين من جمهرة الناخبين. وبعيدًا من سُلوكها الشُّمولىِّ المُتسلِّط، وما اقترفته من تجاوزاتٍ بحق البلاد والعباد؛ فربّما يُفهَمُ بالمنطقِ أنَّ الديمقراطيةَ تفتقدُ الشروط اللازمة لتحقيقها فى فلسطين، بينما لا وجودَ للدولة أصلاً، وغايةُ التحرُّر تتقدَّمُ بالضرورة على غايات الحوكمة والإدارة الرشيدة، مع ما بينهما من تعارُضٍ أحيانًا. سيكونُ مَطلوبًا أن تُخفِى السُّلطةُ بعض الأُمور لغرض الأمن والمناورة، وأن تُظهِرَ عكس ما تُضمِر، وأن ترعى السياسةَ والسلاح بالكفاءة نفسِها، مع إسناد المُقاومة وإنكارها فى آنٍ واحد. وإذا كان الإجماعُ مَطلوبًا لتحصين البيئة الوطنية، وتوظيف عوامل القوَّة كلِّها لخدمة المشروع؛ فإنَّ «حالة الزعامة» من أهم مُفردات النضالات التحرُّرية، وقد لا تستقيمُ تجربةُ التمرُّد على الاحتلال فى أحواله العادية دون قائدٍ رَمز؛ وهذا ما يتضاعَفُ إزاءَ صيغة الإحلال والإلغاء التى تتَّسمُ بها الكولونياليَّة الصهيونية.
المأسَسَةُ مهمَّة للغاية؛ إنما العقلُ الجالس على رأسها لا يقلُّ أهمية. يُمكِنُ للقائد أن ينوبَ عن هيكلية الفصائل، وأن يُحرِّكَ مجالَه العام فى فرديّته بفاعليَّةٍ لا تقلُّ عن حركات الحشد المُنظَّمَة؛ لكنَّ الأخيرة ليس فى مَقدورها مُطلَقًا أنْ تحلَّ بديلاً عنه، والدليل فى استدراك ما فات خلال العقدين الأخيرين من منازعات الحماسيين والفتحاويين. أمَّا الآن؛ فلم يَعُد الرئيسُ عباس صالحًا للدور المطلوب، مع كامل الاحترام لتاريخه وشراكته الطويلة فى مُدوّنة النضال، كما لا يصلحُ أىُّ وجهٍ من حماس على الإطلاق. والمطلوبُ فى الرمز أن يُجسِّدَ قِيَمَ القضيَّة فى أوضح صُوَرِها، وأنْ يحوزَ شرعيّةَ الشارع والنخبة، والقبول على مقاييس الساسة والمُقاومين، ولا تختلطُ بصفحتِه البيضاء شائبةٌ مِمَّا يمسُّ الجدارةَ واستقامة الضمير، أو يضربُ الثوابتَ الراسخة، أو يجعلُه عُرضةً لاحتماليَّة المُساءَلة فيما يتعارضُ مع الإنسانية أو الوطنية. والحال؛ أنَّ كلَّ صِفةٍ مَطلوبة للزعامة لا تنطبقُ فى الراهن سوى على مروان البرغوثى، ولا أحد سواه.
يتحقَّقُ فى البرغوثى كلُّ ما لدى حماس ويزيد. لقد بدأ النضالَ صَبيًّا، وكان من قادة الانتفاضتين، وقضى فى سجون الاحتلال قرابةَ نصفِ عُمره على نحو خمسة أو ستّة اعتقالات. عرفَ المُقاومةَ الخَشِنَة والناعمة، ومارس السياسة بكفاءة الحركة على الأرض، ابنُه الأكبر وكُنيتُه ينتسبان للقسًّام أيضًا، وتعرَّض لعِدَّة محاولات اغتيالٍ منها اثنتان بسيَّارةٍ مُفخَّخةٍ وصواريخ مُوجّهة، وعَملَ من أرض الوطن مثلما اختبر العملَ من الخارج فى فترة إبعادِه أوائل التسعينيات. خرج بعد انتفاضة الحجارة وعاد مع أوسلو، وجرَّب الانتخابات ولم يُخاصِم الفصائل، وليس فى يديه دَمٌ فلسطينىٌّ كما فى حال «السنوار» مع جهاز مجد الأمنى، أو بقيّة القادة فى وقائع الانقلاب وسَحل الفتحاويين وإلقائهم من أعالى البنايات. فضلاً على أنه رعى «اتفاق القاهرة» الذى أفضى لانتخابات 2006 من محبسِه، ويقضى أحكامًا بخمسةِ مُؤبَّدات، وعليه إجماعٌ لم يتحقَّق لأحدٍ غيره من بعد عرفات، حتى أنَّ الحماسيِّين أنفسَهم لا يختلفون عليه.. والمعنى؛ أن لديه شرعيةُ النضال، ومشروعيّة السياسة، ولا يُنَظِّر من الفنادق أو يحتمى بالخنادق.
قالت الحركةُ بعد «الطوفان» إنها وضعته فى قائمة الأسرى المَطلوبين للمُبادَلة، وكانت تعرفُ يقينًا أنَّ إسرائيل سترفضُ مثلما اعترضت عليه فى «صفقة شاليط» قبل ثلاثَ عشرةَ سنة. لم تتشدَّد فى طلبِه وقتَها، وسواء كانت صادقةً أمْ تناور؛ فإنَّ الاطمئنان لرُعب الاحتلال منه، يضمنُ لها دعايةَ الانحياز لمُناضلٍ مُختلف اللون، دون مفاجأةِ الاصطدام به فى مُنافسةٍ شِبه محسومة سلفًا؛ وإن حدث العكسُ فلعلّها تصوّرت أن تكون لها يَدٌ بيضاء عليه، وأن يكون مُلزَمًا برَدِّ الجَميل فى أقرب الآجال. والحال، دون مُزايدةٍ أو تفتيشٍ فى النوايا؛ أنَّ آخر ما تتطلَّعُ إليه «حماس» أن ترى «مروان» خارجَ محبسِه؛ لأنه سيُعيدُ إحياءَ المُنظَّمة والسلطة، وسيُعادِلُ وهجَ الخطاب الأُصولىِّ ويردُّه إلى هامش الأجندة الوطنية؛ إذ ما ازدهرَ إلا بمحنةِ الخطاب الوطنى الجامع. وهى إن كانت تحضَّرت طويلاً لتقديم إسماعيل هنيّة فى أيّة منافسةٍ رئاسيَّة؛ فالضمانة الوحيدة لفَوزه ألَّا يكون فى مُواجهة البرغوثى. وهو القَدرُ نفسُه من الهَلَع لدى إسرائيل؛ لأنها لا تريدُ تكرارَ تجربة عرفات، وتكرهُ أن تُرخِىَ للفلسطينيين حبلَ الوحدة والالتئام؛ بعدما أسَّست سرديَّتها على غياب الشريك، ورعت الحماسيِّين طويلاً لترسيخ حالة التشظِّى والانقسام.
وبعيدًا عن احتمالية خروج القائد الفتحاوى من عدمها؛ فالفكرةُ تظلُّ الأساسَ فى أيّة مُقاربةٍ موضوعيَّةٍ عاقلة للمشهد ومآلاته. إذ لا بديلَ عن الرجوع خطوتين للوراء، وإعادة وَصْل المُنقَطِع فى البيئة الفلسطينية، والتآلُف على حجّية الراية الوطنية وشرعيَّة تمثيلها عبر مُنظَّمة التحرير، وما يُنشِّطُ هذا المسارَ ويُعزِّز فاعليَّتَه أن تتلاقى الفصائلُ كلُّها على إنتاج زعامةٍ جديدة، لها شرعيَّةُ الانتساب للقضيَّة فى وجهِها الصافى، ولا تصطبغُ مَلامحُها بأيَّة ألوانٍ أو تحالُفاتٍ «فوق فلسطينية»، أكانت على مُرتكَزٍ عقائدىٍّ يختزلُ الصورةَ المُركَّبة فى أحد أطيافها، أو من باب الانخراط فى أجندةٍ عِرقيّة مَذهبيَّة، تتلطَّى وراء المزاعم القِيَميَّة والرساليَّة المُهَندَسَة لخدمة مشروعٍ بعينه. و«حماس» على كلِّ تضحياتها ارتكبَتْ خطيئة الانعزال عن بيئتها، واعتبرت طوابيرَ الشهداء والمَبتورين مُجرَّد «خسائر تكتيكية»، وأخلَصَتْ للشيعيَّة المُسلَّحة وشعارات المُمانَعة الزاعقة؛ بأكثر من إخلاصها للبشر والحجر على معنىً عضوىٍّ صافٍ من التحزُّبات والأطماع، أمَّا «البرغوثى» فإنه القائدُ المِثال فى السياق الراهن، لكنَّ المجتمعَ الحىَّ قادرٌ على انتداب مَنْ يُشبهه، أو لا يقل عنه كثيرًا؛ لو تعذَّر استحضارُه بالأصالة. وبَغضّ النظر عن الوجوه؛ سيظلُّ المطلبُ وجوبيًّا على كلِّ حال: أن يتواضَعَ القابضون على اللحظة قليلاً، ويعترفَ كلٌّ منهم بأخطائه، وأن يعودوا إلى الوراء، لتتنفَّس القضيَّة مع قيادةٍ أكفأ، وأخلص، وأعصى على الاستتباع والأدوار الوظيفيّة المشبوهة، والأهم أن يكون أكثر قدرةً على مُواساة الناس بصدقٍ، وعلى عدم التضحية بهم برعونةٍ واستخفاف.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة