من مظاهر سيادة أية دولة امتلاكها أدوات تأمين حدودها وحماية وحدة واستقلال أراضيها، والدفاع عن إقليمها فى مواجهة أية اعتداءات محتملة.
بشكل أوضح، لا تكتمل سيادة الدولة بغير امتلاكها جيشا وطنيا لا يتلقى أوامره إلا من سلطتها الحاكمة، ولا يخدم سوى سياسات واستراتيجيات دولته التى يرفع علمها.
من هذا المنطلق، أسس محمد على باشا- بمساعدة كل من ابنه إبراهيم باشا والقائد سليمان باشا الفرنساوى- الجيش المصرى الوطنى الحديث.
بالتأكيد لم يكن هذا على هوى الدولة العثمانية، التى أرادت لمصر أن تبقى مجرد باشوية/إيالة تؤدى وظيفة البقرة الحلوب باستنزاف مواردها وثرواتها لصالح المحتل العثمانى، وما كان يزيد سخط الباب العالى على وجود جيش مصرى نظامى هو الواقع المرير للعثمانيين آنذاك من تأخرهم عن متطلبات التطور العسكرى بحكم تسلط القوات الإنكشارية على الحكم، ورفضها أية محاولة لتطوير الجيش العثمانى بما يواكب العصر، ولذلك سعى العثمانيون لإنهاك الجيش المصرى الناشئ فى حروبهم ضد الوهابيين فى الجزيرة العربية، والثوار اليونانيين فى المورة، وتلك الحرب الأخيرة بالذات- حرب المورة-تعمد العثمانيون خلالها إلقاء الجيش والأسطول المصريين فى أتون نار الحرب، حتى انتهى الأمر بكارثة تدمير الأسطولين المصرى والعثمانى بمدافع سفن القوى الاستعمارية الأوروبية فى معركة ناڤارين البحرية.
لكن محمد على باشا سرعان ما أعلن عن استقلاليته عن الباب العالى بطريقة الأمر الواقع، عندما أجرى مفاوضاته مباشرة مع القوى الأوروبية لإنهاء الحرب معها واسترجاع السفن الأسيرة، وشمر عن ساعداه لإعادة بناء أسطول مصرى أكثر قوة من سابقه.
كان الصدام بين الدولة العثمانية العجوز والقوة المصرية الفتية مسألة وقت، وقد وقع بالفعل عندما قرر محمد على باشا ضم بلاد الشام إليه بالقوة، وراحت المدن الشامية الكبرى تدخل واحدة تلو الأخرى تحت طاعة باشا مصر، وتلقت الجيوش العثمانية الهزائم القاسية حتى كانت الضربة القاصمة بانتصار الجيش المصرى على خصمه العثمانى فى نصيبين بالأناضول ووقوفه على مشارف العاصمة العثمانية إسطنبول.
ارتاعت القوى الأوروبية لإعلان مصر من خلال انتصارات جيشها عن نفسها كقوة إقليمية يحسب لها ألف حساب، وهو ما يفسد خطط الثلاثى الاستعمارى آنذاك «إنجلترا وفرنسا وروسيا».
إنجلترا كانت تطمع فى نيل نصيب الأسد من تركة الرجل العثمانى المحتضر وعلى رأس تلك التركة درتها مصر، وفرنسا كانت تريد النجاح لتجربة محمد على باشا الاستقلالية، لكنها كانت تريده حليفا تابعا لا ندا يرفع رأسه فى وجهها.
وروسيا منذ عهد القيصر الأسبق بطرس الأكبر، كانت تضع على رأس أولوياتها «الوصول للمياه الدافئة»، أى امتلاك نقاط نفوذ فى البحار المفتوحة خارج محيطها البحرى الجليدى.
كان وجود جيش مصرى نظامى قوى يتولى مسؤولية حماية كل من مصر والمشرق العربى بمثابة العقبة القوية فى وجه التطلعات الاستعمارية، لهذا سعت كل دولة لإجهاض المشروع المصرى الاستقلالى بطريقتها، فراحت إنجلترا تبث جواسيسها وتنشط عملاءها فى الشام لبث الفرقة بين الشاميين وأشقائهم المصريين، وضربت بأسطولها أهم نقاط تمركز الجيش المصرى فى موانئ لبنان، وهددت بضرب الإسكندرية وقلاعها وترسانتها البحرية.
وأجبرت روسيا العثمانيين على إبرام اتفاقية دفاع مشترك أنزل الروس بموجبها 14000 من جنودهم قبالة قصر السلطان العثمانى فى البوسفور.
أما فرنسا فقد ارتدت قناع «صانع السلام» وهى تضمر خذلان محمد على باشا فى أقرب فرصة.
استقوى العثمانيون بذلك التكالب الاستعمارى، فلم يكن مفاجئا أن يكون على رأس مطالبهم للتصالح مع محمد على باشا قيام مصر بتقليل عدد أفراد جيشها، والحد من قوة أسطولها البحرى بموجب فرمان عام 1841 القاضى بألا يزيد عدد أفراد الجيش المصرى عن 18000 مقاتل، وألا يمتلك سفنا حربية بغير موافقة الباب العالى. فقد أدرك المحتل العثمانى أن ما يحمى مشروع استقلال مصر هو ذلك الجيش القوى، فلا نهضة حضارية فى مصر ولا استقلال للقرار السياسى إلا بامتلاك مصر قوة تحمى نهضتها واستقلالها.
ومما يؤسف حقا أن بعض من تناولوا عهد محمد على باشا قد اختصروا تجربته الناجحة لإنشاء أول جيش مصرى فى العصر الحديث فى أنه «قد استخدم القوة لتجنيد المصريين وكان شديد القسوة فى إلزام المصريين بالانضباط العسكرى، حتى إن الفلاحين كان بعضهم يلجأ لإتلاف بعض جسده ليتهرب من التجنيد الإلزامى».
أقول ردا على ذلك- بما أعلم يقينا أنه لن يعجب الرومانسيين ممن يقدمون أنفسهم كمدافعين عن الحريات- إن سياسة محمد على باشا فى التجنيد كان ظاهرها القسوة المفرطة وباطنها عظيم الفائدة للوطن، فالمصريون الذين عمل الاحتلال العثمانى منذ البداية على إقناعهم أنهم أضعف من أن يدافعوا عن أنفسهم وبلادهم، وأنهم يحتاجون للمحتل العثمانى ليحميهم، كانوا أشبه بالمعدن النفيس الذى يحتاج إلى التعرض لحرارة النار ليطرد الشوائب عن نفسه، وبالفعل خلال عقود قليلة أصبح الجندى المصرى يفخر بجنديته وشرفه العسكرى وانتمائه الوطنى حتى راح يواجه بشجاعة الإدارة الفاسدة لاحقا للخديو توفيق، ومحاولاته تهميش الجيش لإرضاء قوى التدخل الاستعمارى. سار العثمانيون على نفس خطتهم فى الحد من عدد وتسليح الجيش المصرى، وجعله عاجزا عن التصدى لأى عدوان محتمل، باستثناء الأوقات التى احتاجت فيها الدولة العثمانية لمساعدة الجيش المصرى لها فى حروبها، كما جرى من طلبها إرسال قوة مصرية لمساندتها فى حرب القرم ضد روسيا 1853م 1856م، وما كان تغاضيها عن زيادة الوالى عباس باشا عدد أفراد الجيش المصرى إلى 94000 مقاتل إلا لإدراكها أنه حاكم قصير النظر ضعيف الهمة، لا يمثل خطرا على تبعية مصر لها.
لم يكن غريبا أيضا أن يعتبر الإنجليز أن مطالب القائد أحمد عرابى، المتعلقة بتطهير الجيش المصرى من العناصر الأجنبية الجركسية والتركية الرافضة للاندماج فى النسيج الوطنى، وسعيه لتطوير الجيش وأنظمته، بمثابة تهديد لخطتها لاحتلال مصر، بل واحتجاجها عند السلطان العثمانى عبدالحميد الثانى على قيام عرابى بترميم وإصلاح دفاعات ثغر الإسكندرية، باعتبارها- يا للوقاحة- تمثل تهديدا للأسطول الإنجليزى الراسى فى مواجهة الإسكندرية والموجه مدافعه إليها، ولأن، إلا الحماقة أعيت من يداويها، فقد كانت استجابة عبدالحميد الثانى للاحتجاج البريطانى هى توجيهه أمرا لعرابى بإيقاف أعمال التحصين، ثم إصدار فرمان لاحقا بعصيان عرابى لإصرار هذا الأخير على القيام بواجبه العسكرى الوطنى فى التصدى للاحتلال!
ولتكتمل المؤامرة وتعلن عن وجهها، فبينما كانت مدينة الإسكندرية تحترق بفعل قذائف السفن الإنجليزية، كان الخديو توفيق يكرم قادة جيش الاحتلال البريطانى ويمنحهم النياشين مكافأة لهم على انتصارهم على المقاومة الباسلة لعرابى والجيش المصرى فى الإسكندرية، ثم بعد هزيمة عرابى أمام الجيش الإنجليزى فى التل الكبير بستة أيام فقط، أصدر توفيق أمرا بحل الجيش المصرى!
وأعلنت أفواه إنجليزية وقحة أن مصر يجب ألا يكون لها جيش يحميها بعد ذلك.
وللحديث بقية فى المقال المقبل إن شاء الله.. يتبع.