صدر العدد الجديد من مجلة الثقافة الجديدة التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، بإشراف محمد عبد الحافظ ناصف نائب رئيس الهيئة، ويترأس تحرير المجلة الكاتب الصحفى طارق الطاهر، ويتضمن شهادات 13 كاتبًا فلسطينيًا عن عام الإبادة الجماعية.
تضمن هذا العدد ملفًا بعنوان "عام على الإبادة الجماعية فى غزة".. أعده وزير الثقافة الفلسطيني السابق عاطف أبو سيف، الذي كتب مقدمة هذا الملف بعنوان "عام على الإبادة الجماعية في غزة... شهادات حية من قلب المحرقة" ومما جاء فيها: "هذه النصوص من قلب الإبادة في غزة، يكتب فيها أصحابها ما يعيشونه وما يمرون به، يسجلون فيها لنا الحياة كما هى هناك في ذلك الجزء من العالم الذي يتعرض للتدمير الممنهج يومًا بعد آخر. وبعد قرابة عام من الحرب؛ فإن العالم يبدو أكثر عجزًا عن فعل أى شىء من أجل أن يتم وقف الإبادة".
كما كتب في هذا العدد ثلاث عشرة كاتبًا فلسطينيًا شهادات من قبل المحرقة، هم: أكرم الصوراني الذي كتب شهادة بعنوان فى الطريق من دير البلح إلى مواصي خانيونس- رفح، وجاء فيها: لا عيد في غزّة، والناس هنا لا تُعايد بعضها، مع أنها تتزاور وتقطع مسافات كبيرة في وسائل نقل بدائية وبالية!
فرحة الناس ماتت.. شيعناها في عيد الفطر الفائت، وعيد الأضحى الفائت، ورأس السنة الفائت، ورمضان الفائت، ونتائج توجيهي الفائتة.. ولسنوات قادمة.. كل ما في الأمر أن الناس تفتح جروحها وثيابها وأكلاتها وحياتها وصورها القديمة على الموبايل وتواسى جراحات بعضها، تُعزّى بعضها، تَندُب حظَّها، تَنبُشُ ذكرياتها وأشياءها وأشلاءها وشهداءها وتَسردُ أوجاعها التى تبدأ ولا تنتهى إلا مع قصف فجائي وهروب اضطراري يَهرُب فيه الكلام من الكلام ويَهرُب فيه اللقاء إلى العزاء!.
وكتبت آية شحتوت شهادة بعنوان "بين أحضان الخيمة"، جاء فيها: لحظةً عن لحظة تزداد قسوة هذه الأيام المغلفة بعلقمِ هذه الأصوات، وكأن المحتل ينتقم منا على صبرنا وتحملنا لكل هذا الألم طوال هذى السنين، لم يربت أحدٌ على أكتافنا قائلًا: صبرًا أيها الغزيين! ما أثار حيرة المنطق سؤالٌ ما زال يراودنى، أى ذنب ارتكبنا ليحل علينا هذا البلاء، أن نقتل بهذه الوحشية؟
لا أجد ما يرضى عقلى وما يبقيني في عالم الأحياء. نهشهم لأجسادنا والتنكيل بها، سرقة أعضاء المحتجزين.. لم كل هذا الغُلْ؟ تيقنت بأننى أمام ملحمة تاريخية لن تكتبني إلا رقمًا قد مر من الممر الآمن وصولًا لجنة الخلد.
العشرون سنة التى قضيتها من حياتى المنتهية قبل ابتدائها لا تكفي لاستيعاب كل ما يجول أمامي!».
أما بسمة الهور فجاءت شهادتها بعنوان «لا بحر لي..!»، جاء فيها: «أذهب للبحر، بحر النصيرات لا بحر غزّة كما اعتدت، فأجده أقلّ جبروتًا وهامدًا، وأرى ما في نفسى ينعكس على الطبيعة من حولي كما سمعنا في تحليل قصائد كتب اللغة العربية، أتذكر القوة والجبروت اللذين كان بحر غزة يهبني إياهما بعد ساعة وقليل من الجلوس مقابله.. موج غزة ما أجمله!.
وكتب سلمان الحزين شهادة بعنوان "النجاة من المجزرة" جاء فيها: "قبل الحرب بيومٍ واحد، ذهبتُ لمقر جامعة غزة، وقمتُ بالتسجيل للفصل الدراسى الثالث في كلية الصحافة والإعلام، حيث كان ما زال هذا الحلم يراودنى لتحقيق هدف في شباك الحياة، يتمثل في الحصول على شهادة جامعية بعد توقف عن الدراسة منذ خمسة وعشرين عامًا، لكن للأسف لم نبدأ فصلنا العلمى في الجامعة بسبب قيام شبح الحرب، الذي عطل كل ملامح الحياة في غزة، فبالعودة إلى خزانة الذاكرة كنتُ في أول يوم عائدًا من البحر، حيث كنتُ أركض مبكرًا، وحين تجهزتُ للخروج إلى مقر تليفزيون فلسطين حيث أعمل، كانت السماء مليئة بأصوات الصواريخ التى انطلقت من قطاع غزة باتجاه المستوطنات الإسرائيلية".
أما عاطف أبو حمادة فكتب "قصف.. برد.. موت بطيء"، ومما جاء في شهادته: "بعد ثلاثة أشهر من النزوح القبيح شاءت الأقدار أن تحط رحالنا في المحطة السابعة من محطات النزوح، وهى أرض زراعية لعائلة فاضلة أكرمتنا بالإقامة في رحابها والتصرف فيها كأنها ملك لنا، كانت الليلة الأولى ماطرة شديدة البرودة "إحدى ليالي أربعينية الشتاء" وكان المبنى القديم المتصدع يضم غرفة واحدة وحمامًا صغيرًا ومطبخًا ضيقًا وغاطسًا "غرفة صغيرة يوجد فيها بئر الماء الذي يسقى الأرض الزراعية" بلا ماء ولا كهرباء ولا غاز ولا هواتف حيث كانت شبكات الاتصالات الخلوية قد انهارت وأصبحت خارج الخدمة نتيجة القصف المتكرر لها".
كما كتب عبد الله تايه «رسالة من الحرب إلى غريب عسقلاني»، وجاء في شهادته: «لا تقل لى إنك قرأت وكتبت عن أدب المقاومة، فالقراءة شىء وما كنت ستراه الآن شىء آخر، ولا تقل لى إنك كتبت عن مخيم الشاطئ، فلم يعد للمخيم الذي قضيت فيه عمرًا وأنت تكتب عنه أثرًا، صار كومة من الردم والدماء، قصفت بناياته وسطوحه الإسبستية والزينكوية طائرات مجنونة حربية تنفع للحرب العالمية الثالثة، لا لقصف مخيم من جدران مهترئة، حين ترى الركام ستقول أين ذهب الناس؟ وأين فرت الصبايا؟ وأين فر السمك والسردين من حسبة السمك في مخيم الشاطئ؟ هل هرب إلى أعالى البحار حيث يقف الطراد العسكرى على مسافة مرئية من شاطئ البحر يقصف هو الآخر الموج، والسمك، والشاطئ، والبيوت المكدسة بالناس في مواجهة البحر؟ ولِمَ لا يقصف وهو مملوء بالحقد وبذخيرة أنواع وأنواع جاءته من بلاد بعيدة وبليدة؟ يقصف على الناس، والرمل، والشاطئ الذي كان ملاذًا للهاربين إليه من القيظ في عز الصيف، وملاذ للعشاق، والأحبة، والعائلات، لقد طاروا كلهم من المخيم يا غريب إلى أماكن لم يألفوها؛ صاروا في بيوت من الخيام بنيت على استعجال».
أما عبد الله شرشرة فكتب «يوم في حياة نازح»، جاء في شهادته: «أبدأ يومى بالاستيقاظ في اللحظة التى يبدأ ابنى فيها بالبكاء، فهو لديه موعد لرضاعة 150 سنتمتر من الحليب صباحًا، وهو يستيقظ حال شعوره بالجوع، وهكذا الإنسان مُصَمَم لكن نسيان الجوع الذي اعتاده الإنسان الحديث أنسى الإنسان ذلك، وهذه الحرب تعيد الإنسان لأصوله الأولى؛ كائنًا بدائيًّا. ومن الساعة السادسة صباحًا حتى الثامنة أجالسه وأقضى وقتى باللعب معه.
فى ذلك الوقت، يبدأ الجميع بالتفكير بالمياه الصالحة للشرب، والمياه المخصصة للمنزل والاستحمام، نعتمد بشكل أساسى على بئر مياه لأحد الجيران؛ أما الكهرباء فعلى خلايا الطاقة الشمسية التى نستخدمها فقط للإنارة وشحن الهواتف وللحصول على الإنترنت».
وكتبت فاطمة حسونة شهادة بعنوان «أريدُ لموتى أن يكون صاخبًا، جاء فيها: «الذى يعيشُ هنا خلالَ الموت، ومعه، يُدركُ جدّيًا معنى أن تُسلمَ روحَك، وتنظرَ للدُنيا على أنها أهون شىء قد يهمُّ أى أحد، وأنَّ خروجَ أى من الجُثثِ التى لا تزالُ تتنفّسُ هنا هو ضربٌ من العجبِ والدهشة، لأنَّ الإبادةُ هُنا تمشى بالدور، واغفر لى تكراري وتأكيدي على فكرة الـ «هُنا» لأننى بهذا أنا أحكى عن جغرافيةٍ صغيرةٍ يحدثُ فيها أندَرُ وأغربُ وأدهشُ وأفظعُ ما يمكنُ أن يحدث، وما لن يحدُثَ في جغرافيّةٍ سواها، واغفر لى أنانيّتي هذه المرة وحرصي على التفرُّد وتخصيصِ ما يحصُل في مكانٍ واحدٍ أصغرِ من خرمِ إبرةٍ مقارنةً بكوكبٍ طويلٍ عريض، أقوى من أقوى شىء مقارنةً بكوكبٍ طويلٍ عريضٍ أيضًا، ولا أريدُ هُنا أن أشغلكم بالتكنولوجيا والعلمِ الحديث الذي يجعلُنى وأهلي وأصدقائي وإخوتى «هُنا» عبارةً عن فئرانِ تجارب، في حقلِ تجاربَ أكبر، وأصغر إذا ما قارنّاهُ بكوكبٍ طويل عريض».
أما فاطمة الصوص فكتبت «العودة إلى مخيم البريج»، ومما جاء في شهادتها: «تركنا الخيمة في مواصي رفح وعُدنا إلى منطقتنا (المنطقة الوسطى) عقب إعلان جيش الاحتلال عن انتهائه من عملية الاجتياح البرى لمخيمنا «مخيم البريج» وانسحابه من وسطه مع الإبقاء على آلياته العسكرية عند أطراف المخيم.. عُدنا - كالكثيرين- والخوف يراودنا، إذ لا يعلم أحدنا إن كان سيجد بيته سالمًا أم كومة من ركام.
كانت رغبتي شديدة في أن أتفقد مخيمي الحبيب، وأمشى في شوارعه، لأطّلع على ما آل إليه حاله بعدما اجتاحته تماسيح الدمار طيلة شهور نزوحنا القسري عنه. كيف لا وأنا ابنة هذا المخيم؛ نشأت فيه وكبرتُ في حاراته، وتعلمت الأبجدية في مدارسه، وأحفظ تفاصيله كما يحفظني».
كما كتب محمد نصار شهادة بعنوان «على دروب المجهول»، جاء فيها: «شهران ونحن نترقب انتهاء الحرب وكل يوم، نشعر بأننا نطارد سرابًا، حتى جاء القرار، بالتوجه إلى رفح، حيث استأجر ولدى بيتًا من غرفتي زينكو هناك، بمبلغ خمسمائة دولار في الشهر، أمضينا شهرين تحت لسع البرد ومذاق الرمل، الذي لم يفارق طعامنا إلى اللحظة، ناهيك عن الخوف من شظايا، لا يمكن أن يعترضها سقف الزينكو عند أى انفجار قريب، حتى قررنا ترك البيت والتوجه إلى مواصي رفح، أقمنا هناك ثلاث خيام ومكثنا فيها إلى ما بعد دخول جيش الاحتلال لرفح، لنعود من جديد إلى مواصي خانيونس».
أما مصطفى النبيه فكتب «يوميات الحرب: أحمر قانٍ»، ومما جاء في شهادته: «للحرب طقوس غريبة تجعلك لا تصدق كل ما يحدث وكأنك سقطت في بئر الغربة. حياتى سكنها الجمود والرتابة، أصبحت أهرب إلى النوم أنام بعد العشاء مباشرة وأستيقظ قبل شروق الشمس. أجلس على باب خيمتي، أتأمل الوجوه الهائمة العابسة التى تمر من أمامى وأصغى لحديث مكرر ممل محصور بسلة غذائية ومياه للشرب، يتصدع رأسي وأنا أستمع لشكاوى الناس».
وكتبت مي تايه «زغاريد الحياة»، ومما جاء في شهادتها: «قد تكون إسرائيل نجحت في إعادة غزة إلى عصر ما قبل الحضارة، لكنها نسيت أن أساس الحضارة هو الإنسان، وأن الإنسان هو بانيها.
فما دام الإنسان حيًّا سيشق طريقه في الحياة ولو حفره بأظافره، فإنسان غزة ضرب أروع المُثل في إرادة الحياة بل وصناعتها.
بمجرد بدء الحرب في السابع من أكتوبر قُطعت الكهرباء والوقود والاتصالات والماء والدواء والغذاء والملابس عن قطاع غزة بأكمله، وليس خفيًّا على أحد أن هذه كلها أعمدة الحياة البشرية.
فماذا صنع ابن غزة، ابن الانتفاضة الأولى، ابن الحصار؟ لقد صنع الأعاجيب من أجل أن تستمر رئتاه في استنشاق الهواء، وقدماه في السير إلى الهدف القريب البعيد.. إلى القدس».
وأخيرًا كتبت يسرا الخطيب شهادة بعنوان «حكايات لم تكتمل»، وجاء فيها: «بعد يوم شديد البرد ومطر سخى أغرق الخيام، وأنا لم أستطع انتشال قدمي من الوحل، وكلما حاولت أغرق في الوحل من جديد، لفت انتباهي مجموعة من الأطفال يرتدون ملابس بيضاء تغطى أجسادهم النحيلة من الرأس حتى القدمين، ويتقافزون فيما يشبه الفرح بين الخيام وكأنهم يتهادون على قرع طبول لا أسمعها، يتجهون إلى ظل خيمة بحثًا عن أرضٍ بدأت تجف، وعن بقايا أشعة الشمس علها تدفئ ملامحهم الباردة وقلوبهم المرتجفة بردًا و خوفًا من القادم. ظلالهم الطويلة تتطاول وتتمدد على الخيام المتكسرة بفعل الريح، الظلال تمتد وتمتد لتفترش الأرض الموحلة التى امتصت الضوء وغمست حتى الظلال بوحلها، وكأن الأطفال استمرءوا لعبة الظل والخيام ومباغتة أشعة الشمس.
زادت حركاتهم البهلوانية.. ارتفعت أصواتهم المشاغبة بالغناء والدحية، متعانقين على امتداد الفراغ ما بين الخيمة والخيمة، يعلو النشيد، يعلو الهتاف، يعلو الدعاء، يعلو التكبير. ونكاية بالخيام، وبمن نصب الخيام، وبمن تبرع بالخيام، ونكاية بمن أرسل لهم أكفانًا بيضاء، رفعوا أحدهم على الأكتاف وساروا بين الجميع يزفون شهيدهم استباقًا لموته».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة