على حافةِ المأساة قضى الغزِّيون عقودًا؛ قبل أن يسقطوا فى قَعرِها. وقد طالهم فى السنة الأخيرة أضعافُ ما نقلَتْه لهم كتبُ التاريخ، وذاكرةُ الآباء، وما كانوا يُرضِعون به أطفالَهم عن سوابق النكبات وخسائرها الفادحة. العدوُّ كعادته لم يُغيِّر حرفًا من كتاب القهر والموت، والشقيق يقرأُ فيه عُمرًا كاملاً ولمَّا يفهَمْه بعد.
وقسوةُ الامتحان أنه تكرارٌ للخطايا القديمة، وعكوفٌ على حراسة الهزائم المُستنسَخَة من بعضِها، وتلوينِها بانتماءاتٍ وشعاراتٍ تتعالى على فلسطين الجريحة، بقدر ما تُشوِّه وعىَ أبنائها بالمَلمَّات والنوازل. تضطرمُ الحكاياتُ وتبهُت البُكائيَّات وخُطَبُ الهجاء الرنَّانة، لا لوجاهةٍ لدى القاتل أو لعَيبٍ فى القتيل؛ إنما لأنَّ الطريقَ مُعبَّدةٌ بالاستبداد من الناحيتين: مجنون يُشهر سلاحَه على نِيَّة الإبادة، وسُذَّج يفترشون الجماجم على أملِ أن تكون صُورُهم الختاميَّةُ صادمةً ومُوجِعَة، والناسُ بين نارين لا يعرفون كيف يفلتون من مناجِل المُحتلّ، ولا كيف يُناورون فِخاخَ المُقاوم. وبقدرِ ما لا تصحُّ المُساواة بين الاثنين؛ فلا مَفرَّ من التشدُّد مع الوحش الذى أنشب مخالبَه فى رقابهم، ومُساءلة الملائكة الذين قَيَّدوهم له، أو منحوه فسحةً مجَّانية لتكثيف كلِّ خبراته القديمة فى صناعة العَدَم!
سيبقى «طوفانُ الأقصى» طويلاً فى الوعى الفلسطينى النازف؛ لا بمكاسبِه الزهيدةِ فى إيلام العدوِّ وتنشيط القضية الخاملة، ولكن بما تركَه على تُرابِ غزَّة من رُكامٍ وشواهد قبور. تُقاسُ نتائجُ الحروب بمعايير السياسة؛ لكنها لا يُمكنُ أن تستبعدَ الدمَ من الحساب. وإذا كان من مصلحة إسرائيل أن تختزلَ المشهدَ بكاملِه فى صبيحة السابع من أكتوبر؛ فليس مِمَّا يفيد الفلسطينيين أن يُلاقوها على ما يُحقِّقُ مُبتغاها، أو أن يظلّوا أسرى اللحظة الصاخبة بكلِّ ما فيها من إنجازٍ وإخفاق. ليس مُفيدًا أن يتحوَّل يومُ الهجمة إلى عِجلٍ مُقدَّس، أو منصَّةٍ سوداء للتصويب والقنص؛ فلا هو بالحصيلة كان انتصارًا، ولا بمنطق الزمن يتوجَّبُ البقاء عندَه طويلاً بالوَصْم والإدانة. وقعَتْ الفأسُ فى الرأس كما يقولون، وعلى خصوم الأُصوليَّة أن يتحرَّروا من شهوة تسجيل النقاط؛ كما على الأُصوليَّة نفسِها أن تبتدئ بالبراءة من داء الافتتان بالدعايات اللاهبة، والانتصارات الوهمية المُتخيَّلَة.
والتجاوزُ إن كان مطلوبًا لذاته؛ فإنه يبدأُ من مُقاربتين مُتوازيتين، لا يصحُّ أن تتقدَّم إحداهُما على الأُخرى. والشرطُ فى كلتيهما أن يتحقَّق الغفرانُ والاستيعاب، لا على قاعدة كَنسِ التراب تحت السجَّادة، أو إغلاق الجروح على صديدها، وأيضًا ليس بمنطق الانطلاق من ضلالات الاحتكار الكامل للحقيقة، واستنكار الخسارة لصالح القضية؛ ولو كان مُقابلها المُباشر أن ننكسرَ أمام العدوِّ، ونكسرَها معنا بالضرورة. والقصدُ أنَّ المُكاشفة يتعيَّنُ أن تبدأ من «حماس» وبقيَّة فصائلها الرديفة، وأن تكون السلطةُ والشارع جاهِزَين لتخطِّى الإحن كلِّها، قديمها قبل الجديد، وبالتوازى تُفتَتَحُ ورشةٌ وطنيَّةٌ للمُراجعة والتقويم. فالاعترافُ أوَّلُ أبواب التداوى، والإفصاحُ مَدخَلٌ إلزامِىٌّ إلى الإصلاح. صحيحٌ أنه لن يُعيدَ القَتلى أو يُعمِّرَ تلالَ الخراب، لكنه سيضعُ يدَه على واحدةٍ من الوصفات الفاشلة، ويضمنُ ألَّا تتكرَّر مُستقبلاً لخطأٍ فى التقدير، أو لانفلاتٍ فى القرار والحركة. والأسى كلُّه أنَّ سنةً كاملةً ما كانت كافيةً لإقناع العليل بعِلَّته؛ ناهيك عن تحَلِّيه بصِفَة التخلِّى عن الإنكار، وشجاعة الإقدام على طلب العلاج.
أعلنتْ إسرائيلُ الحِدادَ فى ذكرى «الطوفان»، وشَنَّت هجومًا واسعًا على غزَّة فى التوقيت نفسه. إنها السرديَّةُ الجديدة التى تسعى لتخليق مأساةٍ وطنية، والبحث عن مَظلَمٍة صالحةٍ للتداول، ولو كانت مُلَفَّقةً تمامًا؛ بعدما تكفَّلتْ وحشيَّةُ الشهور الماضية بإفساد مخزون الدعايات القديمة، وصَرفِ الأنظار عن خديعة أنَّ اليهود وحدهم ضحايا العالم والتاريخ، وأنهم يمضون فى غيّهم برصيدٍ لا ينفدُ من أكاذيب الاضطهاد والعنصرية وأفران النازيَّة. أمَّا الحماسيِّون فإنهم بعدما أبدوا هشاشةً فى الميدان، وعجزوا عن استثمار مناخ الحرب كما كانوا يُزمجرون ويُهدِّدون دومًا؛ فإنَّ الغريب أنهم يُحيون ذكرى اليوم نفسه مع نتنياهو، بلُغَةٍ مُطابقة تقريبًا، ويقفزون على 364 يومًا غيرَه كان كلٌّ منها طوفانًا أفدحَ، يكنسُ القطاعَ بما عليه صباحَ مساء. المسألةُ ليست نزاعًا على ساعةٍ رأى فيها المُقاوم ثأرَه المُعلَّقَ يقعُ على رُأس الغريم العتيد، ورآها الأخيرُ بُكائيَّةً تفتحُ الطريق لجولةٍ جديدة من الإرعاب وكَىِّ الوعى، وتُجدِّدُ السرديَّات التى طَمَرتها تقلُّباتُ الإقليم والعالم، أكان فى يهوديَّةِ الدولة ونهائيَّتها بصيغة الإلغاء والإحلال الكاملين، أم فى تقطيع ورقة اللاجئين وإلحاق البقيَّة بهم، قسرًا أو بإغراءات الأوطان البديلة فى أرجاء الأرض. فالحال أنَّ القضيَّةَ أعمقُ من كلِّ ما يطفو على سطحِها، وأعصى على التصفية الصِّفريَّة لصالح الغاصب أو المغصوب. وعليه؛ فالطوفان وارتداداتُه مُجرَّد جولةٍ فى مُباراةٍ طويلة، ولن تكون الأخيرةَ قطعًا، وهذا ما يفرضُ على الضعيف أن يُرتِّب أوراقَه بغيرِ استكانةٍ أو انتحار، وأن يُهندِسَ مسارًا وطنيًّا جديدًا يُوازِن بين الخيارات المُتاحة، بحيث لا يُعطِى ظهرَه للسياسة تمامًا، ولا يُطوِّحُ سلاحَه تطوُّعًا فى المحرقة.
تُصِرُّ الفصائلُ منذ اللحظة الافتتاحيّة على أنَّ طوفانَها انتصار، وأنه فاتحةٌ لحربِ التحرير الشاملة. وبعد شهورِ الإحباط والخذلان وتآكُل الرصيد الصلب، ما يزال القادةُ على خطابِهم القديم الممجوج. قبل يومين قال حسام بدران، عضو المكتب السياسى لحماس، إنَّ «العبور المجيد» أظهرَ قوَّتَهم وضعفَ الاحتلال، وأمسِ أحيا خالد مشعل ذكراه الأُولى بلهجةٍ نحاسيَّة تُشبه بيانات المُلثَّم «أبو عبيدة» عندما كانت الهجمةُ طازجةً، وأثمانها لم تُدفَع بعد. والخوفُ ألَّا يكون خطابًا للاستهلاك وتثبيت المعنويَّات فحسب، بمعنى أنهم يتحدَّثون من اعتقادٍ راسخ بصَوابِيَّة ما يُفسِّرون به النكبةَ القائمة، وهذا فضلاً عَمَّا يُقدِّمه للصهاينة من مُبرِّرات لا تنفدُ فى حرب الذرائع، فإنه يرخى ستارَ الضلالات على عيون القادة الميدانيِّين، ويقطعُ عليهم كلَّ سبيلٍ للخروج من حُفرة المأساة؛ لأنه لا سبيلَ للتحرُّر من الوَهم طالما لم تَعرِفْ أصلاً أنَّك أسيرٌ لديه. وهكذا؛ سيظلُّ الحماسيِّون على عجزهم عن تحديث التقديرات الاستراتيجية، ولن يكون بمقدور السُّلطة أو أىِّ بديلٍ آخر التقدُّم لانتشال القطاع من مُستنقعه الدموىِّ، فكأنَّ الناسَ قد صاروا رهائنَ للقُوَّة والسطوة معًا، أى للدمار النازل عليهم من الخارج، وللقيود المُكَبِّلة لهم من الداخل.
عندما تتوقَّفُ قليلاً أمامَ وَصف بدران؛ ثمَّ تتمعَّنُ فى تفاصيل الطوفان فى الوقت والسياق، وتضيفُ إليهما ما ترشَّح عن حاضنة الأُصوليَّة، عبر المنصَّات الرقميَّة أو القنوات المُوالية، بشأن مُنازعة الانتصار المصرىِّ على إسرائيل فى 1973، ومحاولة تكريس سرديَّةٍ بديلة أو مُوازية؛ رغم الفوارق الشاسعة فى المُقدِّمات والنتائج، وفى الرؤية والاستقامة والعقيدة الوطنيّة وصفاء النوايا والغايات؛ سيكونُ من بين الاحتمالات المطروحة أنَّ عمليَّة غلاف غزَّة كانت عملاً دعائيًّا لا حربيًّا؛ لهذا انشغلت بالأثر النفسىِّ والإعلانىِّ عن فاعليَّة حماس، أو بالأحرى عن امتداد أجندة المُمانَعة وتسيُّدِها للبيئة الفلسطينية، ولم تنشغِلْ بما وراء ذلك من ارتداداتٍ ميدانيَّة وسياسيَّة، تتطلَّبُ مُلاقاتها بطبقاتٍ من القوَّة والمُضادّات الخَشِنَة، والاستعداد لتوجيهها وصَرفِ مكاسبها فى ملعب السياسة. وهذا الاستخلاص إنما يقودُ إلى أن «السنوار» قضى وطرَه من المسألة يومَ السبت 7 أكتوبر 2023، وما عاد يشغلُه كلُّ ما ترشَّح عنه أو ترتَّب عليه؛ كما لم يكُن جاهزًا له بأيَّة صورةٍ من صُوَر الجاهزية؛ أكانت إقدامًا أم رجوعًا، أم بالالتفاف والمناورة من قنواتٍ فرعيَّة.
وما فاتَ لا يستبعِدُ نتنياهو من القراءة السياقيّة قطعًا؛ لكنه يضعُه عند رُتبتِه الحقيقية؛ كاستجابةٍ انفعالية لم تنحرِف عن سُلوكِه المعهود؛ لكنها كانت «ردَّ فِعلٍ» على هديَّةٍ طُرِحَت عليه من الخَصْم، وأتَتْه على اشتياقٍ يُوفِّيه أضعافَ ما تمنَّى. والمعنى أنَّ مُمارساتِه الإجراميَّةَ ستظلُّ محلَّ إدانةٍ بالضرورة؛ لكنها ستُثيرُ بالتوازى سؤالاً عن الدافع وراء مَنحِه طرفَ الخيط، طالما لم يُخطِّط رجلُ حماس القوىُّ لأنْ يَلُفَّه حول عُنقِه، ولا امتلك خطَّةً لحَلِّه عن خاصرته حالما يجذبُه ثورُ إسرائيل الهائج. وإذا فُتِحَ قوسُ الملاحظات لآخره ستزداد الأسئلةُ تعقيدًا؛ إذ أُخطِرَ الأمينُ العام لحزب الله بالطوفان قبل دقائق من وُقوعِه، وعَلِمَ الإيرانيِّون منه ومن الشاشات، كما لم يُنسِّقْ الحماسيِّون مع مصر والأردن، ولا استشاروا الحاضنةَ الشعبيَّةَ أو أَهَّلُوها نفسيًّا. فكأنَّ القرارَ الانفرادىَّ كان إعلانًا للقطيعة مع دوائر الحماية الثلاثة: الجمهور الذى يحملُ الحركة ويحميها، ومحور المُمانَعة بوَصفِه الشريكَ العسكرىَّ للفصائل، ثمَّ دُوَل الاعتدال بما تُمثِّلُه من غلافٍ سياسىٍّ للقضية بمُكوِّناتها الحركيَّة والمُؤسَّسية.
اختصامُ الجميع لم يكن خيارًا صائبًا؛ لأنه ألقى أعباءً ثقيلةً وفُجائِيَّة على الحزام الجغرافىِّ اللصيق، واستتبع سُلوكًا مُتحفِّظًا من الشيعيَّة المُسلَّحة، أفضى بالتَّبَعيّة لحالةٍ كاملة من الخذلان، كما لم يترُك لدى عوام القطاع فرصةً لافتراض حُسْن النِّيَّة، أو الرهان على أنَّ «حماس» قدَّمت لهم كلَّ ما تستطيعُ، وكانت الخسائرُ من قبيل الآثار الجانبية التى لا يُمكن تلافيها. والحال أنَّ الحركةَ ليست مُجرَّد فصيلٍ مُقاوِمٍ كما تُحاول تحجيمَ صُورتها اليوم؛ إذ منذ الانقلاب وانفرادها بالجبهة الغزِّية قبل عقدين تقريبًا، صارت لها الصِّفَةُ الكاملة لسلطة الإدارة، وعليها مسؤوليَّاتها. وبينما تقولُ منذ البواكير القتاليّة إنها تحضَّرت لحربٍ طويلة؛ فإنَّ ذلك لم ينعَكِسْ على بقيَّة الاستعدادات المَدنيَّة الواجبة، أكان فى الملاجئ الآمنة للمدنيِّين، أم فى المخزون وجهود الإمداد وتأمين احتياجات البشر. وعلى تلك الصورة؛ يبدو أنَّ «السنوار» وظَّفَ مزايا الحُكم وقُدرات الجهاز التنفيذى فى تقوية الجناح العسكرىِّ للحركة؛ ثمَّ انصرفَ عن واجبه إلى الأنفاق مُكتفيًا بقناع كتائب القسَّام حصرًا، أى أن الانتقالَ من السياسى إلى الحربىِّ كان اختيارًا لا اضطرارًا، وهذا مِمَّا يمنعُ عليه العودة إلى الدَّوْرَين معًا فى المُستقبل، ليس من ناحية إسرائيل ومَواقفِها المُتصلِّبة بشأن اليوم التالى فحسب؛ إنما من جهةِ الغَزِّيين المنكوبين أنفسهم، وقد تأكَّد لهم أنَّ السُّلطةَ فى وعى الأُصوليَّة الجهادية مجرَّد أداةٍ لمزيدٍ من القوَّة، وبينما تُوَظَّفُ ضِدَّهم فى أوقات السِّلم؛ فإنها تتخلَّى عنهم تمامًا فى الحروب والنكبات، ولن تكفى هُنا أية مُبرِّرات عن مناخ الأزمة واستحالة الاضطلاع بالمهام اليوميَّة، لا سيَّما مع ما يتردَّد بين الناس عن الاستئثار بالموارد، وما يتناقلونه من حكاياتٍ بشأن إدارة الأسواق والأمن والمساعدات.
إذا سألتَ الغزِّيين؛ رغم الهلع ويدِ القسَّام الثقيلة، ستجدُ فى كلِّ عشرةٍ تِسْعَةً حانقين، والعاشر إمَّا يُسكِتُه البطشُ أو الحَرَج أو اليأس، هذا لو استثنينا الفائضَ عن المليونين من سُكَّان القطاع؛ كأقصى تقديرٍ مُمكن لحاضنة حماس وبيئتها المدنيَّة والعسكرية. والناس الذين هلَّلوا للطوفان فى أوَّلِه، ويَكيلون له الانتقادات الجارحةَ اليومَ؛ لم ينقلبوا على أنفسهم أو يخونوا قضيَّتَهم، كما أنهم ليسوا طابورًا خامسًا كما تستسهلُ الأيديولوجيا دومًا فى النظر لخصومِها، وكلُّ الحكاية أنهم اعتبروا الحدثَ وقتَها مشروعًا نِضاليًّا يخصُّ الجميعَ انطلاقًا من تعبيره عن وجيعتهم؛ لكنهم لمَّا فُوجئوا بالإدارة السياسية لمُخرجاته لاحقًا، واستتباع السلاح والقرار لصالح رُؤيةٍ «فوق فلسطينيَّة» آتية من بعيدٍ، شعروا أنهم خُدِعوا فى البرنامج الذى يُفتَرَضُ أنه يتقصَّى مصالحَهم، وعليه أنْ يُبادِر بالاستدارة إذا تأكَّد له أنَّ المُواصلةَ تتصادمُ مع تلك المصالح. والقصدُ هُنا ليس أنه فى مقدورِهم إيقاف المَقتَلَة ولم يَفعَلوا؛ لكن أنَّ الإقرارَ بخطأ التقدير ما زال ممنوعًا، والاعتذارَ عنه لا يلمعُ فى أُفق المداولات والخطاب، ناهيك عن فكرة التقدُّم نحو التسوية مع بقيَّة المُكوِّنات الوطنيّة، وهذا مِمَّا لا يملكُه الاحتلالُ أو يستطيع مُصادرَته، بغَضِّ النظر عن كونِه مُثمرًا فى الحال، أو ستُرجَأُ عوائدُه إلى الاستقبال. فالخلاصةُ أنَّ الناظرَ من الداخل صار محكومًا بفكرة المُقامرة غير المحسوبة، وبالتمادى فيها، والاستكبار على العودة عنها، بجانب ما يتبدّى عن الحركة من انصراف ذهنِها إلى أن تكسِبَ بمُفردها، أو يخسر الجميع.
وإذا كان نتنياهو يُدافعُ عن حاضره السُّلطوىِّ المأزوم، ومُستقبلِه فى السياسة أو الذاكرة العِبريَّة؛ فإنَّ مُستقبلَ «السنوار» قد صار خلفه على الأرجح. وهو ينطلقُ فى خياراته من هذا الوعى المُغلَق، مُوقِنًا بأنّه لن يخرُجَ من المُنازلةِ المُحتدِمَة كما كان قبلها، أو لن يخرج أصلاً، وعليه فقد انتقلَ من مُربَّع السياسىِّ إلى المُقاتل أوَّلاً، ثمَّ من المُقاتل إلى الانتحارىِّ، وإذا كان المصيرُ واضحًا فى عينيه بين القتل المُعَجَّل فى الأنفاق، أو المُؤجَّل إلى منفى اضطرارىٍّ فى أيَّة صفقةِ رحيلٍ مُقبلة؛ فإنه يبدو اليومَ كما لو أنه يختارُ الموتَ بنكهةٍ «شمشونيَّة» خالصة، يستعيرُها من السرديَّات اليهوديَّةِ ويُنافس فيها زعيمَ الليكود. عجوزُ الصهيونية يُطيلُ حربَ غزَّة، ويفتتحُ غيرَها فى لبنان، ويُعلِّقُ عينيه على إيران نفسها؛ رَدعًا أو صِدامًا شاملاً، وفى هذا يرهنُ تاريخَه كاملاً على طاولة الصُّدفة والحسابات الساخنة؛ فإمَّا يخرجُ بطلاً أو يتركُ لوارثيه تركةً ثقيلةً لا يُمكنُهم تصفيتُها، ومُعادلُه الفلسطينىُّ لا يبتعدُ عن الخيارات نفسِها؛ فكأنهما انعكاسُ المرآة لوجهٍ واحد، وبهذا يكون الخيار الصائب من وجهةِ نظرِه أن يطلُبَ المُستحيلَ من عدوِّه المجنون، ويشدَّ حبلَ الصراع انتظارًا لتقطيع الرقاب المحشورة بينهما، ولأنْ تشتعلَ المنطقةُ بكاملها فى لَوثةٍ قد تُبقيه حَيًّا، وإن أكلَتْه مع المأكولين فلن يكونَ الأمرُ مُختلِفًا عَمَّا ينتظرُه فى مخبئه بين لحظةٍ وأُخرى.
السوداويَّةُ الباديةُ فى هذا الطرح لا تفتحُ منفذًا للخروج من الأزمة مع أىٍّ من القيادتين. ليس مُهمًّا مِقدارُ التشدُّد من جانب المُمانَعة، ولا حجمُ ما تبذلُه الولايات المُتَّحدة من جَهدٍ فى التلطيف أو التهييج، فإذا لانت إيرانُ سيتشدَّد نتنياهو وينفلت من زاويةٍ أُخرى، وإنْ صعَّدت واشنطن ضُغوطَها؛ بفَرضِ أنَّ بايدن قادرٌ على هذا أصلاً فى مرحلة «البطَّة العرجاء»؛ سيتجرَّأ الحزب أو يُنفَخ بالونُ الحوثيِّين وغيرهم من الميليشيات بطَاقةٍ مُضاعَفة، وإنْ تلاقَوا جميعًا على صفقةِ الكواليس المأمولة من طرفٍ والمرفوضةِ من الآخر، سيضعُ «السنوار» عصاه فى الدواليب كما فعلَها أوَّلَ مرَّة. ومُقدَّمة الحلول كلِّها تقعُ حصرًا فى غزَّة وتلِّ أبيب، شريطةَ أن تُزاحَ دائرتا القرار المُتسلِّطتان فى الجانبين، وهى ليست دعوةً للحلول الخَشِنَة على الإطلاق؛ إذ لو كان بمَقدور إسرائيل أن تُهندِسَ طبقتَها الحاكمةَ بالسياسة، فإنَّ «حماس» قادرةٌ على المهمَّة نفسِها بالتعقُّل والمُراجعة.
كلُّ فريقٍ ينظرُ للتقَهقُر على معنى الإقرار بالهزيمة، بينما يستحيلُ عليهما معًا الوصولُ للنصر بمعناه الميدانىِّ الحاسم. إزاحةُ «بيبى» من الواجهة يُمكنُ أن تُعيدَ ترشيدَ الخيارات الإسرائيليَّة مرحليًّا على الأقل، وبناءُ رؤيةٍ حماسيّة أكثر تطوُّرًا ومُواكبةً لواقع الأرض، قد تسمحُ بإبرام صفقةٍ فيها من مرارة الحاضر، ما يُقلِّص شيئًا من المرارات المَوعودة فى المستقبل. وليس شرطًا أن يحدثا معًا، أو أن نُحارِبَ العدوَّ بمادّته بينما يجنى الثمارَ ويتركُ لنا الشوك. وإذا كانت ظِلالُ اليمين تُخيِّم على إسرائيل كلِّها بثِقَلِها الكئيب؛ فإنَّ مجالَها العامّ لا يخلو من نقدٍ ومُراجعات يغيبان عن بيئة الفلسطينيين إلى اليوم؛ رغم أنهم أحوج إليهما من عدوِّهم. لنَقُل إنها كانت مُغامرةً محسوبةً أو عاطفيَّة؛ لكنَّ «الطوفان» لم يُضِف للقضية بقدر ما أخذَ منها، وقد عوَّق بيئةَ النضال فى قاعدتها الشعبية العريضة، وطبعَ بصمةً ثقيلةً على المشروع الحماسىِّ الآن وفى الغد. الشجاعةُ ليست فى حَمْلِ البنادق وإطلاق الرصاص فقط؛ إنما فى معرفة كيف تخسرُ بكفاءةٍ عندما يتعذَّرُ عليك الكسبُ باقتدار. أمَّا الوقوفُ على الأطلال، ورُؤيتها فى هيئة البساتين وبيارات البرتقال؛ رغم ما فيها من دمٍ وأشلاء ومَواجع لا حصرَ لها؛ فإنَّه من صُوَر البؤس التى تزيد الاعتلال وتُعسِّر التشافى. إنّه طيفٌ من المازوخيَّة ولو اتَّخذَ طابعَ الصلابة والبأس، ويحتاجُ «السنوار» أن يتخلَّى عن غرامِه بغريمِه وقاهرِه، وأن ينقلب على «شمشونيَّة نتنياهو»؛ إذ المعبدُ فى غزَّة كما كان قديمًا، وهدَمُه لن يقتلَ إلَّا الفلسطينيِّين على ما جرت العادة دائمًا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة