كانت غزّةُ أوَّلَ الحرب الدائرةِ فى المنطقة، وستكونُ آخرَها أيضًا. أُقحِمَ لبنانُ فى الصراع دون اختيارٍ منه، وتمسَّكت إسرائيلُ بذريعة الحزب لتَوسِعَة عدوانها، ونَقل المسألة من حَيِّز الاشتباك بين احتلالٍ ومُقاومة فى فلسطين، إلى حال الصدام الإقليمى بين أجندتَيْن أُصوليَّتَيْن، بمَشروعَيْن مُتضَادَّيْن شكلاً ومُتطابِقَيْن فى الموضوع. وما تحقَّق لنتنياهو نتيجةَ خطأ التقدير وسوء الحسابات من جانب محور المُمانَعة، يُفوقُ كثيرًا ما أنجزَه بجهدِه الخاص، وما يُمكن تسويقُه على صورة عُمق الرؤية وكفاءة الإدارة.
والحال، أنَّ «وحدةَ الساحات» لم تتحقَّق بمَنطق الشيعيَّة المُسلَّحة، كما تعذَّر الفصلُ بينها على ما أرادت إسرائيل، وكلاهما أخطأ فى قراءة المشهد والتعاطى معه؛ أكان بالعَجز عن السَّير تحت سقف التوازُنات القائمة، أم بالإخفاق فى مُحاولات تعديلها وإنتاج مُعادلةِ ردعٍ جديدة.. وبعيدًا مِمَّا آلَ إليه الميدان؛ فلا قيمةَ لحِسبَة الربح والخسارة ونزيفِ الدم والإمكانات، طالما يعجزُ أحدُ الطرفين عن الحَسْم، وطالما بَقِيَت الأمورُ مُعلَّقةً فى وضعية الاستنزاف المفتوح.
يستحيلُ أن يخرُجَ الغريمان مُنتَصِرَيْن من حلبة القتال؛ إنما يُمكن أن يتعادلا أو يقتسما الهزيمة. وما حدثَ على امتداد السنة الأخيرة، أنَّ إسرائيلَ هُزِمَت معنويًّا، وانكسرَ «حزبُ الله» ماديًّا، وتبقى المسألةُ كلُّها فى استنقاذ الدولة الواقعة على فالقِ النار بينهما، أى بفَصْلِها عن مُجريات المعركة التى لم تَكُن طرفًا فيها، ولم تُسأل عنها أو تُستَشَر فى قرارها؛ فكأنها تتحرَّر من الوصاية واستلاب الإرادة بحسابات الضاحية، ومن اختزالِها بالكامل فى صِفَة الميليشيا أو الساحة الرديفة كما يُريدُ الصهاينة.
وإذا كانت الولاياتُ المُتَّحدة تُقارِبُ الملفَّ من زوايا شخصيَّةٍ ضيِّقة، جوهرها إسنادُ تلِّ أبيب بالوَصفة التى اقترحَها نتنياهو وعَمَّمَها بإرادةٍ فرديَّة، ثمَّ الهروب من الانزلاق فى فَخِّ التصعيد وصولاً لدخول الحربِ بالأصالة؛ فإنَّ المُقاربةَ العربيَّةَ من جانب «دُوَل الاعتدال» الوازنة للمنطقة، تنطلقُ من اعتباراتٍ سياسية وقِيَميَّة، وتنشغلُ بالحالة اللبنانية الهَشَّة والمُهدَّدَة فى عوامل بقائِها؛ بأكثر من انشغالها بمَصلحةٍ مُباشرة أو بحساباتٍ جيوسياسيَّة مُعقَّدة، لا سيَّما وقد تأكَّدَ عَمليًّا أنها تتجاوزُ قُدرةَ الجولة الراهنة على التلاعُب فيها أو إعادة صياغتها. أىْ أنّه اشتباكٌ على معنى الرسالة والمهمَّة الإنقاذيَّة؛ وليس انحيازًا لأجندةٍ أو تغليبًا لرُؤيةٍ على أُخرى.
لبنانُ فى مركز الإعصار. العدوُّ يقضمُ أطرافَه بالحديد والنار، والصديقُ يَزُجّ به على مُنحَدَرٍ لا يُعرَفُ آخرُه. ويتعيَّنُ على فِرَق الإنقاذ أن تختَطِفَه من الطرفين؛ بمعنى الانتشال من المحرقة، وضمان قَطع الطريق على احتمالات تكرارها مُجدَّدًا. والمساران مُرتبِطَان جَوهريًّا ومُنفصلان إجرائيًّا؛ لكنَّ القابضين على زمام الميدان يتَّخذان من العنوان نفسِه وسيلةً للتنازُع والمُناكفة.
يُنادى طَرفٌ بانتخابِ الرئيس قبل البحث فى التسوية، ويضعُ الآخرُ إسكاتَ البنادق شرطًا لإدارة مُحرِّكات السياسة. وهكذا يُعادُ إنتاجُ نسخةٍ رديئةٍ من «ربط الساحات»؛ على وجهٍ زمنىٍّ لا مكانى، وسياسىٍّ لا حَربىٍّ، ما يقودُ بالضرورة لإبقاء القتال دائرًا، والقَصر شاغرًا، مع تعريضِ النسيج الوطنىِّ ومِيثاقيَّةِ التعايُش لضرباتٍ قاسيةٍ. وهى فضلاً عن تجاوزِها لطاقة احتماله التى أوشَكَتْ على النفاد؛ فإنها تُهدِّدُ بتكرار أسوأ الفصول فى تاريخه القريب، أىْ بالتزَحزُح مُجدَّدًا نحو مُستنقع الاحتراب الأهلىِّ.
انطلاقًا من تلك الأُحجية السوداء، وعملاً على مُجابهتها بالتعرية والتفكيك. كان وزيرُ الخارجيَّة المصرىُّ بدر عبد العاطى واضحًا فى رسالته من بيروت، التى وصلَها أمس، وصرَّح بجُملةِ أُمورٍ بمُجرَّد هُبوطِه على مُدرَّج مطار رفيق الحريرى؛ لعلَّ أبرزَها الرفض المُطلَق لرَبط الجنوب بقَصر بعبدا، وتعليق الوصول إلى اتِّفاقٍ بشأن الحرب، على أولويَّة انتخاب الرئيس وإنهاء شغور العامين الماضِيَين.
والمنطقُ هُنا ليس أنَّ أحدَ الأَمْرين أهمّ من الآخر؛ إنما أنهما مَطلوبان بالدرجة نفسها، لكنهما غير مُرتبِطَيْن وإن أَتَيَا من قناةٍ واحدة. فالمُؤسَّسةُ التشريعيَّةُ المُوكَلَة بالحلِّ فى الداخل، لها صلاحيةُ إنجاز التسوية مع الخارج، عبر ما تُسبِغُه من شرعيَّةٍ على مواقف حكومة تسيير الأعمال؛ لكنَّ استكمالَ مرافق السُّلطة يظلُّ مسألةً وطنيَّةً خالصة، مَوضوعُها الدستور والإرادة الشعبية، بينما عُدوان الصهاينة قضيَّةٌ سياسيَّةٌ قانونيَّة، وتتَّصلُ بالعلاقات الدولية، وبالصيغة الأُمَميَّة ونظامها القائم على القواعد.
القاهرةُ طَرفٌ أصيلٌ فى اللجنة الخُماسية، وتنشَطُ على محور إنهاء الشُّغور الرئاسىِّ منذ شهور طويلة. وسفيرُنا النَّشِط علاء موسى يلعبُ دورًا مُهمًّا للغاية فى وَرشة الحوار وتقريب الرُّؤى. وعندما يقولُ رأسُ الدبلوماسية المصرية إننا نرفضُ ربطَ العنوانين ببعضهما؛ فإنه ينطلقُ من وعىٍ عميقٍ بأهميَّة الملفِّ العالق بين القوى السياسية؛ لكنه يتَّخذُ موقفًا صريحًا من مُحاولات توظيفِه للنكاية والابتزاز، أو تَذخِيره ليكون سلاحًا إضافيًّا فى الحرب الدائرة.
وبالدرجة التى يُقالُ فيها لإسرائيل إنَّ وقفَ العُدوان التزامٌ لا يقبلُ النقاشَ والإرجاء، ولا يتعلَّقُ على غيره من ذرائعَ ومُبرِّراتٍ، يُقالُ للحزب ومَن خَلفَه إنَّ الصيغةَ القديمة لم تَعُد صالحةً للمُستقبل، وليس مُتاحًا أن يُوَظَّف فائضُ القوَّة على الجبهة فى ابتلاع الدولة وتطويع الشركاء. إنها رسالةٌ مُزدَوَجة تحملُ مَعنَيَى الإنقاذ المَطلوبَيْن: انتشال البلد من بين أنياب العدوِّ، وإبعاده عن مخالب الصديق أيضًا. فالحلُّ الوحيدُ أنْ يَتَلَبْنَن لبنان؛ فلا يعودُ قاعدةً مُتقَدِّمةً لحَليفٍ، ولا ثغرةً مُستباحَةً من غَريم.
إعادةُ الإنتاج ليست سهلةً على الإطلاق؛ لكنها ضروريةٌ وتستحقُّ المُحاولة.. رُوحيَّةُ التجربة منذ «لبنان الكبير» وإلى زمن الطائف، لا تضعُ أيّة قضيّة مهما بدت مُهمَّةً فوق التزام المُساكَنَة المُنضبطة بحساباتٍ دقيقة، وحينما حدث ذلك سابقًا؛ تورَّط البلدُ فى أزماتٍ كُبرى، واقتتلَ داخليًّا، وتبدَّل عليه الرُّعاة بين رايةٍ قومية وعمامةٍ مذهبيَّة. وإذا كان قد سُلِّمَ لسوريا بتوافقاتٍ بين الأسد والغرب؛ فإنه بِيعَ للمرة الثانية بصفقة ضمنية شبيهة مع طهران، ولن تنكسرَ الدائرةُ إلَّا باستقلالِه الحقيقىِّ الكامل، وتحريره من التنميط والاختزال فى صُورة الجائزة، أو الهامش الذى يُرجِّح الميزان.
جرَّبتْ الفصائلُ الفلسطينيَّةُ حظَّها مع القفز خارج الحدود، وفى كلِّ مرَّة كانت تتلقَّى ضربةً أفدح مِمَّا قبلها، وتتسبَّبُ فى أزمةٍ لبلدٍ عربىٍّ أو آخر. لبنانُ لم يكُن بعيدًا من تلك التجارب، وبينما انتهتْ جولةُ الثمانينيَّات بخروج عناصر فتح، وقناعة مُنظَّمة التحرير بتوفير الحاضنة العربية من أجندة الصراع مع العدوِّ، أُعِيْدَ فَرضُ النموذج سابقِ الفشل على اللبنانيِّين من خلال الحزب. ولَعِبَ فارقُ التوقيت، وبُطءُ التجاوب مع الإشارات المُتصاعِدَة، دورًا سلبيًّا للغاية فى إزاحة الاشتباك المحسوب إلى نطاق الصِّدَام الكامل. وهكذا صارَ الرديفُ أصيلاً فى الجولة، ونُحِّيَت غزّةُ من صدارة المشهد، بما كلَّل سماءها بسحابة دخان ودعاياتٍ كثيفة، خصمت من مِحنَتِها الإنسانيَّة، ولم تُعزِّز نضالَها المُسلَّح.
حينما أطلقَتْ حماس «طوفان الأقصى» فى أكتوبر قبل الماضى، كان واضحًا أنه نداءُ استدعاءٍ لبقيَّة الحُلفاء فى محور المُمانَعة، وبإحجامِ إيران فَقَدَتْ الخطوةُ زَخْمَها؛ حتى مع استجابة حزب الله تحت عنوان «المُشاغلة والإسناد». نتنياهو كان الوحيدَ الذى التقطَ طرفَ الخيط من السنوار، ولاقاه على الأجندة التى أرادها؛ بمعنى أن تكونَ جولةً إقليميَّةً موسَّعة، وأقربَ إلى المُقامرة بكلِّ شىءٍ؛ فإمَّا تتيسَّرُ تصفيةُ المسائل العالقة وإعادة ترسيم الخرائط السائلة، أو تكون الفوضى العارمةُ رهانًا على الاحتمال والمُصادفات، وعلى أن تَسوقَ المَوجةُ الدوليَّةُ رسالةً فى زجاجة، تفضُّ الشِّجارَ وتنصرُ تيَّارًا على تيَّار.
عرفَ الطرفان ما لا يُريدانه؛ إنما لم يعرِفْ أحدُهما ما يُريدُه ولا كيف يتحصَّل عليه. وهكذا يقولان إنهما لا يسعيان للحرب الشاملة، ثمَّ يفعلان كلَّ ما يقودُ إليها. والمُفارقة أنَّ كلاًّ منهما عمل خادمًا لأجندة الآخر من حيث لا يدرى: قالت المُمانَعة بوحدة الساحات ونفَّذها الصهاينة، وزَعَمَ الأخيرون أنهم يُحاربون على سبعِ جبهاتٍ، فدبَّر لهم الأوَّلون ما يكفى من الذرائع. والحال؛ أنَّ الساحات متَّصلة ومُنفَصِلة فى آن؛ بمعنى أنها تُسدِّد فاتورَتَى الوحدة والانقطاع معًا، فلا ربحت من تكاتُف القوى، ولا انتفعت بتأطير المَظلَمة. وصِرْنا إذ نتحدَّث عن إنقاذ غزّة تُقصَف الضاحية، وإذ نبحث عن نجاة لبنان تتعطَّل الهُدَنُ فى القطاع.
يُجزّأُ الميدانُ إلى ميادين صغيرةٍ فى مُقاربات التهدئة، ويتجمَّعُ ثانيةً فى خُطَط القتال. وكلا المُتحارِبَيْن يجهلُ كيف ينتصرُ، والأفدحُ أنه يجهلُ كيف يُهزَمُ أيضًا. والوساطةُ هُنا تلعبُ دورًا مُركَّبًا بالاضطرار؛ إذ تجدُ نفسَها مَعنيَّة بإقناع الطرفين بالكسب والخسارة معًا، وترشيد خياراتهما الجارحة، ثمَّ إعادة تحرير ما يقعُ بين الثوابت فى عقيدةِ كلٍّ منهما، أكان بالبقاء فى مُغامرة «عَضّ الأصابع» دون أُفقٍ سياسىٍّ، أم الافتتان بإطلاقيَّة أنَّ «ما تعذَّر على القوَّة، يتيسَّرُ بمزيدٍ من القوَّة».
يحزمُ «بايدن» حقائبَه استعدادًا للرحيل، ويتقافزُ ترامب على الخطِّ انتظارًا لمَوعد دخول المُباراة. وبينما تغيَّرت التركيبةُ الصِّراعية فى أحد جوانبها؛ بإزاحة هَنيّة والسنوار، ونصر الله وكامل هيئته القياديَّة، فإنَّ تشكيلةَ نتنياهو على حالِها تقريبًا، أو لعلَّها صارت أقوى بإخراج جالانت لصالح اليمينىِّ المسعور يسرائيل كاتس، وإدخال جدعون ساعر إلى الحكومة، بينما يتحضَّرُ لشوطٍ أشدّ صخبًا فى المرحلة المُقبلة، وقد رتَّب حساباته على أنه سيخرجُ من رخاوة الديمقراطىِّ العجوز فى البيت الأبيض، ليدخُلَ فى عِصمة الجمهورىِّ الشرس، والثابتُ بالسوابق أنَّ الخَلَفَ أقربُ من السَّلَف، وأقدرُ على الحَسْم، ولديه صلابةٌ مبدئيَّة تجاه رأس المُمانَعة.
ربما على هذا المعنى، أرسلَ وزيرَه للشؤون الاستراتيجية، رون ديرمر، إلى واشنطن؛ ليلتقى بالرئيسين وإدارتيهما الانتقالية والمُقبلة. وليس عابرًا أن يتزامن وجودُه مع زيارة الرئيس الإسرائيلى إسحاق هيرتزوج، والأخير قال لبايدن إنه مُمتَنٌّ لدعمه ورعايته، وجدَّد السرديّة الصهيونية عن قوى النور والظلام، مُستدعيًا الجمهوريَّةَ الإسلامية كخَصمٍ للنموذج الحضارىِّ المُشتَرَك، وعاملِ إثارةٍ وإزعاجٍ للمنطقة والعالم. وهُمْ إذ يسعونَ لتثبيت السياسات الديمقراطيَّة القائمة، يستكشفون الأرضَ مع الجمهوريين، ويُحاولون الوصولَ إلى مُقايضةٍ بشأن ما يُمكن إرجاؤه، وما يتعيَّنُ الفراغَ منه على وجه الاستعجال.
يقعُ الرهان من جانبهم على توظيف الأسابيع الباقية من ولاية بايدن فى خدمة ترامب؛ فكأنهم بينما يُحقِّقون مُرادَهم فى الأمتار الأخيرة من رحلة «البطَّة العرجاء»؛ يُقدِّمون هديَّةً للحليف المُفضَّل بالإشراف على مُغادرة غريمه اللدود، وتصفية المسائل المُزعِجَة قبل أن يدخُلَ للمكتبَ البيضاوىَّ فى مَوكبِه المُظَفَّر. أمَّا المُربِكُ على الجانب الآخر؛ فهو أنه لا يُعرَفُ على أيّة قاعدةٍ تُدارُ اللعبة، وهل يُراهَنُ على الراحل أم القادم؟! بمعنى أنَّ الوسيطَ الأمريكى فى مرحلةٍ أرجوانيَّةٍ رغم حَسْم السباق، فلا هو «أزرق» بما يكفى لفقدان الأمل ومواصلة التسعير والتصعيد، ولا «أحمر» بما يُبشِّر بصفقةٍ وشيكة.. وإزاءَ الانتظار والرَّيبة؛ يبدو أنَّ ضبعَ الليكود يأكلُ من كلِّ الأطباق فى وقتٍ واحد.
فى سياقٍ وثيق الصلة؛ يُردِّدُ رئيسُ الحكومة فى أحد الاجتماعات أنه بصَددِ إعادة مسألة ضَمّ الضفَّة الغربية إلى أجندة العمل، ويُغلِّف وزيرُ ماليته المُتطرِّف بتسلئيل سموتريتش طَرحَه برسالةٍ صاخبة، يُجاهر فيها بأنَّ 2025 سيكونُ عامَ السيطرة الكاملة على «يهودا والسامرة» وفقَ المُسمَّى اليهودىِّ. وإذا أضَفْنا الرؤيةَ الإسرائيلية لغزَّة، وما يبدو أنه تفعيلٌ عَمَلانىٌّ لخطَّة الجنرالات، بتقسيم القطاع وفَصْلِ شَمالِه عن جنوبه؛ فإنَّ المسألة على الجانب اللبنانى لن تكون مُقنعةً لهم تحت سقف القرار الدولى رقم 1701، ولا ما تردَّد عن نُسخة «1701 بلس» المُحدّثة. إنه خَلطٌ شاملٌ للأوراق على كلِّ المستويات، وهو ما لا ينفصلُ عن تكتيك التفاوض الصهيونىِّ الشائع؛ بالضرب شَمالاً بينما يُخطِّطون لابتلاع الجنوب؛ والعكس بالعكس.
هكذا تتداخل الرسائل؛ كأن يقول الساسة فى تل أبيب إنهم قريبون من التهدئة على الجبهة اللبنانية، ويقول الجنرالات إنهم بصدد توسعة العملية البرّية. وبالمثل ما يحدثُ على صعيد غزّة؛ بإفشال مُفاوضات الهُدنة، بينما يتردَّد فى واشنطن أنهم قدموا مُقترحا للسلطة الفلسطينية بشأن «اليوم التالى»، وآلية إدارة القطاع ما بعد الحرب. وتنازع الروايات لا يُعبِّر عن ارتباك فى إسرائيل، بقدر ما يُشير إلى مُناورةٍ ترفعُ الخيارات وضدّها؛ بحيث يكون سهلاً عليها تفعيل ما تراه مُناسبًا، أو الهرب منها جميعًا إن اختلفت لديها الحسابات.
بهذا المُعطى؛ يصير الدفع باتجاه تبريد الجبهة اللبنانية شرطًا ضروريًّا لإسناد الجبهة الغزّية، على معنى مُثمر للإسناد غير ما أتاه الحزب قبل سنة. وليس مطلوبًا أن تتشتَّت الجهود، ولا أن تُمزَج المُشكلات وحلولها فى إناء واحد. والقصدُ أنه يتوجَّب فصل غزّة عن لبنان، وفصل التهدئة فى الأخيرة عن الانتخابات الرئاسية، أو أيّة ترتيبات سياسية تالية لمرحلة ما بعد الهيمنة وثلاثية «جيش وشعب ومقاومة» المفروضة على البلد قهرًا. والنجاح فى القطاع مطلوبٌ وله الأولوية، بالنظر إلى ما عاناه طوال السنة الماضية؛ إنما للأسف لا يصبُّ لصالح الجبهة الثانية، هذا لو كان ميسورًا إنجازه أصلاً بمعزلٍ عنها.
والفكرةُ هُنا، أنه مُنذ إطلاق حرب المُساندة، ثمَّ اتِّخاذ إسرائيل من لبنان جبهةً أساسية، صار الوصولُ إلى صفقةٍ فى الشمال هو المَدخل إلى إعادة إنتاجها فى الجنوب؛ أىْ أننا من جديدٍ إزاء «وحدة الساحات»؛ إنما بالمفهوم الصهيونىِّ لا الشيعىّ. والمُقاربةُ العربيَّةُ اليومَ تسيرُ فى الوِجْهَتين معًا؛ لكنها ربما تعرفُ أنَّ النجاح على الجانب اللبنانىِّ شَرطٌ للإنجاز فى الناحية الفلسطينية. الصفقةُ شَمالاً ستعنى عودةَ المحور إلى قواعدِه القديمة، وتحرير القضيَّة الفلسطينيَّة وفصائلها من كَونِهم بيدقًا مُتقدِّمًا أو ورقةً للمُساومة. سيكون الأمرُ بمثابةِ إفراجٍ عن أسرى التحالُف، تمهيدًا لمُبادلة أسرى الحرب.
ومن جديدٍ؛ يتأكَّدُ أنه لا بديل عن الدولة الوطنية القائمة فى لبنان، ولا عن ظِلالِها وروائحها الخافتة فى فلسطين؛ إذ لا سبيلَ لإنتاجها على الأرض ما دامت غائبةً عن الوعى والمُمارسة. نحتاج لربط النزاع وفصل الساحات، والنأى عن السرديَّات المُتضاربة والهُويَّات الحارقة.. والرسائلُ التى حملَتْها القِمَّةُ العربيَّة الإسلامية، ثمَّ زيارة الوزير بدر عبدالعاطى اليوم، وقبلهما جهود الثلاثى العربىِّ ضمن اللجنة الخماسيَّة، ومُقاربات محور الاعتدال خصوصًا القاهرة، كلّها خُطىً على طريقٍ واحدةٍ نحو إنقاذ القضية المركزية من التحريف والتشويه وألاعيب المحاور والأحلاف، واستنقاذ الساحات المشبوكة بها من المخابيل والحُواة، ومن شياطين النفس أوَّلاً وأخيرًا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة