إذا كان ثمَّة ما تحتاجُ إسرائيل لإنقاذها منه فعلاً؛ فإنّه بنيامين نتنياهو، الآخذُ بخِناقِها والقابضُ على قرارِها، وقد تبدّى أنه يرقصُ رقصتَه الخاصَّة، ويلعبُ لحسابِه بمعزلٍ عن الدولة وحساباتها. وللمُفارقة؛ فالديمقراطية الوحيدة فى الشرق الأوسط، على ما تزعمُ عن نفسها ويراها رُعاتُها الغربيّون، تزحزحَتْ كثيرًا ناحية «التوتاليتاريَّة» فى أردأ صُوَرِها، ولم تعُد عاجزةً عن استخلاص قرارها من مخالب حاكمِها العجوز فحسب؛ بل تُدفَعُ عنوةً لخدمة أجندته الشخصية، وتتطابَقُ مع عدوِّها لدرجةٍ يصعُب التمييز بينهما.
إنه النيرانُ الصديقة إذ تأكلُ نفسَها؛ وتختصمُ المُمانَعة، على ما يبدو، فى أيِّهما يُصيبُ قدميه أوَّلاً، ومَنْ الأقدرُ منهما على إيذاء بيئته بأكثر مِمَّا يؤذيها الآخرون. طبقاتٌ من الجنون فوق بعضِها، وتتنافسُ مع جنونٍ مُختلفٍ فى الشكل ومُؤتلفٍ فى المضمون، ما يُبقى الصراعَ مُتأجِّجًا إلى ما لا نهاية، ويجعلُ احتمالات التعقُّل فى عِداد المستحيل.
والمَدخلُ من تلك الزاوية، يفرضُ البحثَ عن تسوياتٍ خارج ميادين القتال وغُرَف السياسة؛ وتبدأ وُجوبيًّا من هندسة المجال العام على الناحيتين. والحال؛ أنها دوَّامةٌ من استعمارٍ مُركَّب: إسرائيل تُمارِسُ الاحتلالَ ماديًّا ويُمارَسُ عليها معنويًّا من داخلها، وفلسطين مُحتَلَّةً مَرَّتين؛ الأشرس من العدوِّ الصريح، والأصعب يقترفُه الصديقُ بانتهازيَّةٍ أو بمحبَّة.
ونَفاذُ أحد الغريمين لغايتِه إنما يقتضى الحسمَ فى ثلاثةٍ من أربعة احتلالات؛ لكنَّ الأرضَ موضوعٌ لا يقبلُ التفريط هُنا وهُناك، بينما إزاحةُ اليمين فى ناحيةٍ قد تشطبُه من الأخرى. والمعنى؛ أنَّ اشتدادَ بأس الأُصوليَّة التوراتيَّة يُغذِّى نُسخةً إسلاميَّة مُضادّة. وبينما كانت المُعادلة الضِدّية قائمةً منذ النكبة؛ فإنها انجَلَت وتضخَّمت وفرَضَتْ قوانينَها فى العقود الأخيرة، بتخطيطٍ من «الفوهرر بيبى» وتحت رعايته؛ أو لعلَّها نتاج خياراته الخفيفة ومُقامراته غير المحسوبة.
وإنْ صَحَّ القولُ إنَّ الصقور فى جانب المُمانَعة مَثّلوا جانبًا من المشكلة؛ فإنَّ ذئبَ الصهيونية كان جانبَها الأكبرَ من ناحيتين: نيابته عن الاحتلال بوصفِه أساسَ الصراع، ثمَّ تجسيده أشدَّ صُوَر الغطرسة والحلول الصِّفرِيّة. وعليه؛ فإنَّ فُرَص الخروج من النفق تكاد تنعدمُ مع نتنياهو ونماذجِه الشبيهة، ولا يُمكِنُ أنْ يتحقَّقَ أمانُ إسرائيل إلَّا باستنقاذِها من شيطانِ نفسِها، أى العمل على وَضعِها فى قالب الدولة الطبيعيَّة، ثمَّ قَطع الطريق على اختطافها من أردأ ساستِها، وكلاهما يبدأُ بإنهاء إرثِ رئيسِ حُكومتِها الأطول بقاءً فى السُّلطة.
عاشت الدولةُ العبريَّةُ قُرابةَ رُبع عُمرها تحت راية نتنياهو. وبينما يُنظَرُ إلى «طوفان الأقصى» باعتباره تجسيدًا لإخفاقه الراهن، ورخاوة إدارته فى خريفها؛ فالمسألةُ على وجهها الحقيقىِّ أعمقُ كثيرًا؛ إذ يتحمَّلُ المسؤوليَّةَ عن مُقدِّمات الصدام بقدر ما يُسأَلُ فى نتائجه. لقد قضى نحو اثنتى عشرة سنة مُتّصلة فى الحُكم، ترك أسبابَ الانفجار تتضخَّم فى أحشاء المنطقة، أو رعاها عمدًا، بينما يُقدِّمُ للداخل خطابًا شعبويًّا شديدَ البؤس والإيهام، لغايةِ أنْ يُزَحْزِحَ مُجتمعًا يَمينيًّا، إلى يمينٍ أبعد وأشدّ تطرُّفًا.
جاء من حقل الاقتصاد، وبعد تجربةٍ دبلوماسيّة قصيرة؛ ليرتقى سلالمَ الحكومة على جُثّة رابين، بعدما مارسَ كلَّ صنوف التحريض والتجييش ضد أوسلو ومسارها المُقتَرَح. وبعيدًا من صِدقيَّة تل أبيب فى إقدامها على الحوار، وما إذا كان مُحتمَلاً أنْ ينقلِبَ «رابين» نفسُه على الاتفاق لاحقًا؛ فالصورةُ الختاميَّةُ أنَّ قائدَ الليكود الجديد بدأ من نقطةٍ إيجابيّة، واجتهد بكُلِّ السبل لإفسادها والانقلاب عليها، وهذا ما أوصلَنا لِمَا نحن عليه اليوم.
فى تجربتِه بعد منتصف التسعينيَّات، مَهَّد الأرضَ لاندلاع الانتفاضة الثانية، وتسلَّمَها من إيهود أولمرت بعد عشر سنواتٍ على شفا التهدئة أو الانفجار، وكان عليه أن يختار إلى أىِّ اتّجاهٍ يذهب.. صحيحٌ أنه ورثَ الجبهة بعد حربى 2006 مع حزب الله و2008 مع حماس، وقد تَرَسَّمتْ حدودُ الصراع نسبيًّا بالقرار 1701 فيما يخص جنوب لبنان، وبانفراد الحركة بحُكم غزّة بعد انقلابها على السلطة الوطنية؛ إلَّا أنه كان قادرًا لو أراد على تجميد الأوضاع، وحَسْم نقاط الحدود العالقة شمالاً بما يسمح بتفعيل القرار الأُمَمىِّ، أو تَرْك الحماسيِّين جنوبًا ليختنقوا فى تحدِّياتهم اليومية، بما يُعيدُهم اضطرارًا لفضاء رام الله، ويستردّ الحالةَ الوِفاقيَّة بانتخاباتٍ جديدة، أو باتِّفاقٍ لتنظيم العلاقة تحت رايةٍ جامعة.
وما حدثَ أنه اختار العكسَ تمامًا. ربما لم يُصَعِّد مع الحزب، ولم تكن لديه إمكانيَّة التحكُّم فى خطوطِ إمدادِه أصلاً؛ لكنه عمدَ لبناء منظومةٍ دِفاعيَّة مُتعدِّدة الطبقات، عزّزت سباقَ التسلُّح لدى الغريم، وأوقعت فى نفسِه يَقينًا لا يقبلُ الشَكَّ بانصراف الصهاينة لا عن السلام فقط؛ بل عن مُجرَّد التفكير فى التعايش والمُساكنة الهادئة. وما بدا مُستتِرًا على أطراف الجليل؛ كان ظاهرًا للغاية عند قاعدة فلسطين؛ لا سيَّما والقطاع بيئةٌ مُغلَقَةٌ تمامًا، ولدولةِ الاحتلال هيمنةٌ كاملةٌ على فضائه الجغرافىِّ بَرًّا وبحرًا.
وقعَ رِهانُه وقتَها على استثمار الانقسام، وأن يُنجِزَ مهمَّةَ الإجهاز على بقايا أوسلو بأيدٍ فلسطينية، والسبيل أن تتقوَّى «حماس» ويشتدّ عودُها؛ فتصير نِدًّا للسلطة ومُناطِحًا لمُنظّمة التحرير. ولم يكتفِ باعتماد الفكرة والفُرجة عليها من بعيد؛ بل سخَّر إمكاناته كلّها لتسريع وتيرتها، ورَفدها بكلِّ حاجاتها الماديَّة والمعنوية. وعلى هذا المعنى؛ جاءت «صفقة شاليط» غير المُنسجمة إطلاقا مع ذهنيَّة نتنياهو؛ لتُعزِّزَ رمزيَّة الحركة فى بيئة القضية، وتمنحها سَبقًا لم تستطعه الإدارة فى زمن عرفات وما بعده، بالنظر لطُول ورشة التفاوض وطبيعة المُبادَلة وعدد المُفرَج عنهم، وعلى رأسهم السنوار.
أمَّا الصورةُ الأَجْلى؛ فكانت فى الإسناد والتمويل، وقد رعى عبورَ الحقائب المالية شهريًّا من مطارات إسرائيل، وربما غَضَّ الطرفَ عن عمليات إمدادٍ لوجيستى على سواحل القطاع. كانت الغايةُ أن تُختَزَلَ القضيَّةُ فى أحد أطيافها، وربما صَوَّر له خيالُه أنَّ الحركة مُرتَدِعَةٌ أو يسهُل رَدعُها، وأنها أيسرُ فى الصدام من مجموع القوى الوطنية أو الشارع بكامله، وربما تغلُب عليها المصلحةُ فتنصرف لتأمين سُلطتها ومنافعها، وفى النهاية فإنها تُقدِّمُ بوَجهِها الأُصولىِّ ذريعةً لتديين الصراع، وتفتحُ الباب لاستدعاء اليهودية إزاء الإسلام، والتوراة ضدّ القرآن، وبعيدًا من حدّية التقابُلات وإمكانيّة حَسمِها؛ فإنها على أسوأ الأحوال مِمَّا يضمنُ ذخيرةً لا تَنفَدُ من الذرائع، ومن مُحَفزِّات التأجيج الدائم.
سنواتُه الثلاثُ الأولى حكوميًّا جاءت فى حماوة الاشتباك مع الحزب، واضطُرّ الاحتلالُ للإجلاء عن جنوبىِّ الليطانى من جانبٍ واحدٍ بعد رحيله بعام. ولعلّه من وَقتِها ينظرُ للبنان بعَين الإخفاق المكتوم، أو يحملُ شيئًا فى صَدرِه تجاه انسحاب إيهود باراك. وفيما خَصَّ «حماس» فإنه لا يغفرُ لنفسِه؛ ولو أنكرَ، أنه كان سَببًا فى تقوية شوكتِها، ومَنحَها أشرسَ قادتِها على الإطلاق، بإخراجه يحيى السنوار من السجن فى العام 2011. وهكذا يبدو فى حربِه الراهنة أقربَ للثأر من الماضى، ولمحاولة تصويب الخطايا بأثرٍ رَجعىٍّ؛ بأكثر مِمَّا يخوضُ مُنازلةً عَملِيَّةً مع الحاضر، أو يُرَمِّمُ الكرامةَ المُهدَرَة فى غلاف غزّة.
يعتبرُ نتنياهو نفسَه آخرَ عُظماء اليهود، وربما مَلِكُهم الوحيد الذى لم تذكره التوراة. جنونُ العَظَمة يمنحُه شُعورًا وهميًّا بالتسلُّط على الزمان والمكان، ويُخَيَّلُ إليه أنه فى مهمَّةٍ إنقاذيَّة لتحقيق التأسيس الثالث. من هُنا يستعيرُ نبوءة أشعياء وبقيّةَ النصوص الجارحة، ويتحدَّثُ عن النور والظلام، ويعتبرُ الجولةَ نُسخةً من النكبة، أو بحسب قاموسه «حرب الاستقلال الثانية». فكأنه يعودُ من الدولة للقبيلة، ومن الأيديولوجيا الصهيونية لزمن النبوَّات، ويختزلُ الأرضَ والعقيدة فى صورتِه المُتَوَهَّمَة. وإذ يختلط الذاتىُّ بالموضوعىِّ لديه، يصيرُ البلدُ والشخصُ شيئًا واحدًا، فلا نجاةَ لأحدهما دون الآخر، ولا أملَ للكيان لو ضاعَ الزعيم.
يُمكِنُ الجَزمُ بأنَّ كلَّ أزمات إسرائيل الحالية صنيعة نتنياهو. ربما كان النزولُ عن الشجرةِ صَعبًا على الآباء المُؤسِّسين؛ لكنَّ تجربة مصر فتحت البابَ لمُقارباتٍ من خارج مُدوَّنة الإنكار والإلغاء، واتَّضح أنَّ الصهيونيّةَ يُمكِنُ أن تُهزَم وتتعايَشَ مع الهزيمة. كما أنَّ صعودَه أصلاً كان فى أجواء أوسلو، ولو أراد الذهابَ لتسويةٍ سياسيَّة فلَمْ يكُن ليَظهرَ فى هيئة المُفرِّط، ولا كان الشارعُ على خلافٍ مع البحث فى السلام. لكنه اختارَ صورةَ «البطل الضدّ»؛ وشَنَّ حَربًا على الجميع وأوَّلهم بيئتُه، سعيًا لتعميق الأُصوليَّة الدينية فى مناخٍ كان يتعثَّر فى علمانيّته. وفى المُقابل، عَمَدَ لتغذية الأُصوليَّة المُعادِية؛ لتكون ذريعةً لسياستِه، وأداةَ توجيهٍ من الخارج، بالضغط على عَصَب المُجتمع ودَفعِه إلى اللَوْذ بالتطرٌّف، الدينىِّ والقومىِّ، كبديلٍ معنوىٍّ عن «الحاضنة الآمنة» غير المُتحقِّقة فى الجغرافيا.
طُرِحَ المشروعُ بالأساس ليكون تعويضًا عن معازل «الجيتو» وسط مُحيطٍ أوروبىٍّ كارهٍ؛ لكنَّ قادةَ الدولة على امتدادِ عُمرِها، ونتنياهو أكثرهم بالطبع، أعادوا إنتاج الحالة العنصرية التى عانَوها، وليس ضدَّ الآخر فحسب؛ بل تجاه أنفسِهم أيضًا. وما تزالُ التفرقةُ بين الإشكيناز والسفارديم، والحريديين والعلمانيين، واليمين واليسار، كما ضد يهود الفلاشا والمُهاجرين الأفارقة، وضدّ العرب دروزًا ومسيحيين ومُسلمين.. وإسرائيل مَكروهةٌ من مُحيطِها لأعلى درجة، ويتصاعدُ المنسوبُ ليُغطِّى أرجاءَ العالم، ويضعهم تحت لائحة الكيان المارق، والشعب المنبوذ. وتوتُّرات هولندا الأخيرة إشارةٌ لِمَا يختمرُ فى الوعى؛ ولو عجزَ أكثرُ الناس عن إظهارِه بالقول أو الفعل.
تَوحَّد نتنياهو مع الرئيس الأمريكىِّ السابق والمُقبل دونالد ترامب؛ لرابطٍ شَخصىٍّ أوَّلاً، وليس لأنه سيأخذُ منه أكثر مِمَّا منحَه بايدن، أو أىُّ سَلَفٍ سابق، ديمقراطيًّا كان أم جمهوريًّا. علاقة البلدين محسومةٌ تمامًا، بغَضّ النظر عن القيادة فى الناحيتين، وعن الأجندات السياسية وأولويَّاتها. الأمرُ أعمقُ لدى زعيم الليكود، وله أبعادٌ نفسيَّة؛ إذ يرى شيئًا من سيرَتِه فى دونالد، الآتى من خارج الورشة التقليدية لإنتاج السَّاسة، والقادر على فَرْضِ رُؤاه، وترويع الوعى الجماهيرىِّ بكلِّ الصُّوَر، ثمَّ استتباعهم جميعًا رغم كلِّ مُلاحظاتهم؛ كما لو أنها عمليةُ تنويمٍ مغناطيسىٍّ لشعبٍ كامل.
وإنْ جازَ القَولُ إنَّ «ترامب» لا يُعجبُ النُّخبَة لكنه يعجب الناخب؛ فالعنوان نفسُه كان يصلحُ لتلخيص سيرة نتنياهو، وهو الأكثر خِفّة ورعونة عندما انتُخب فى 1996، والأكثر ارتباكًا وإخفاقًا بينما تتجدَّدُ عُهدَته لعدَّة مَرَّاتٍ بين 2009 و2021؛ قبل أن يعود مُجدَّدًا بعد أقل من ثمانية عشر شهرًا. ويكاد المُنافسون جميعًا أن يُجمِعوا على فسادِه وانعدام صلاحيته، وأنه رَدىءٌ لدرجةٍ لا تُنتِجُ حُكْمًا صالحًا ولا مُعارَضَةً فاعلة؛ لكنَّ الشارع الذى نجح فى تنميطه وتحويله إلى قطيعٍ هائج كان يصطفُّ لجانبه، وربما ما يزال؛ إنما على الشائع من المواقف والتظاهُرات واستطلاعات الرأى أنه لم يَعُد يُعجب النُّخَب ولا الناخبين.
ولسنا فى حاجةٍ للحديث عن فشلِه فى الحرب على غزة ولبنان. وبينما يستحيلُ عليه تصويبُ الماضى؛ فإنه يُلوِّثُ الحاضرَ والمُستقبل. صحيحٌ أنَّ «حماس» تضرَّرت كثيرًا، والحزب قد لا يعودُ لسابق عهدِه قبل عقدين على الأقل؛ هذا لو توافرت الشروطُ التى أنتجَتْه سابقا؛ إلَّا أن المسألة ليست فى فصيلٍ هُنا أو ميليشيا هناك، بل فى واقعِ الحال وقد تراكمَتْ الجرائمُ وأُوغِرَت الصدور. وإذا كانت أجندةُ المُمانَعة بصُورتها المذهبيّة المَعروفةِ طارئةً على البيئات العربية؛ فالمَظالمُ حقيقيّةٌ وراسخة الجذور، وأقصى ما يُمكن افتراضُه أن تتَّخذ شكلاً جديدًا للمقاومة؛ مع امتداد الذاكرة الوطنية الجريحة بين الأجيال، وتعبئة وَعى أىِّ بَديلٍ مُقبِلٍ بما أصاب القضيَّةَ وأهلها فى كلِّ انكسارٍ سابق.
على أكتاف إسرائيل ذنوبٌ أعلى من جبل صهيون؛ لكنَّ نتنياهو أضافَ أضعافَها، وحَمَّلَها إرثَ الدم الجديد لعقودٍ طويلة؛ وكُلَّما امتدَّت الحربُ بإيقاعها الراهن تتصاعَدُ التكاليف، وتتعذَّرُ التسويات، وتطولُ فتراتُ السداد. والحال؛ أنَّ طَلبَه للنصر لا يعفيه من أعباء الهزيمة، أقلّه فى جانبها المعنوىِّ. كما أنه لو حَقَّقه فلن يَغفِرَ له الإسرائيليٍّون ما جناه عليهم؛ لأنَّ الدولة المُلَفَّقة لا تمحى إخفاقات قادتِها من الدفاتر، ولأنه بات فى حُكم الإجماع أنه خاضَ بهم البحرَ لأطماعٍ شخصية، وليس إنقاذًا كما فعلها موسى، ويرفضُ الرجوعَ خوفًا على النفس لا الوطن، وهى خيانةٌ للكيان من أجل الفرد، واستثمارٌ فى النار ليَخرُجَ تحت ستار الدخان؛ ولو احترق الأهلُ قبل الأعداء.
قد ينجَحُ فى سَتر عوراته، أو تكشفُ الشهور والسنوات عن حقائقَ جَدَّ فى إخفائها وأخفق كعادته. وما يتردَّدُ الآن، وعلى مسمعِه، أنَّ ثَمّة تقارير أشارت لاستعداداتٍ من جانب حماس، وجرَى تجاهُلها لأسبابٍ مجهولة. يُضاف لهذا ما رآه الداخلُ والخارج من تفخيخه للهُدَن وإفساده لصفقات الأسرى، فضلاً على قراره باغتيال حسن نصر الله، بعدما تواترات الأنباءُ بإقبال الحزب على قَبول الورقة الأمريكية الفرنسية قبل يومين فقط، وكانت تقضى بتعليق القتال ثلاثة أسابيع وصولاً لتطبيق القرار 1701.
وسواء صحَّت الإشارةُ السابقةُ أم لا؛ فإنَّ لبنان يُبدِى اليومَ مُرونةً ظاهرةً على المسار نفسه، وينفَتحُ على فضاء التهدئة بمَعزلٍ عن جبهة غزّة، وعن دعايات «وحدة الساحات»؛ بينما يتصلَّب سفاحُ النازية الصهيونية فى مَواقفِه كما كان سابقًا؛ وليس لتحسين الشروط أو «التفاوض تحت النار» كما يَزعُم؛ بل لأنه لا يُريدُ التبريدَ شمالاً، ليظلَّ قادرًا على التأجيج جنوبًا، وعلى استفزاز إيران، أملاً فى استنفار «ترامب» بعدما يدخلُ البيتَ الأبيض؛ ليُلاقِيه على غاية الحرب الشاملة، وإعادة ترسيم المنطقة جيوسياسيًّا وأيديولوجيًّا كما أعلن فى بادئ الحرب.
والحال؛ أنَّ كلَّ ما تَقَدَّم لا يعفى الطرف الآخر من كوارثِه، كما لا يعنى أنَّ تيَّار المُمانَعة كان صائبًا فى خياراته: من أوَّل الانقلاب فى فلسطين وابتلاع الدولة فى لبنان، إلى الاستتباع وخدمة أجندة الشيعيَّة المُسلَّحة، وحتى افتتاح الحروب بخِفّةٍ ودون اعتبارٍ لمُعطيات الواقع، ولا إرادة الحاضنة اللصيقة، فضلاً على توازُنات القُوى وطبيعة العدوّ وسوابقه، والأهمّ غياب أىِّ أُفقٍ سياسىٍّ لِمَا بعد الرصاصة الافتتاحيّة، ولا كيف تتأمَّنُ طريقُ الذهاب للميدان والرجوع منه، وكيف نُعَرِّفُ النصرَ والهزيمةَ بمعانٍ موضوعيَّة، لا تُضَيِّعُ فُرَصَ الإنجاز لو تَوافَرَتْ، ولا تُحَوِّلُ جولةَ الاستنزاف إلى عمليَّةٍ انتحارية كاملة؛ بأثر الاستخفاف بالآخر والمُبالغة فى تقدير الذات.
لقد ألقى «طوفانُ السنوار» طوقَ نجاةٍ لنتنياهو؛ بينما كان يتحسَّسُ رَقبةَ حكومته على إيقاع الهتافات الغاضبة من خطَّته لتقويض القضاء. ولُغةُ التشدُّد الحماسيّة عزَّزت مركزَه، وأمدَّته بالذرائع المطلوبة أمام مُحازِبيه ومُمَوِّليه، بينما كان دخولُ الحزب على الخطِّ تدعيمًا لسرديَّة الخطر الوجودىِّ والمُحيط المُعادِى، ونقلةً عشوائيَّةً على الرُّقعة، يسَّرت الزَّعْم بالصِّفَة الإقليمية للمعركة، وبأنها جولةٌ مع أُصوليَّاتٍ وهُويَّاتٍ صاخبة. وهذا ما يُعيدُنا للأزمة الكُبرى، وجوهرُها علاقةُ التخادُم الضمنيَّة بين المُتطرّفين على الناحيتين، والمصلحة من تديين القضية وتَطْيِيفها، وأنَّ المُحتلَّ يتعيَّشُ على رصيده الممنوح من المُختَلّ، والعكس بالعكس.
واللعبةُ الثنائيَّةُ تصرِفُ نظرَى الطرفين عن الخارج، وتوقِعُهما فى التناقُض دون استشعارِ حاجتِهما للتبرير. هكذا لا يرى المُمانِعون حرجًا فى القول بالغاية التحرُّرية، بينما يُقدِّمون أنفسَهم فصائلَ تابعةً لأجندةٍ «فوق وطنيّة»، وهكذا تسعى إسرائيل للتقارُب مع مُحيطها البعيد بوعود التعايش والمَنفعة المُتبادَلة؛ بينما تفشلُ قصدًا فى تطبيع علاقتها مع شُركاء البيت القَرِيْبِين. والخلاصُ من لُغَة نتنياهو وإرثِه بات احتياجًا ضروريًّا للجانبين: تلّ أبيب عليها أن تختبرَ تجربةً قياديّة غير كلِّ تجاربها الرديئة بانتقالاتها من سيِّئ لأسوأ، وأهل القضية عليهم أن يعودوا للحاضنة الوطنية، ويخلعوا أيّة عِمامَةٍ تُصنِّفهم، وتمنَحُهم لونًا غير ألوان العَلَم الفلسطينىِّ.
لا يستقيمُ الانتصارُ للقضيَّة بينما تُسرَقُ سَرديّتُها لخدمةِ مَشروعٍ آخر، كما لا يُمكِنُ لدولةٍ أن تكون طبيعيَّةً وهى تُقدِّم أسوأ نماذجها، وتنتخبُ بخياراتِها الصِّفريّة استجاباتٍ نضاليّة لا سبيلَ لكَسرها أو الوِفاق معها. وتَخَادُم الأُصوليَّتَيْن قد يفيدُهما فى مجالِهما الضيِّق؛ إنما يضرُّ بالحاضنتين الواسِعَتَيْن معًا، وبهذا فإنّه أقربُ إلى فَخٍّ يسقُطان فيه بإرادَتَيْهما؛ إذ يصعُب إكمالُه للنهاية كما تتعذَّرُ العودةُ عنه أيضًا. والحلُّ أنْ تتبدَّل الأفكارُ وتُزَاحَ العَقَبات، أىْ باختصارٍ أنْ يُطاحَ نتنياهو من المشهد. صحيحٌ أنَّ إسرائيلَ ربما تكون عاجزةً عن إنتاج بديلٍ مُفارِق، وقد طَبَع بصمَتَه عليها فزادها تطرُّفًا على تطرُّفِها، كما بات شارعُها غاطسًا بكامله فى الامبريالية والعنصريّة؛ لكنّ مُحاولات الإزاحة البطيئة فى داخلِها قد تُنتِجُ إزاحاتٍ مُوازيةً على الناحية الأخرى، وقد تقودُ لتصحيحٍ يسلِبُ من الخصوم ورقةَ الشعبويَّة والدعايات العاطفيَّة.
نتنياهو ضَبعٌ ينهشُ قطيعَه مثلما ينهشُ الأغراب، ولكى يكونَ الخروجُ من زمنِه مُثمِرًا؛ يتعيَّنُ أن يَحدُثَ بانقلابٍ كاملٍ على إرثِه وعقيدته. وبالنظر إلى رَواج «حلِّ الدولتين» إقليميًّا وعالميًّا، بعيدًا من إمكانية تَحقُّقِه ومن شَكلِه النهائىِّ؛ فالأزمةُ لم تعُد فى نطاق الوجود والإلغاء، بل فى شروط التعايُش وقواعِده. لا إسرائيل قادرة على شَطب الفلسطينيين، ولا بمُستطاع المُمانَعة وفصائلها أن تُلقِيَها فى البحر. ثَمّة طريقٌ واحدةٌ إلى الأمام، تضمنُ ألَّا تكونَ التهدئةُ المُقبلةُ فاصلاً بين حَرْبَين، ولا ورشةً لإنتاج وَجهَيْن جديدين ينوبان عن صدام الأُصوليَّات الأبدىِّ؛ ولعلَّ خطوَتَها الأُولى تبدأ من إزاحة زعيم الليكود، بالسياسة أو بأيَّة وسيلةٍ غيرها؛ وأحسبُ أنها باتت أقربَ كثيرًا مِمَّا يَتمنَّى كارهوه ويخشى تابعوه، ومِمَّا يُراوده هو نفسه فى أسوأ الكوابيس.