على قدرِ أهميّة المُبادَأة فى الحروب؛ فقد تنقلِبْ وبالاً على أصحابها، ما لم يكُن لديهم تصوُّرٌ شاملٌ عن الذات أوَّلاً، ثمَّ عن العدوِّ وحدود استجابته، وكلّ السيناريوهات المُحتمَلَة للمعركة، والأهمّ أن يكون قادرًا على استيعاب الهزيمة، بمثلِ ما يَجِدُّ فى طَلَب النصر. وبعيدًا من العاطفة واللوم؛ فإنَّ الوقوفَ على الحوادث اليومَ، وبعد سنةٍ من تَفجُّرها الصاخب، يقطعُ بأنَّ السابع من أكتوبر كان آخرَ عهدِ الفصائل الغَزيّة باتِّخاذ القرار فى شأن «الطوفان» وما تلاه. والوَصفُ الذى يَصدُق على التصعيد، ينطبقُ بالدرجة نفسِها على التسوية.
ضُرِبَ المَوعدُ على ساعة «السنوار»؛ لكنّه من يَومِها يُدَارُ وفقَ تقويم نتنياهو. حتى الهُدنة الأُولى فى نوفمبر من العام الماضى؛ لم تكُن إشارةً إلى ترويضه نفسيًّا، ولا إلى خَشيَته من التصعيد أو على الأسرى، بقدر ما عبَّرت عن رغبةٍ فى استكشاف بيئة «القسَّام» المُغلَقَة، وامتصاص شَىءٍ من حَماوة شارعه الغاضب، وإظهار ما يُمكِنُ تسويقُه على معنى المُرونة، ويُيَسّر له لاحقًا أنْ يتهرَّب من الالتزامات، وأنْ يُعلِّقَ تُهمةَ التعَثُّر وإفشال المُفاوضات على عاتق حماس.
وما كان مع الحركة جنوبًا، تكرَّر بحذافيره مع حزب الله على الجبهة الشماليّة. مُبادِرًا بإرادةٍ فرديّة، أو مدفوعًا من جانب إيران؛ دخل حسن نصر الله على خطِّ الصراع مُبكّرًا، وكان قرارُ الدخولِ فى اليوم التالى للطوفان آخرَ عهدِه أيضًا بالمُبادَرة، وبدايةَ حَبسِه المُطلَق فى نطاق «ردِّ الفعل». صحيحٌ أنَّ الشهورَ الأُولى مُرِّرَتْ من الطرفين تحت سقف «قواعد الاشتباك» المَرعيّة منذ يوليو 2006؛ إلَّا أنه كان تثبيتًا بِنِيَّة التحريك، وطَمْرًا للجَمر تحت رمالٍ ساخنة، استشرافًا لمرحلةٍ تسمحُ بإذابة جليد الأخطاء المُعَلَّقة فى سماء لبنان لنحو عقدين سابِقَيْن.
الطبلُ فى بيروت والعُرسُ فى غزَّة. تقهقرَ القطاعُ إلى الوراء كثيرًا، واحتلَّ لبنانُ شاشةَ المُقاربات الساعية لإنجاز صفقةٍ مُعجَّلَة مع إسرائيل. والحال؛ أنَّ إنقاذَ الدولة من الدُّوَيلة والاحتلالِ مُهمَّةٌ وُجوبيَّةٌ لا تقبَلُ المُفاضَلَة أو الإرجاء، وقد يُنظَرُ إليها على معنى الطريق الإجبارىِّ نحو إغلاق ملفّ «الطوفان» وتداعياته الثقيلة على الغزيين، وأراها نظرةً منطقيَّة ومُقنِعَة؛ لكنّها تُثير مُجدَّدًا كلَّ الأسئلة الجارحة، والحقائقَ التى عُمِّىَ عليها أو تلطَّى المَعنيِّون بها وراءَ الشعبويَّة والدعايات الصاخبة، وأكثرُها إيلامًا ومُصادَمةً للوعى الشائع؛ أنَّ اشتباكَ المُمانَعة مع المسألة لم يكُن خيرًا مَحضًا، وتفعيل الجبهات الرديفة على استحياء، ما أفادَ الجبهةَ الأَصِيْلة ولا أَضَرَّ العدوَّ المُشتَرَك.
لم يكُن «طوفانُ السنوار» عَمَلاً مُقاوِمًا بالمعنى الناضج للمُقاومة؛ بل أقربُ إلى تفخيخِ القطاع وتطويقِ خاصرته بحزامٍ ناسف، واستنفار الصهاينة ليَكبِسوا زِرَّ التفجير. كما لم يكُن «الإسنادُ» من جانبِ المُمانِعين إسنادًا حقيقيًّا؛ بقَدر ما جسَّد حالةً من الانسياق للوَهم، وتغذِيَته فى صدور الأَذرُع أوَّلاً، قبل أن يتمكَّن من الرأس ويُعِمَّمَ خياراتِه الخفيفةَ على فضاء المحور بكامله. باختصارٍ؛ جاء التِحَاقُ الشيعيَّة المُسلَّحَة بالميدان فى سياق إبراءِ الذِّمّة؛ لكنه كان يَنُمُّ فى الوقت ذاتِه عن شعورٍ عميقٍ بالذنب، تأسيسًا على أنّها نفخَتْ فى هيكل حماس إحساسًا انفِعاليًّا بالبأس والاقتدار، وعَزَّزته بالتطمين والمُؤازرة تحت شعار «وحدة الساحات».
دُفِعَتْ الحِملانُ إلى مُناطحة الذئاب؛ دون قُدرةٍ على المُناورة فى حظيرتها الضيِّقة، أو أثرٍ لعصا الرَّاعى وحمايته. بل المُفارقة المُؤسِفَة أنّه كُلَّما لاحَتْ فرصةٌ للإنقاذ من الخارج، كانَ الرُّعاةُ يُثيرون الغبارَ ويَحرِفون الأنظار، عفوًا أو بقَصدٍ بائس، عن المَقتَلَة المُتفَشِّية فى القطيع. نُقِلَتْ المسألةُ بعشوائيَّةٍ مُفرِطَة من الخاص إلى العام، ومن الإنسانىِّ إلى الأيديولوجى. وبدلاً من ثُنائيَّة الغاصب والمُغتَصَب؛ مُنِحَتْ صِفَة المُواجهة الحدّية بين أُصوليَّاتٍ تختصمُ على الرواية والزمن، وتتجاوزُ فلسطين التاريخية إلى الرقص على امتداد الإقليم. وما يُستَشَفُّ دَومًا من الصَّخَبِ غير المُجدِى؛ أنّه فى كثيرٍ من الأحيان قد يكونُ الصَّمتُ أجدى.
والغريمُ ليس هاويًا على الإطلاق، ولا خِبراتُنا معه تَشِى بأنه قد يُضيِّعُ الفُرَص السانِحَة. ومثلما كان يعتبرُ «حماس» رأسمالاً وطنيًّا لأجندته الإلغائية، من بوَّابة الانقسام وتَشْظِيَة القضيَّة بين شرعيَّة السُّلطة التى يُرَادُ الخلاصُ منها، ومَشروعيَّة البندقيَّة التى يَسهُلُ وَصْمُها وتطويقها بالدعايات والقوانين الظالِمَة؛ فإنّه تلقَّى رصاصةَ الحزب بابتهاجٍ مكتوم، وحذرٍ ماكر، وتدرُّجٍ محسوبٍ لتحويلها من شَظيةٍ إلى دانة، ومن فَرقعةٍ عابرة إلى انفجاراتٍ مُتواليةٍ ولا تتوقَّف. استفزَّ إيران بالأصالة فى دمشق، وبالوكالة فى الضاحية، ثمَّ صَوَّب رأسًا على عاصمتها فى صورة إسماعيل هنيَّة، ومن وراء ذلك استدعاها إلى الميدان، واستثمرَ فى رُدودِها الاستعراضيَّة، وتركَ المحرقةَ لتُغذِّى نفسَها؛ مُنتفِعًا من الدعاية والاستجابات غير المحسوبة.
ليست مُصادفةً أن نتنياهو لم يتجاوزْ الاعتراضات الأمريكية على اجتياح رفح؛ إلَّا بعد «ليلة الصواريخ والمُسيَّرات» الإيرانيّة فى مُنتصف أبريل، وبها أيضا أفسدَ مُقاربات الهُدنة وفقَ الاقتراح المصرى ومُخرجات لقاءى باريس، ثمَّ أطاح «ورقة بايدن» بعدما قِيْلَ إنها مشروعٌ إسرائيلىٌّ بالأساس. وليست مُصادفةً أيضًا؛ أنّه لم يَقتُلْ فؤاد شكر فى قلب الضاحية إلَّا بعد حادثة «مجدل شمس» الدرزية فى الجولان، ولم يُصَعِّد بموقعة «البيجر» وتصفية الأمين العام إلَّا بعد صَخَب الحزب، وبعد الفائض التعبوىِّ لدى الحرس الثورىِّ من أحاديث الثأر، وصولاً إلى الجولة الأخيرة من تكسيح لبنان عقب العروض الباليستيَّة فى سماء أكتوبر.
وليس القَصدُ قطعًا أن يتلقَّوا الضربات صامتين، ولا هى دعوةٌ للخُنوع وتمرير أهداف الاحتلال دون اعتراضٍ أو مُقاوَمَة. لكنّه البحثُ فى الأولويات والتفضيلات الناضجة، وسؤالُ التناسُب بين الآمال والإمكانات، والقُدرة على التبدُّل من الهجوم إلى الدفاع والعكس، والأهمّ أنْ يظلَّ النضالُ فاعلاً لناحية تدفيع القضايا إلى الأمام، وليس إعادتها للوراء، أو خَصم عقودٍ من قُوّتها ومُكتسباتها.
وصحيحٌ أنَّ الرياح قد تأتى أحيانًا بما لا تشتهى السفن؛ إنما يظلُّ الإبحارُ خيارَ البحَّارة بالأساس. والبطولةُ التراجيديَّةُ مُسمَّىً مُخفَّفٌ عن الهزيمة وسوء التقدير. وفى الخُلاصةِ؛ فإنَّ جَردةَ الحساب لا يُمكن أن تُسوِّى بين رصاصةٍ قادت إلى أوسلو، بكلِّ مثالبها وتشوُّهاتها، وأعادت القضيَّةَ لبيئتِها بسُلطَةٍ وعَلَمٍ وجَوازِ سَفَر، ورصاصةٍ أُخرى فجَّرت فيها ذاكرةَ النكبة الأُولى، وفتحت طريقَ التهديد بطَردِها من حواضنها، الآن وإلى الأبد.
كان الحزبُ مُتشدِّدًا فى رَبط التهدئة من جانبِه بوَقف إطلاق النار فى غزَّة؛ والآن يقبَلُ ما كان مَرفوضًا بالكُليَّة قبل أسابيع قليلة. وأكثرُ التصوُّرات تفاؤلاً تقولُ إنَّ الاتفاقَ المأمولَ سيفصلُ بين الساحتين فعلاً، وينهى كلَّ مظاهر وجودِه فى الجنوب، ويُعيِدُ تفعيلَ القرار 1701، أو بالأحرى يُطبّقه للمرَّة الأُولى منذ إقراره فى أغسطس 2006.
باختصارٍ؛ تضرَّرَ لبنانُ حتى النُّخاع، وهُجِّرَ رُبعُ سُكَّانه من بيوتِهم، وفَقَدَتْ الميليشيا الشيعيَّةُ كاملَ طَبقَتِها القياديَّة من الصفوف الثلاثة الأُولى، ولم تُرَوِّضْ العدوَّ أو تحتفظ بمُعادلة الرَّدع التى كانت قائمة. أىْ أنها أضرَّت نفسَها وبيئتَها الهشَّة، ولم تُفِد الفلسطينيِّين وقضيَّتهم العادلة، بينما تذهبُ للخيارات القاسية بفاتورةٍ أكبر، وبعدما رجَّحت كَفَّةَ الاحتلالٍ، وعزَّزت هيمنَتَه على فضاء الدولة اللبنانية والمنطقة.
ولا تختلفُ الحال من ناحية حماس؛ فما تحصَّلَتْ عليه ماديًّا ومعنويًّا من الطوفان، تبدَّدَ كاملاً على مدار سنةٍ من العدوان الغاشم. يتبقَّى لديها أقلُّ من مائةِ أسيرٍ، كثيرون منهم فى عِداد الأموات، والألويَةُ الستَّةُ وكتائبُها الأربعة والعشرون سُحِقَت بصورةٍ شِبه كاملة، لا تنفيها المُداومةُ على إطلاق صاروخٍ كلَّ عدّة أسابيع، أو تنفيذ كمينٍ مُحكَمٍ للقوَّات المُعادية بين وقتٍ وآخر.
اعتُقِلَ أضعافُ مَنْ كانوا فى السجون، وأقصى ما يُمكن تحقيقُه صار أقلَّ كثيرًا مِمَّا كان مُتحقِّقًا بالفعل. القطاعُ لَمْ يَعُد بيئةً صالحةً للسَّكَن، وكُلفةُ الأضرار أكلَتْ أُلوفًا من الأرواح وعقودًا من تراكُم الثروات ومُولِّدات العَيش والإنتاج، وأقصى ما يُطالبُ به الحَمَاسِيّون الآنَ أن يَعودوا إلى ليلِ السادس من أكتوبر، ولو النتيجة أنْ يَحكموا خرابةً واسعةً، بأطرافٍ مبتورةٍ ووُجوهٍ نازفة. سيتحرَّرُ الأسرى أو يَموتون، ولن تُبَيَّضَ السجون أو تعودَ الإدارةُ المدنيَّةُ للحركة، وكلُّ ما يحدثُ من إطالةِ فاصل «عَضّ الأصابع»؛ أن يموتَ أبرياء أكثر، وأن تتضاعَفَ تكاليفُ المُداواة والإعمار لاحقًا.
كثيرًا ما يكونُ امتلاكُ خطَّةٍ للانسحاب، أَهمَّ وأَوْلَى من الإغراق المُفرِط فى حسابات الهجوم، ومِنَ افتتاح الجولات على صورةِ المُواجهات الوجودية، وافتراض أنها تَذكرةُ ذهابٍ دونَ عودة. وبغَضّ النظر عن تعريف النصر الذى نطلبُه، واجتهادنا فيه أو قدرتنا على إحرازه؛ فإنَّ الوقوفَ على تعريفٍ عقلانىٍّ ناضجٍ للهزيمة يَعصِمُ من الخطايا التى قد تَقصِمُ الظُّهورَ وتستعصى على الإدراك والاستدراك.
لن تتضرَّر الأُصولُ الثمينةُ إن كان الانتصارُ كاملاً أو منقوصا، ومُشبِعًا أو أقلَّ من الطموحات؛ إنما الحياةُ نفسُها تصيرُ مُهدَّدةً فى الصميم؛ لو لاح بَارِقُ الانكسار وفوَّتنَاه، أو سَكَبْنا الخُطَبَ العَنتريَّةَ فى آذان جُنودنا؛ بينما يُعبِّئ العَدوُّ ذخيرتَه الحارقةَ فى صُدورهم.
فاعليّةُ الحربِ أنْ تُحرِّك السياسةَ لا أنْ تُعطِّلها، والصورةُ الآن أننا إزاءَ معركةٍ لن تُفضِى فى كلِّ الأحوال إلى ورشةٍ سياسيَّة مُنتِجَة. وبعيدًا من تسويات المُستقبل؛ فالشاغلُ الراهن أنْ تتوقَّف المَقتلةُ، أكان فى الشَّمَال أم فى الجنوب. وعلى ما جَرَت الوقائعُ؛ بات ميسورًا الجَزمُ بأنَّ الدُّخَان فى سماء غزَّة يتولَّد عن الجَمر فى تُراب لبنان، ولا سبيلَ لتصفية الأجواء هُنا؛ إلَّا بإطفاءِ المحارَقِ هناك.
والحزبُ إذ يعودُ بعد مُكابرةٍ؛ فإنه مشدودٌ بالنار بين اعتباراتٍ ثلاثة: خسائره المُباشرة والضغط على حاضنته الشيعيَّة، وإرادة الدولة فى كيانيَّتِها الرسميَّة ومجموع طوائفِها الرافضة لسلوكِه، وإملاءات القيادة الإيرانيَّة من منظور مصالحها الوقتيَّة، وتطلُّعاتِها لتدبير الفترة المُتبقيَّة قبل حلول ترامب. وعلى الجانب المُقابل، يفرضُ نتنياهو رُؤيتَه بعدما مُنِحَ هامشًا واسعًا لترتيب الجبهة على هَواه. إنها الخطيئةُ الحزبيّةُ التى يَصعُب الرجوع عنها حاليًا؛ بقَدرِ ما يَصعُب المُضىُّ فيها أيضًا.
وإذا كانت الطريقُ إلى غزّة تمرُّ اليومَ من جنوب لبنان؛ فإنَّ زعيمَ الليكود يقفُ فى مُنتَصَف المسافة؛ ليقطعَها من مُستقرِّه فى تلّ أبيب. تُطلَبُ التهدئةُ راهِنًا لمصلحة لبنانيَّةٍ مُباشرة، وطموحٍ أمريكىٍّ يخصُّ الإدارةَ الديمقراطيَّة فى أمتارها الأخيرة؛ لكنْ لا الدولة العِبريّة جاهزةٌ للتوقيع على الصفقة الآن، ولا رأس الشيعيَّة المُسلَّحة ترتضى إبرامَها قبل أسابيع من تجديد عقود البيت الأبيض.
ألمَعُ العبارات المأثورة عن وزير الخارجية الإيرانىِّ الراحل، حسين أمير عبد اللهيان؛ قَولُه إنَّ ما تَتّفق فيه طهران وتل أبيب، على كلِّ ما بينهما من عداوةٍ وصِدامات، هو الرَّفْضُ الكامل والمُطلَق لخيار «حَلِّ الدولتين». ومَبعَثُ التلاقى هُنا أنهما ينطلقان من أرضيَّةٍ أُصوليَّةٍ واحدة، عَمودُها الإلغاءُ وعدم الاعتراف بالآخر، وذَخيرتُها استثمارُ المُنازَعة فى تأجيج العواطف وجَنْى الثمار؛ إذ لو اصْطُلِح منهما على التسوية تحت عنوان التعايش والمُساكَنة؛ لَفَقَدَ اليمينُ التوراتىُّ والقومىُّ وجاهةَ خطابه فى البيئة الصهيونية، وفَقَدَت الحركيَّةُ الإسلاميَّةُ مُبرِّرات وجودِها فى مجال القضيّة الفلسطينيَّة من الأساس.
من هذا المُنطَلق؛ يُمكِنُ استيعاب مَوقف طهران بشأن النزول على إرادة القمًّة العربية الإسلامية فى نُسخَتَيْها الأخيرتين، وتوقيع بيانٍ ختامىٍّ ينطوى على حديثٍ عن دَولَتَيْن، مُتجاوِرَتَيْن وعن مُبادرةِ سلامٍ جَوهرها تعايُش الديموغرافيا بعد تقاسُم الجغرافيا.. إذ لا يعنى ذلك أنها تخلَّت عن ثوابتِها وأُصولِها التجارِيّة؛ إنما أنها تتقارَبُ مع الرؤية الإقليميَّة لمنافعَ دعائيَّة وجيوسياسية، بينما تطمئنُّ إلى اضطلاع إسرائيل بعبء الرفض والإفساد، بالضبط كما تُقدِّم الأخيرةُ مُقترحاتٍ مُتتالية للهُدَن، لا تُريدُها فعلاً؛ لكنها تُلقِى بها الكُرَةَ فى ملعب حماس والفصائل الشيعيَّة.
حالٌ شبيهة بتقاسُم الأدوار؛ ولو ضِمنيًّا ومن غير اتِّفاق مقصود. وعلى الأرجح؛ فالمقاربة الحالية لملف التهدئة فى لبنان تجرى تحت السقف نفسه: أوحى نتنياهو لواشنطن باستعداده لإبرام الصفقة، واستجاب الحزب للورقة المُقترحة من جانبها، ويُراهن كلٌّ منهما على أن احتمالين لا ثالث لهما؛ إما يفرض شروطه على الغريم ليخرج بما يُشبه «صورة النصر» المطلوبة، أو يتكفل الغريم عنه بوضع العصىِّ فى الدواليب.
الأيَّامُ الأخيرة حملتْ رياحًا عِدَّة فى اتجاهاتٍ مُتباينة. أعدَّ المبعوث آموس هوكشتين ورقةً من ثلاثةَ عشرَ بندًا، وأرسلَها عبر السفارة الأمريكية فى بيروت إلى الرئيسين برّى وميقاتى، والبرلمان والحكومة من جانبهما أدارا ورشةً حواريَّة مع الحزب، والحزب مع طهران، والأخيرةُ أرسلَتْ مُستشارَ المٌرشِد ليُطمئنَ اللبنانيِّين إلى أنها لا تأخذُ موقفًا استباقيًّا، وتدعمُ ما تتوافقُ عليه الحكومة والمُقاومة. وفى المُقابل؛ صعَّدتْ إسرائيل من هجماتها؛ كأنها تُفاوِضُ تحت النار، أو تقطعُ الطريقَ على الصفقةِ من الأساس.
كان نتنياهو قد قال فى وقتٍ سابقٍ إنَّ تبريدَ الساحة اللبنانية سيكونُ هديَّتَه لترامب فى مُفتَتَح ولايته الثانية. وهو يعرفُ بالضرورة أنه لو أوقفَ النارَ شَمالاً؛ فسيَجِدُ نفسَه بالتبعية أمامَ استحقاق التهدئة فى الجنوب؛ ما يعنى أنَّ الذهابَ للتسوية الآن سيكونُ مُكافأةً مجّانيَّةً وغير مطلوبةٍ للإدارة الراحلة، وتضييعًا لورقةٍ يُمكِنُ أن يُغازلَ بها الإدارةَ الجديدة لاحقًا، والبديل عنها أن يُقدِّمَ هَديَّةً ثانيةً فى غزّة مع مراسم التنصيب؛ وربما يحملُ فى أجندته مُخطَّطًا زمنيًّا مُغايرًا للقطاع.
فى المَقلَبِ الآخر؛ فالجمهورية الإسلامية تعرفُ أنَّ البيتَ الأبيض فى حُكم الفارغ فعليًّا منذ الآن، وليس عليها أن تَتوقَّى نزوات بايدن، ولا أن تتقرَّب إليه بالتنازُلات. وَرَقَتُها الوحيدةُ حاليًا تنحصِرُ فى جنوبىِّ الليطانىِّ، ولعلَّها تتصوَّرُ أيضًا أن تُقدِّمَها هَديّةً وعربونَ محبَّة لترامب فى المُستقبل القريب، والتفريط فيها اليومَ مجّانًا سيفرضُ عليها البحثَ عن هدايا بديلةٍ غدًا، وكلّها لن تكونَ أرفعَ قيمةً من طوق النار عند عُنق الحليفة العِبرية.
هكذا تتلاقى الإراداتُ على الإفساد؛ والبحثُ فى الطريقة فحسب. ورقة هوكشتين مُفخَّخةٌ بما يسمح للطرفين بالنفاذ إلى ما يُريدان، وقد سجَّل الحزبُ مُلاحظاتٍ على عِدَّة نقاط، مثلَ حَقِّ الدفاع عن النفس، واستحداث لجنةٍ للإشراف على التهدئة وصولاً لتفعيل القرار 1701 بصيغته الكاملة. بينما على الجانب الآخر؛ لم يَعُد القرارُ مُرضِيًا للحكومة الصهيونيَّة وزعيمها، ويعتبرون أنَّ السياقَ تجاوز مفاعليَه القديمة والجديدة. أمَّا لو أقرَّهم، جدلاً، على الأمر؛ فإنَّ «نقطة الدفاع» ستظلُّ ثغرةً مُتاحةً طوالَ الوقت؛ إذ تسمحُ بإشعال الجبهة تحت زعم الاستباق الوقائىِّ من هجماتٍ فى طَور التحضير، أو استفزاز الحزب بصورةٍ خَفيّة؛ ليُطلِقَ رصاصةً تُبنَى عليها جولةٌ جديدةٌ من القتال.
التفاؤل اللبنانىُّ عند أعلى مستوياته، والمبعوثُ الأمريكىُّ عاد لبيروت أمس؛ بعدما كان يُعلِّق زيارتَه على إحداث اختراقٍ فى جدار الحزب. لكن ما يزالُ الأمرُ مَرهونًا بانتقاله إلى تل أبيب، وتجاوب نتنياهو وعصابته اليمينيَّة مع التسوية المُقترَحة. والأرجَحُ أنه سيتعلَّل بالمُلاحظات للرفض، أو سيشدَّدُ فى إضافة مزيدٍ من الشروط، وقد يُنفِّذ هجمةً استفزازية تستدعى الردَّ؛ فيرُدّ على ردِّ الحزب ويتبدَّد الاتفاق. بإيجازٍ صادم؛ يبقى الوَضعُ على ما هو عليه، وكلُّ التفاصيل مُجمَّدةٌ حتى إشعارٍ آخر. أمَّا طموح بايدن لتحقيق إنجاز مُتأخّرٍ يُغادرُ به منصبه؛ فلن يقوَى غالبًا على إفساد الهديّة التى أعدَّها زعيمُ الليكود لترامب، ويُرجِئُها إلى موعد التنصيب على الأقل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة