شىءٌ من العقل، يمنح مساحة من التفكير والتدبر، مساحة قادرة على إزالة الغشاوة من البصر، وإجلاء البصيرة من الصدأ، فتظهر الحقيقة مجردة من كل شوائب الشك اللعين المزروع فى النفوس المرتبكة، بفعل فاعل، جماعات وتنظيمات وتيارات، تحمل من الكراهية لمصر، ما تنوء بحملها الجبال، وتمتلك ماكينات التشويش والتضليل، ما يفوق ماكينات وأبواق الصهاينة!
الدولة المصرية تتعرض لضغوط كبيرة ومزعجة، فى سبيل الموافقة على ترحيل الفلسطينيين من غزة إلى شريط صغير فى سيناء، بينما نظامها السياسى يرفضها فى السر بقوة، ويؤكد رفضها فى العلن بشراسة، ويقولها صارخة فى وجه الجميع، نرفض تصفية القضية، ولا نقبل بتحويل غزة إلى أرض غير صالحة للحياة، وإذا كانت مصر تعلن رفضها لتصفية القضية، فكيف لها أن تتخلى عن شبر واحد من أراضيها؟!
أصحاب العقول يميزون، ولديهم القدرة على التفريق بين الحق والباطل، الصدق من الكذب، وتزن الأمور بميزان حساس قادر على وزنها بدقة متناهية، فتستطيع التصدى لزوابع وأعاصير الشك والأكاذيب والتضليل لجماعات وتنظيمات وتيارات، بأن الدولة المصرية باعت رأس الحكمة، وباعت أراضى خصبة، وتفريغها من مضمون أن رأس الحكمة وغيرها من المشروعات المسندة لمستثمرين عرب وأجانب، اسمها الواضح فى كل بلاد الدنيا «استثمار» بينما فى مصر حرفته الجماعات المضلة المضللة، إلى «بيع».
كان الأجدى بالدولة المصرية، وفى ظل ضغوط مرعبة، وحلا لكل الأزمات الاقتصادية بفعل أحداث دولية وإقليمية مفزعة، أن توافق على استقطاع جزء من سيناء، والتخلى عنها لصالح الفلسطينيين، تحت شعار «نجدة الأشقاء» من الموت، واستجابة لكل المطالب الصاخبة لهذه الجماعات، والتيارات، مع بدء الأزمة، بضرورة فتح معبر رفع على مصراعيه لاستقبال الأشقاء وإنقاذهم من المجازر الإسرائيلية، وكانت الدولة المصرية حينها، ستجد المبرر القوى، بل والظهور أمام الشعوب العربية كشقيقة كبرى تقف وتدعم الأشقاء، وتتمتع بإنسانية وكرم ضيافة عظيم الأثر، ومن ثم كانت قد قبلت الصفقة، وتخلصت من أزماتها الاقتصادية، ومن الضغوط الخارجية وأطفأت النار المشتعلة على محاورها الاستراتيجية، الثلاثية، الغربية والجنوبية والشمالية الشرقية، وتنال الحكومة الرضا الكامل، والدعم المطلق دخليا وخارجيا، وإغلاق أبواق الهجوم والغضب!
شىء من العقل والكياسة والفطنة، يزيح الغشاوة عن البصر والبصيرة، ويجنب الخضوع والخنوع للدوشة الباحثة عن تقنين أوضاع خاطئة، إن مصر عقيدتها عدم التفريط فى شبر واحد من أراضيها، وأن مشروع رأس الحكمة وغيرها من المشروعات الشبيهة فى المجالات المختلفة، استثمار بالدرجة الأولى، استثمار متعارف عليه فى كل بلاد الدنيا، وليس بدعة مصرية.
ونعود بالذاكرة للوراء طيلة السنوات الماضية، كان لا حديث يعلو فوق حديث جلب الاستثمارات الأجنبية، وطرح السؤال «الكرباجى» الموجع على رؤوس وظهور الحكومات المتعاقبة، أين الاستثمارات الأجنبية ياحكومة؟ ولماذا لا تتخارج الدولة وتمنح الفرصة كاملة للقطاع الخاص للعمل والاستثمار فى ظل ما يحصده القطاع العام من خسائر فادحة؟
السؤال عبارة عن كرباج فى يد كل من نصب نفسه جلادا، يريد أن يهاجم الحكومة والنظام، ويعتبره مؤشرا ومعيارا حقيقيا لتقييم نجاح الحكومة من عدمه، كما كان «لبانة» يلوكها ليل نهار الإعلام المعادى وجماعات وتنظيمات تمتلك على مواقع السوشيال ميديا، ذبابا إلكترونيا مُعدِيا بأمراض التشويش على عقول البسطاء، والتشكيك والتسخيف واتهام الدولة بالسيطرة على الاقتصاد، وإغلاق الأبواب أمام الاستثمار الأجنبى، ورفض منح الفرصة للقطاع الخاص!
وعندما قررت الحكومة، التخارج تدريجيا من الاقتصاد بطرح عدد من الشركات للبيع، وفتح الأبواب أمام المستثمرين الجادين سواء كانوا أجانب أو محليين، انقلب هؤلاء أنفسهم، من الذين كانوا يتهمون الحكومة بالتقاعس والفشل فى استقدام الاستثمار الأجنبى، إلى جلادين يهاجمون الحكومة بقسوة ويتهمونها ببيع أصول وممتلكات الدولة لأجانب وعرب!
وهنا نخاطب أهالينا البسطاء، بالعقل والحجة، وطرح الأسئلة، للتفكير والتدبير، والاستنارة، وليس من باب التوجيه غير المبرر، حتى لا يقعوا فريسة الأكاذيب وحملات التشكيك لكارهى هذا الوطن، ونبدأ بالسؤال: عندما امتلك رجل الأعمال المصرى محمد الفايد، محلات «هارودز» أكبر وأشهر وأعرق المحلات التجارية فى بريطانيا، والتى تأسست سنة 1834 فهل نقلها للقاهرة أو صارت مستعمرة مصرية؟ وعندما انتقلت ملكيتها فى 2010 للشركة القابضة القطرية، هل صارت مستعمرة قطرية؟
قطر تعد المستثمر الأكبر والأهم فى بريطانيا، وبلغ حجم استثمارتها 50 مليار جنيه استرلينى، كما تجاوز حجم استثماراتها فى فرنسا الـ30 مليار يورو وفق إحصائية أعدتها رابطة «كادران» القطرية الفرنسية 2019 معظمها تملك عقارات ومشروعات سياحية، بجانب امتلاك أهم وأكبر ناد فى فرنسا وأوروبا «باريس سان جيرمان» والسيطرة على كبرى الشركات الرائدة والوطنية «فينشى وتوتال وسويس وإيرباص»، فهل يمكن لقطر استعمار بريطانيا وفرنسا؟
والأمر ذاته ينطبق على استثمارات السعودية فى بريطانيا والتى تجاوزت 60 مليار جنيه إسترلينى، وفق مصادر رسمية سعودية، عبارة عن مشروعات سياحية وتملك العقارات، بجانب شراء أسهم فى مطار هيثرو، وشراء نادى نيوكاسل.
يا سادة نكررها من جديد لغلق هذا الباب نهائيا، لو أن عقيدة الدولة المصرية بيع الأرض، فكان الأجدر بها التخلى عن جزء من سيناء، يحل أزماتها نهائيا، وما احتاجت لصندوق النقد، ولا التخارج من الاقتصاد، ولا احتاجت بذل الجهد الخرافى لجذب استثمارات أجنبية وعربية عاجلة!