محمد أحمد طنطاوى

نظرة رضا..

الجمعة، 29 نوفمبر 2024 12:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

"إن المرء يشعر بالراحة والطمأنينة في الأماكن التي ألفها واعتادها مهما لقى فيها من شقاء"، فيودور دوستويفسكي، الروائي الروسي الشهير في رائعته الإخوة كارامازوف، أتفق معه تماماً، فيظل الحنين إلى بيئة الميلاد والنشأة أحد الجوانب الملهمة في قصة كل منا، خاصة إن تعددت فيها المشاهد، واتسعت التجربة مع كل عام جديد يمر من سلسة العمر القصير.

كنت في أعوامي الأولى، ربما الرابعة أو أقل، أستمع إلى الراديو، وأضبط مؤشراته، وأتحرك بين محطاته منشغلاً بذلك الزن والتشويش، حتى أصل لأغنية أو مسلسل إذاعي، أو ربما حكايات ألف ليلة وليلة، التي كانت تقصها زوزو نبيل، وصوتها الرنان مع الموسيقى الساحرة ليلاً، ولغتها العربية السليمة، فأشعر حينها أنني أحد أبطالها، رغم فحيح الأفاعي، ونعيق الغربان، وأحاسيس الرعب والخوف مع كل باب يُفتح..

الراديو في منزلنا كانت تغطيه شنطة أنيقة مصنوعة من الجلد، لونها بني داكن يمكن انتزاعها، فيصبح فضي من الأمام، وأسود من الخلف، يتوسطه مؤشر أحمر، متصل ببكرة أسطوانية نحركها بـ اصبع الإبهام، مع كل محاولة لضبط الإشارة، وقد جاء لأبي هدية من السعودية، بعد رحلة الحج الأولى لعمتي زينب، وزوجها الحاج عبد الحميد، مطلع الثمانينيات، حينئذٍ كان الراديو أعز الهدايا من خارج البلاد، يعمل بالبطاريات الجافة، وعندما توشك على النفاذ، نضعها أسفل السرير لتستعيد جزءً من قوتها، أو نحاول عضها والضغط عليها بعدما نفقد الأمل في قدرتها على الصمود.

آلاف الأطفال يسارع الآباء تسجيلهم في شهادات الميلاد قبل 1 أكتوبر من كل عام، حتى يتسنى لهم الالتحاق بالصف الأول الابتدائي، ليصبح السن 6 أعوام كاملة عند دخول المدرسة، وهى عقبة كبيرة لمن ولد بعد هذا التاريخ بنحو شهرين مثلي، لكن لكل مشكلة حل، ابنة عمتي "الأبلة نادية" كانت سكرتيرة المدرسة، فقبلت أوراقي إكراماً لخالها.

لم يكن عامي الأول في الدراسة مؤشراً لشيء، لا أتذكر سوى الأبلة سلوى، وبعض التلاميذ الذين تلوح وجوههم أمامي كأنهم طيف بعيد، في صباح شتوي بارد تغطيه الشبورة والضباب،  بالكاد ألمح وجوههم، أذكر منهم "شعبان"، الذي ترك الدراسة مبكراً، وعمل فراناً في أحد المخابز، ربما لو رأيته الآن ما استطعت التعرف عليه.

كلما تقدمت السنوات أتعلق بالتعليم شيئاً فشيئاً، بجهد أصحاب الفضل من المعلمين الأوائل، الأبلة زينب، الأستاذ عزت، الأستاذ جمعة راشد، الأبلة فادية عبد الرحمن، التي تعلمت منها كيف أرسم الخط، وقبلهم جميعاً أختي الأبلة منال، التي علمتني القراءة والكتابة، ولها من الفضل الكثير.

جاء زلزال 1992 وكنت حينها ألعب الكرة مع أطفال الشارع بجوار المنزل، وإذا أسلاك الكهرباء تصدر شراراً وصوتا غريباً، فهرعت إلى بيت الجيران أحتمي به، وكان من الطوب اللبن، وجدت الحائط يتراقص، ففررت سريعاً إلى منزلنا، لحظات مرت وكأنها أعوام، هناك من يجرون في الشوارع، ويسقطون على الأرض إغماءً وخوفاً من المجهول الذي يرج المنازل وكأنها الأواني الفارغة، حينها سمعت الكبار يقولون زلزال.. زلزال.. وكانت المرة الأولى التي أنتبه لهذه الكلمة، انقطعنا عن الدراسة أسبوعين كاملين بقرار حكومي، وصحب ذلك ترميمات وإصلاحات امتدت عدة أشهر في كل مكان.

كان أبي رحمة الله عليه يتحمل عبئاً ثقيلا، 6 إخوة يتعلمون في وقت واحد، ما بين الجامعة حتى الصفوف الأولى بالمرحلة الابتدائية، وهو في ذلك الوقت مزارع مستور الحال، يمتلك 2 فدان، في عدة حقول، لا يعمل عند أحد، وكذلك أولاده، لكن في المقابل نشقى معه في أمور الري والزراعة، وأذكر أنني كنت فلاحاً ممتازاً، أجيد الجمع والحصاد، وأمسك الفأس وأقلب التربة، وأزيل الحشائش، وأربي الماشية وأرعاها.

ما زلت أتذكر فرحتي عندما استطعت تشغيل ماكينة الري للمرة الأولى، وأنا ابن عشرة أعوام، لكنها كانت في أحيان كثيرة تخذلني وتأبي العمل، خاصة في أيام الشتاء الباردة، تحتاج ليد قوية، وكنت حينها ضعيفاً هزيلاً، لكن "معافر"، تعوضني طاقة الإصرار عن قوة الجسد، وما كنت أفعل ذلك كله إلا لنظرة رضا من أبي، حتى يعرف أنني صرت أتحمل المسئولية، وأتقاسم معه الأعباء.

في أغلب القرى يلجأ الفلاحون لتسمية الحقول، فإذا ذكرت الاسم، عرف الجميع أين تقصد، وكيف تصل، فهذه "الساحل الشرقي" وتلك "البردان" أو "غيط العرب" أو "البركة" بكسر الباء، وعشرات الأسماء التي يتوارثها الناس، أمضيت أياماً كثيرة سعياً لها، ماشياً، ومهرولاً، وعلى الحمار، حتى صار المشي جزءً من حكايتي دائماً، سنوات أمشي في مناكبها، أبحث عن الطريق، وأسعى بكل قوتي لعلي أجد الخير.

أتذكر آخر مرة زرعنا الفول البلدي في "الساحل الغربي"، وكان ذلك منذ سنوات بعيدة.. لم تقدم 16 قيراطاً حفنة واحدة من الفول، بعدما أكلتها الطيور، ولم نجن منها سوى "التبن"، لكن واجهنا هذا بالضحك والتندر على "الزراعة وسنينها"، والأرض البخيلة التي باتت تضن على الفلاح حتى بحفنة من الفول.. وفي مرة أخرى زرعنا "طماطم"، لكن مع الأسف كانت المجنونة بلا ثمن، مع العلم أن المحصول كان وفيراً ممتازاً، لكن كما يقول البسطاء "حسن السوق ولا حسن البضاعة"، بدأنا الجني بـ 10 أقفاص، وكنت دائماً بصحبة أبي إلى "الشادر"، حيث يجتمع التجار من كل مكان يزايدون على الخضراوات والفاكهة، الطماطم، الخيار، الباذنجان، الفلفل، العنب، المانجو، عشرات الأصناف، وتحصل على أموالك في اليوم التالي.

في شادر "الاعتماد على الله" كانت لنا أيام، نضع الأجولة والأقفاص في ساحة كبيرة، ثم يأتي "المعلم فاروق"، رجل حسن الوجه، نظيف الثياب، يضع العمامة على كتفيه، ويفتح المزاد بصوته المميز:" معانا كام في طماطم عم الشيخ أحمد.. معانا 35 قرش في القفص"، فلم يجبه أحد من التجار، ليكرر مرة أخرى ويهبط بالسعر:"طيب معانا 30 قرش"، ليقاطعه أبي في المرة الثالثة، يا معلم فاروق قول مش معانا حاجة خالص! الطماطم عندك والأقفاص عندك والسلام عليكم..".

عدنا من الشادر صفر اليدين، وكان قرار أبي بأن نتخلص من "المجنونة"، وفي صباح اليوم التالي ذهبنا جميعا إلى الحقل لتبوير الزرعة التي لن تمنحنا سوى الشقاء والتعب بلا مقابل!

كان بيتنا براحاً فساحاً، جزء بالطوب الأحمر، وآخر بالطوب اللبن، وبينهما مساحة مفتوحة تتحرك فيها الطيور على كل الأشكال والألوان، الدجاج و الرومي و الأوز  و "البح" – يسمونه في القاهرة بطاً – لا نشعر بالحاجة بفضل يقظة أمي، التي علمتنا الرضا والقناعة والتعفف عن سؤال الناس، وقد تأثرت بذلك كثيراً، وعلى مدار سنوات وسنوات لا أذكر أني اقترضت جنيها من أحد، وقد وضعت نصيحتها حلقاً في أذني "السلف يخلي الناس تتجرأ عليك".

لم تكن الشتاء في تلك السنوات البعيدة شديدة الأمطار، خاصة في بني سويف، كما هو الحال هذه الأيام، لكنها كانت شديدة القسوة، فالجزء المتسع في منزلنا كانت تغمره المياه، وكنا نضع الأواني الواسعة، و "طشتين" أحدهما من الزنك والآخر من الألومنيوم، حتى نلملم خسائرنا، وألا يتحول هذا الجزء من المنزل إلى بركة من الطين.

لا أبالغ حين أقول لأولادي أنتم تنظرون للدنيا من خلف النوافذ، لم تلسعكم حرارة الشمس، وما عرفت أقدامكم ملمس الأرض الشراقي بعد حصاد القمح في مايو و يونيو، لا يستطيع السير فيها إلا من صنع الشقاء لأقدامهم غطاء، فلا يشعرون بوخز أو وجع.

لم يكن في قريتنا مدرسة إعدادية، فكان لزاماً أن نتحرك إلى البلدة القريبة "أبو شربان"، حتى نتعلم بمدرستها، إما سيراً على الأقدام، أو من خلال العربة "الربع نقل"، وكانت الأجرة حينها "شلن"، أي خمسة قروش، تلك العملة التي لم يسمع عنها جيل الألفية الثالثة.

في صفي الأول بالمرحلة الإعدادية، ألمت بأبي وعكة صحية، استمرت عدة أشهر، فاقترحت أمي أن أبيع فائض برسيم أرضنا، من باب تحسين الإنفاق، فكانت أختي "نادية" وعمتي "دلال" يحصدون البرسيم، الذي نطلق عليه في بلادنا "ربيع"، ولا أعرف لهذه التسمية سبباً، وبطريقة منظمة يعرفها الفلاحون جيداً، نصنع ما نسميه "شبكة"، وهى أكوام من الربيع، يتم ربطها بالحبال، ثم توضع على الحمار وأركب أعلاها، ثم أنطلق في رحلة تستغرق نحو الساعة، من قريتنا طرشوب، حتى مركز ببا، أحياناً أبيعها في منتصف الطريق وأعود، ومرات أخرى يتعب الحمار من كثرة السعي، وفي النهاية أعود للمنزل بـ 4 جنيهات ربما أقل قليلاً، لكنها كانت تساوي بحسابات اليوم ربما 200 جنيه أو يزيد، وظللت نحو 60 يوماً أبيع شبكات "الربيع".. أتحرك من حقلنا قبل أذان العصر، وأعود بعد المغرب بقليل، وبالطبع الأمور كلها كانت "حسب التساهيل".

أذكر دائماً تفاصيل رحلتي الأولى للقاهرة، وكنت حينها في الصف الثالث الإعدادي، موقف المنيب والسيارات، والزحام في كل مكان، الأبراج العالية، ميدان رمسيس، النيل الواسع، وسط البلد، شارع الهرم، والأتوبيس الذي أقلنا من بني سويف حتى القاهرة، كان تابعاً لشركة الوجه القبلي للنقل والسياحة، وثمن التذكرة 2 جنيه، لا أعرف تعريفة الأجرة الآن، لكني أتصور أنها تضاعفت عشرات المرات.

المرحلة الثانوية كانت الأحب إلى قلبي، تمر أيامها أمام عيني وكأنها خيالات أو سحابة دخان، اجتهدت  قدر ما استطعت، وذاكرت كما لم أفعل طيلة سنوات الدراسة، صادقت زميلاً عزيزاً "محمد على"، كنا إخوة لا نفعل شيئاً سوى التعلم، أذهب إليه كل مساء أحمل كتبي وأوراقي، ونستذكر دروسنا حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي، حصدنا تفوقاً، وحصلت على مجموع 94.6% في الصف الثاني، و93.7% في الصف الثالث، وشق كل منا طريقه بعد الالتحاق بالجامعة.

العودة للقاهرة في مطلع الألفية الثالثة كانت مبهرة بكل تفاصيلها، فقد كانت كلية الإعلام بمبناها الأنيق الجديد، والطلاب الذين يقصدونها من كل حدب وصوب، صدمة حضارية، احتجت عدة أشهر لاستيعاب معالمها، انتقلت فيها من الريف البسيط إلى الضجة الصاخبة، من السكون والبراءة إلى عصر الإعلام وصناعة الصورة.

المدن الجامعية تتأخر في فتح أبوابها للطلاب المستجدين، وكأن أبناء الريف لا مفر لهم من الشقاء والتعب، وهذه عادة سيئة يحرصون عليها حتى يومنا هذا، فقد يمر شهر أو يزيد حتى تتمكن من السكن في المدينة الجامعية لو كنت في الفرقة الأولى، وربما يصبح حظك أسوأ لو حصلت على الحد الأدنى للقبول بالكلية، حينها لن تسكن المدينة في عامك الأول، وقد كان، وبينما أحاول التكيف مع أجواء القاهرة، التي لم تألفها سريعاً قرويتي الساذجة، اصطدمت بأن لا سكن لي في المدينة الجامعية العام الأول، لكن عناية السماء، أو كما نقول "أبناء الحلال" حاضرون دائماً، فذهبت للسكن مع الصديق محمد شعبان، كان دفعة أختي الكبيرة في المدرسة، ويكبرني بنحو 11 عاماً، لكنه رحب بطلب أبي بـ مروءة مذهلة، واستضافني عاماً كاملاً دون أن أدفع مليماً واحداً، وهذا فعل لا يقدمه الأشقاء مع ذويهم.

تمضي الأيام وتمر السنوات، وتبقى الذاكرة معبأة بكل هذه المشاهد والأفكار، وروائح الماضي، التي تذكرني دائماً أن الطريق لم يكن سهلاً على طول السفر، والتجربة رغم صعوبة وقسوة مشاهدها إلا أنها تمنحنا دائماً صورة ثلاثية الأبعاد، تفتش في عمق المعاني لا سطحية المظاهر والقشور.

هذه ربما رسالة للحائرين، لأبناء القرى، للطبقات الفقيرة والمتوسطة، للشباب في الصعيد وبحري والمناطق الحدودية، للمستورين بالرضا والقناعة، لمن تزودوا بالمحبة والعطاء، لأبناء الأصول الذين عاركوا الدنيا ولم يساندهم أحد، لمن خاضوا حروبهم بأنفسهم دون دعم أو تأييد ودفعوا الثمن جهداً وعرقاً في طريق لا مجانية فيه، لا منح، لا محاسيب، لا عشم، بل لا نصيحة مخلصة، أو تأييد دون غرض.. لا تيأسوا فمازالت الأماني ممكنة، والفرص مقبولة، حتى وإن أغلقوا الأبواب وسدوا النوافذ، اعشموا في قدراتكم، وصدقوا أحلامكم.







مشاركة



الموضوعات المتعلقة




الرجوع الى أعلى الصفحة