الأسعار لا يجب أن ترتفع عندما يكون لدى الناس أموال أقل لإنفاقها، فهذا مزيج لا يفترض حدوثه في منطق الاقتصاد، والدوائر المتصلة بين العرض والطلب، وهو ما يجعل الأمر نظرياً نادر الحدوث، لكنه واقعيا بات معروفاً بـ "الركود التضخمي"، وهو أشبه بالسلسلة المشتعلة، التي تحرق أي اقتصاد، وتأكل أي معدلات نمو أو بوادر إصلاح، نتيجة المعادلة الثلاثية المعقدة "التضخم + تباطؤ النمو + زيادة معدلات البطالة"، التي نصبح عندها في قلب الركود التضخمي، الذي عجزت النظريات عن تقديم حلول جذرية لمواجهته أو التغلب عليه، وخرجت توصيات التصدي من دائرة التأكيد والمنطق، إلى الافتراض والمحاولة.
سلسلة الركود التضخمي المشتعلة تبدأ دائما من "التضخم"، فارتفاع الأسعار عندما يصل إلى نقاط جامحة، ينتهي إلى تراجع في معدلات الاستهلاك، ونقص في الإنتاج الكمي، وتراجع للطلب، وإحباط لخطط التوسع، وهذا ينعكس على حجم العمالة الموجودة أو المستقبلية، فيتم تسريح جزء منها، وفي نفس الاتجاه لا يتم الاستعانة بدماء جديدة، أو خلق فرص عمل حقيقية، لذلك تنغلق الحلقة شيئا فشيئاً، حتى نجد أنفسنا أمام معدلات نمو أقل، وبطالة مرتفعة، وأسعار تعجز معها الأجور عن تغطية نفقات المعيشة، أو تحقيق مستويات معتبرة من الرفاهية والرخاء.
لا يتفق خبراء الاقتصاد حول الأسباب الحقيقية وراء الركود التضخمي، لكنهم يُجمعون أن مطلع السبعينيات من القرن الماضي كان بداية التجلي الحقيقي لهذه الظاهرة متعددة الأطراف، عندما حدثت أزمة إمدادات النفط، أو الحظر النفطي كما وصفها معهد الخدمة الخارجية في وزارة الخارجية الأمريكية عام 1973 و 1974، بعدما أعلنت الدول العربية أعضاء منظمة "أوبك" حظر تصدير النفط للدول الغربية، لإجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، وقد ارتفعت مع تلك الأزمة أسعار الوقود بصورة غير مسبوقة، الأمر الذي تسبب في زيادة تكاليف السلع، ثم في النهاية زيادة البطالة وتراجع معدلات النمو، بعدما تضاعفت أسعار البترول 4 مرات من 3 دولارات للبرميل إلى 12 دولاراً في مطلع عام 1974، وقد دفعت هذه الأزمة بعض الدول إلى إعادة النظر في الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، مثل اليابان التي ضخت استثمارات ضخمة في الطاقة المتجددة، وتوسعت في صناعات الإلكترونيات.
معظم السياسات المصممة لخفض التضخم، تميل غالباً إلى زيادة معدلات البطالة، في حين أن السياسات المصممة لخفض البطالة تؤدي بالضرورة إلى زيادة التضخم، فالشركات والمؤسسات الصناعية عندما تحاول خفض التضخم، وتقليل تكاليف الإنتاج، تبدأ عمليات تسريح عمالة وفق خطط التكاليف الجديدة، بينما حين تلجأ إلى التوسع في التوظيف ومضاعفة خطوط الإنتاج، فيتم تحميل هذه الأسعار أو النفقات الجديدة على المنتجات، فترتفع الأسعار ويزيد التضخم، وينخفض الأجر الحقيقي "القيمة الشرائية الفعلية للنقود"، مقابل الأجر النقدي" ما تحصل عليه من النقود مقابل العمل شهريا".
النظرية تقول إن التغير في الأجور الحقيقية يجب أن يسير في نفس الاتجاه مع الأجور النقدية، من أجل مواجهة التضخم والسيطرة عليه، لكن جون مينارد كينز، عالم الاقتصاد الإنجليزي الشهير، ومؤسس النظرية الكنزية في كتابه "النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود" يقول إنه حين ترتفع الأجور النقدية، فإن الأجور الحقيقية تنخفض، وهذا واقع يراه الناس ولا يمكن إنكاره، فالقيمة الشرائية لما يتقاضاه الموظف أو العامل الآن لم تعد تفي بما كانت تقدمه منذ 5 سنوات، وإن كانت نظرياً تضاعفت مرتين أو ثلاثة، على سبيل المثال، اللحوم البلدية كانت أسعارها مطلع عام 2019 في المتوسط 100 جنيه للكيلو جرام، بينما الآن حوالي 400 جنيه، وحال المقارنة بين الحد الأدني للأجور عام 2019 وحينها كان ألفي جنيه، واليوم 6 آلاف جنيه، فإن راتب 2019 كان يشتري حوالي 20 كيلو جرام لحوم، بينما راتب اليوم يشتري 15 كيلو جرام فقط، بما يعني أن الراتب الحقيقي فقد 25% من قيمته تقريباً، من العلم أنه نظرياً ارتفع 300%.
بالطبع الحد الأدني للأجور في الحكومة لم يتم تطبيقه في القطاع الخاص بشكل كامل، فهناك مؤسسات ومصانع وشركات مازالت توظف وتستقبل عمالة جديدة برقم يقل عن الحد الأدني للأجور المعلن بنسب من 40 إلى 50%، فلم يعد جزء كبير من هذه المؤسسات قادر على تغطية ارتفاعات أجور العمالة في ظل انخفاض قيمة العملة، وارتفاع مكونات الإنتاج، لذلك باتت الصورة معكوسة. في الماضي القريب كانت أجور القطاع الخاص أفضل نسبياً من الحكومة، بينما الوقت الراهن، لم تعد هذه المعادلة تحافظ على استقرارها، وبدأت الشركات الخاصة تتيح وظائف برواتب أقل، خاصة للمبتدئين من الملايين الذين يبحثون عن فرص عمل سنوياً.
بلغ معدل البطالة في مصر 6.7 % خلال الربع الأول من العام 2024، وفق نشرة الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وهذا الرقم مطمئن إلى حد ما في ضوء قراءته ومقارنته مع الربع السابق، لنجد أنه انخفض بمعدل 0.2 %، لكن لآبد أن نشير هنا إلى أن الأرقام التي يتم إنتاجها عن البطالة في مصر يبلغ فيها عدد المشتغلين 29,293 مليون فرد، 16.8 مليون منهم في الريف، بينما 12.4 مليون في الحضر، وهذا يدعو للتساؤل، فالمفترض أن يكون عدد المشتغلين في الحضر أكبر، لكن هناك فئة في بحث البطالة تسمي "عدد المشتغلين الذين يعملون لحسابهم ولا يستخدمون أحداً" يبلغ عددها 5.5 مليون شخص، بالإضافة إلى فئة " المشتغلين في أعمال داخل الأسرة بدون أجر"، وهم حوالي 1.1 مليون مشتغل.
إذن أرقام البطالة من الناحية النظرية والإحصائية سليمة، و تخضع لمنهجيات علمية معمول بها، لكنها في الوقت ذاته حين تشريحها على الواقع، لا يمكن أن تعبر عن المستوى الحقيقي للبطالة في المجتمع، أو بمعنى أدق لا يمكن من خلالها قياس معدلات الرفاهية أو مستويات الدخل، فكل من تعمل في بيت زوجها لا تدخل ضمن مؤشرات البطالة، وكل من يزرع 10 قراريط يعمل لحسابه ولا يتقاضى أجراً من الغير، وكل من يمتلك بقرة أو جاموسة في ريف الفيوم أو بني سويف، صاحب عمل ولا يعاني البطالة، حتى وإن كان يعاني الفقر والفاقة والعيش في نطاق الكفاف، ربما أقل!
الموقع الأمريكي Investopedia، المتخصص في الاستثمار وتقييم الشركات وأسواق المال يشير إلى أن "صدمة العرض" ربما السبب الأساسي للركود التضخمي، ويدلل على هذا الطرح بما أحدثته أزمة فيروس كورونا في العالم خلال السنوات الماضية، وتسبب في نقص سلاسل الإمداد، وجاء هذا جلياً في الصناعات التي تعتمد على الرقائق الإلكترونية أو أشباه الموصلات، التي رفعت أسعار السيارات والهواتف وأجهزة الكمبيوتر المحمولة، وعشرات الأجهزة الكهربائية، وتقلص معها حجم إنتاج الشركات بصورة غير مسبوقة، وكان لها تأثيرات مباشرة على تباطؤ معدلات النمو، وارتفاع البطالة، وبالطبع مؤشرات التضخم وارتفاع الأسعار.
تستهدف الحكومة المصرية السيطرة على معدلات التضخم والنزول بها إلى مستوى 10% نهاية عام 2025، وفق تصريحات صحفية للدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، وفي سياق متصل أعلنت الحكومة رفع الدعم تدريجياً عن الوقود حتى نهاية عام 2025، ليتوافق مع الأسعار العالمية، وكذلك المضي في خطة رفع الدعم عن أسعار الكهرباء خلال 4 سنوات مقبلة، إلا أن التأمل البسيط، والتحليل الأولي لهذه التصريحات يؤكد أنه لا يمكن نظرياً الوصول بالتضخم للمعدلات المستهدفة، في ظل خطة رفع الدعم عن المنتجات البترولية والكهرباء، نتيجة تأثر كافة القطاعات الإنتاجية بأسعار الطاقة، فعندما يتم رفع أسعار الوقود بنسبة 15% ستنعكس هذه النسبة على أسعار مختلف السلع، بداية من الخضراوات والفاكهة وصولاً إلى الأجهزة المنزلية، فكل ما سبق تدخل تكلفة النقل كرقم مؤثر في عمليات الإنتاج و التسويق.
أتصور أن معدلات التضخم لن تهبط بالصورة التي تأملها الحكومة، لذلك يجب التحرك نحو خطط واضحة لزيادة موارد العملة الصعبة، والحفاظ على قيمة العملة المحلية، والتخطيط لبرامج أكثر فاعلية في الحماية الاجتماعية لدعم الطبقات الفقيرة، خاصة أن حلقات السلسلة المشتعلة "التضخم – تباطؤ معدلات النمو - البطالة"، تحتاج إلى إطفاء عاجل، وإجراءات أكثر مرونة وتنسيق في اتجاهات مختلفة، وتحركات متوازية بين السياسات المالية والنقدية.
القول دائماً أسهل من الفعل، خاصة إن اتفقت الآراء حول عدم وجود علاجات واضحة أو نهائية للركود التضخمي، لكن يبقى الإنتاج هو الحل البسيط، باعتباره الضمان الوحيد لمعدلات نمو حقيقية دون تضخم إضافي، لذلك يجب العمل سريعاً على خطط التحفيز العاجلة للصناعة باعتبارها المحرك الأول للإنتاج، والمسار القادر على تغيير دفة الاقتصاد إلى الطريق الصحيح، وعلينا أن نبدأ من الصناعات التي نمتلك فيها مصادر القوة، سواء الموارد الطبيعية أو القدرات الفنية والموارد البشرية والعمالة المدربة.
في تقرير بعنوان "الاقتصاد العالمي في مأزق" أورد صندوق النقد الدولي عبر موقعه الإلكتروني تحليلا للأسواق حول العالم ومعدلات النمو، في شهر يوليو الجاري، مؤكداً أن التضخم سيظل أعلى في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية (وأن ينخفض بشكل أبطأ) من الاقتصادات المتقدمة، لاسيما أن معدلات النمو العالمي لم تتغير على نطاق واسع، لذلك ينبغي استخدام الاحتياطيات الأجنبية بحكمة، والحفاظ عليها للتعامل مع حجم التدفقات الخارجة التي قد تكون أسوأ في المستقبل.
وذكر صندوق النقد أن أهم المخاطر في الوقت الراهن مرتبطة بتصاعد التضخم، وعدم إحراز تقدم في خفض أسعار الخدمات، وسط ضغوط الأسعار الناجمة عن التوترات الجيوسياسية، وفي الوقت نفسه، لا يزال عدد من البنوك المركزية في اقتصادات الأسواق الناشئة يتوخى الحذر في إجراءات خفض أسعار الفائدة، بسبب المخاطر الخارجية الناجمة عن التغيرات في فروق أسعار الفائدة، خاصة أن عملات الأسواق الناشئة تعرضت لضغوط انخفاض قيمتها خلال الفترة الماضية.
وأشار الصندوق أن ارتفاع نمو الأجور الاسمية أو النقدية، في محاولة اللحاق بركب الأجور الحقيقية، إذا كان مصحوباً بضعف الإنتاجية، قد يجعل من الصعب على الشركات أن تخفف من زيادات الأسعار، خاصة عندما تكون هوامش الربح مضغوطة بالفعل، وقد يؤدي ذلك إلى مزيد من الثبات في تضخم الأجور و الأسعار، وقد يؤدي تصاعد التوترات التجارية إلى زيادة مخاطر التضخم على المدى القريب، مما يزيد من تكلفة السلع المستوردة على طول سلسلة التوريد.
إذن نحن نحتاج إلى خطط أكثر مرونة، وتحركات أكثر جدية، تتناسب مع مستوى المخاطر التي تحيط بالاقتصاد العالمي عامة، والاقتصاد المحلي بوجه خاص، وهذا أمر يتطلب التحرك بصورة أفضل نحو السيطرة على التضخم أولاً، ثم بعد ذلك نتحرك في خطوات تحرير الدعم، بينما التحرك في المسارين معاً بوقت واحد، غير قابل للتطبيق نظرياً وعملياً، خاصة أن قضية التضخم و السيطرة على الأسعار أهم بكثير من تحسين أو تغيير مسارات الدعم.