فى الأحوال العادية، يكونُ احتدامُ السِّباق وعدم اتِّضاح نتائجه دليلاً على التنافُسيَّة وصِدقيَّة التجربة الديمقراطية، لكنهما يحملان إشاراتٍ مُغايرةً فى المشهد الأمريكى الراهن، تبدأُ من السيولة وانتكاس المعايير الراسخة، وتصلُ إلى التعبير عن سياقٍ عارم من الانقسامات العَرضيَّة والعَموديَّة، وإذا كانت المُواكبةُ من بعيدٍ تسمحُ لنا بالقول باستثنائيَّة اللحظة وفوضاها، فإنَّ الوقائعَ على الأرض قد تكونُ أشدَّ تناقُضًا وإرباكًا من كلِّ ما تحملُه لنا الأخبار واستطلاعات الرأى، وتعليقات المُحلِّلين والخبراء، وقبلها جميعًا مواقف الحِزبَين اللذين يخوضان الجولةَ على صِفَة الاضطرار.
فَرضَ «ترامب» نفسَه على الجميع من خارج الحسابات المنطقية، وفوق الأيديولوجيا والسياسة، وفُرِضَتْ كامالا هاريس على الديمقراطيِّين بأثر الانكشاف الطارئ، وكاستجابةٍ انفعاليَّة لتآكُل حظوظ بايدن، وانطلاق الغريم الجمهورىِّ نحو تلوين المجال العام بألوانه الفاقعة، وبينما يُنتَظَرُ من الصناديق أن تفُضَّ الاشتباكَ بالآليَّة الروتينيَّة المُعتادة، فإنَّ ما يقعُ خارجَ المنافسة الوقتيّة يبدو عَصيًّا على الحسم، ومن خارج الأدبيَّات الراسخة، وقد يُفضِى إلى حقبةٍ مُضادَّة تمامًا لكلِّ ما عرفته الولاياتُ المُتَّحدة، كما لو أنها إعادةُ إنتاجٍ للحرب الأهليَّة على وجهٍ جديد، ربما يكون أكثر نعومةً، لكنّه ليس أقلَّ خطرًا على الإطلاق.
الوَصفةُ الأمريكيَّة عريقةٌ وراسخة، وقد اجتهدَ الآباءُ بكلِّ السُّبل لتَوسِعَة أقواسها، وتقويض احتمالات الخروج عليها أو تفجيرها من الداخل، لكنَّ المُبالغة فى التحصين أنتجت وَضعًا شديدَ التركيب، وأبعدَ ما يكون من المِثاليَّة، فضلاً على أنه لا يُحقِّق أهمَّ الأدوار المطلوبة من الديمقراطية، وهى أن تكون مَنصّةً دوريَّة للفرز وتظهير التوازُنات الحقيقية فى الشارع وبين النخبة، وعلى هذا المنوال سارت القاطرةُ الضخمة، ظاهرُ القيادة فيها للشعب وجوهرُها للنظام المُخاتل بين تنظيراتٍ مُكثَّفة عن الانفتاح، ومُمارساتٍ مُقيَّدة بالمسارات الإجبارية والضوابط الصارمة، وما كان عاملَ قوّةٍ ورُسوخ، يبدو اليومَ كأنه من علامات الاعتلال ومُثيرات القلق.
الأُمَّة المُمتدَّة على قرابة 10 ملايين كيلو متر مربع، وبتعدادٍ يُلامس 340 مليون مواطن و244 مليون ناخب، لديها أحد أكثر أنظمة الحكم ديناميكيَّة وفاعلية، لكنه ليس الأفضل على مستوى الديمقراطية التمثيلية فى معناها القاعدىِّ السليم.
الحالُ كما لو أنَّ الأمريكيين تعرَّضوا لخديعةٍ منذ البداية، وجَرَتْ عمليَّةُ هندسةٍ فوقيّة مُوجَّهة تمامًا لبناء أُطرِهم السياسية والتنفيذية، مع إفلات أحد خيوطها ليتلهَّى به الناس عن الأسئلة الحقيقية الجادة، وعن مدى القُدرة على تفعيل العلاقة الطبيعية بين السُّلطة وأصحابها الأصليِّين، يصيرُ الناخب قادرًا على لعب كلِّ الأدوار، إلَّا أنْ يكون طرفًا حقيقيًّا فاعلاً فى إنتاج النائب عنه، لا على معنى التزوير والأوتوقراطية فى صورتيهما الصريحتين، إنما بنُسخةٍ مُعدَّلةٍ منهما، يجرى التلاعب فيها قبل المحطَّة النهائية، ويتحدَّد ذَوو «الدماء الزرقاء» مِمَّن تنتقلُ الولايةُ فيهم وفقَ اعتباراتٍ «فوق شعبيّة»، ترتبط بالأيديولوجيا والمصالح الاقتصادية وجماعات الضغط، والأهمّ مدى قابليتهم للتطويع والانصياع، واحترام الحدود المرسومة لهم بعناية.
الأحزابُ كثيرةٌ والمُرشَّحون أكثر، لكنَّ اللعبة اختُزِلَت فى الحمير والأفيال، ويزيدُ من حالِ التأطير أنها انتُزِعَتْ من السياسة إلى التجارة، وصُبِغت بالمال، وبشىءٍ أقرب إلى القوالب التى لا يُمكن المرور للمجال العام إلَّا من خلالها، وهكذا يقفُ المواطن الفردُ فى آخر الطريق، بينما يتقدَّمُ عليه كُتَّابُ السيناريو وسَدَنةُ القواعد والمُواءمات. لقد بُنِى النظامُ بما يسمح بالتعديل عليه فى أيَّة لحظة، وباستخدام أدواتٍ ناعمةٍ لا تتركُ أثرًا ظاهرًا، كما لا تصدمُ الجمهور. المسألةُ لا تنحصرُ فى السباق الأكبر على البيت الأبيض، بل تتَّسع لتشملَ الكونجرس ومرافق الولايات وكلَّ ما يُطرَحُ تحت لافتةٍ نيابيَّة. فى الشهور الأخيرة مثلاً أنفق لوبى «أيباك» اليهودىُّ عشرات ملايين الدولارات لإسقاط بعض المُناوئين لإسرائيل، كحالة جمال بومان مثلاً، وعندما يقفُ الناخبُ أمامَ قائمةٍ مُعقَّمة سَلَفًا، تسقطُ بالضرورة كلُّ الدعايات عن سلامة المنظومة الديمقراطية.
بالطبع، تحدثُ الاستثناءاتُ أحيانًا، لكنها مِمَّا يُؤكِّدُ القاعدةَ، أو يُمرِّره «مَحبَسُ النظام» للتعمية والتضليل، وضمان أنْ تظلَّ اللعبةُ قادرةً على الإقناع واجتذاب الأتباع والداعمين، وما تَغيَّر خلال العقد الأخير أن دونالد ترامب صعد فى 2016 من خارج القواعد المعمول بها، ويحاولُ تكرارَ التجربة، وصدمةُ المُحرِّكات العميقة للمشهد لا تنبعُ من اختلافٍ عضوىٍّ مع رجل الأعمال اليمينى الأبيض، أو تعارُضٍ فى الرؤى والأولويات، ولا حتى من استشعارهم أنّه يُهدِّد سُمعةَ الدولة وديناميكيَّات إدارتها داخل النطاق المقصود، إنما أنّه جاء من غير المسارات المُعتمَدَة، ومجرَّدُ صُعودِه يُمثِّلُ انقلابًا على القانون الحاكم من وراء ستار، وتهديدًا بتكرار النزوات ومُحاولات الاختراق، وهذا أخطرُ ما يُثيرُ حفيظةَ القوَّة الخفيّة، أكانت عقلاً مُؤسَّسيًّا دائمًا، أم شبكات مصالح مُلوَّنة ومُتبدِّلة.
ثلاثةُ مستوياتٍ من العمل على إنتاج الرئيس: داخل الحزبين، ثمَّ فى مسار السباق بينهما، وأخيرًا عبر تطويق المُنافسة فى نطاق جهوىٍّ وبشرى ضيِّق، والتسلُّط عليه من خلال كبار الناخبين/ أعضاء المُجمَّع الانتخابى، والحكاياتُ عديدةٌ عن مُرشَّحين فازوا بالتصويت الشعبى وخسروا فى النتيجة النهائية، أو عن وقائع صوَّت فيها المندوبون على خلاف توجهات الجمهور، وكلها تُشبه جدلية «التسيير والتخيير» فى الفلسفة الإسلامية، إذ لا سُلطةَ للعوام على العمليَّة من بدايتِها إلى مُنتهاها، وغايةُ ما يتحصَّلون عليه أن يُرجِّحوا أحدَ الاحتمالين المُقرَّرَين سَلَفًا.
الجولةُ الحاليةُ تنحصرُ فى سبعِ ولاياتٍ أُرجوانيَّةٍ/ مُتأرجِّحةٍ بين اللونين الأزرق والأحمر، وتضيقُ الفوارق فيها جميعًا إلى ما دون هامش الخطأ الإحصائىِّ، ما يعنى أنَّ الفائزَ سيتحصَّلُ بالكاد على عِدَّة آلاف الأصوات أكثر من الخاسر، وفى الأخير سينتقلُ الرئيسُ الجديدُ إلى المكتب البيضاوىِّ بأفضليَّةٍ تتخطَّى النصفَ بنزرٍ ضئيل، أو حتى تقلّ عنه لتُعوِّضَها توازناتُ المَندوبين، وصولاً بالكاد إلى الرقم السحرى «270 صوتًا» أو أعلى قليلاً، وفى غابة الجَدَل والمُشاحنات هُنا يسقطُ كثيرون من المُنافسين خارجَ التيّار التقليدىِّ العريض، وأضعافُهم مِمَّن يرغبون فى الترشُّح، ولا تسمحُ لهم المصفاةُ الضيِّقةُ للغاية بالعبور أصلاً إلى قائمة الاقتراع.
يتدفَّقُ الناخبون على المقرَّات اليوم؛ لكنهم لن يتجاوزوا نصفَ الحصيلة الإجمالية إلَّا بعدَّة ملايين فى أحسن الأحوال. الأسابيعُ الماضية شهدت تصويتَ أكثر من 75 مليونًا بشكلٍ مُبكِّر، عبر الحضور المُباشر أو من خلال البريد، الرقمُ يُوازى ضعفَ المستويات الطبيعية المُعتادة، ونحو 80% تقريبًا من أعلى مُعدَّلاته فى زمن كورونا وأجواء الإغلاق.
ويصحُّ القول إنَّ الزخمَ وكثافة الحشد يُعبِّران عن سياقٍ تنافُسىٍّ ساخن، وعن فاعليَّة الحَملَتين فى تحفيز القواعد واستمالة غير المُؤدلَجين، لكنه يَحتمِلُ أيضًا التفسيرَ بأنَّ الناسَ ينظرون للمشهد على صِفَة الجائحة، ويتشكَّكون فى المنظومة، وربما يستشعرون خطرًا وُجوديًّا منها أو عليها، لعلها كانت تصلحُ فى السابق للتدليل على الجدارة، لكنها اليومَ أقربُ للشكوك وانعدام الثقة، بجانب ما تُدلِّلُ عليه من حالِ الانقسام والاستقطاب، وأنَّ المجتمع فى حقبةِ فَورانٍ عظيمة، قد يستخلصُ فيها وجهَه الصافى الذى يبتغيه، أو لا يعودُ بعدَها إلى ما كان عليه من اتِّزانٍ حَرِجٍ، وهندسةٍ دقيقة بين الانغلاق والانفتاح/ الجَبر والاختيار.
انتُدِبَت كامالا هاريس لتكون مُمثِّلاً عن الوضع القائم، بينما يُجاهرُ دونالد ترامب طوالَ الوقت بمُعاداته والنقمة عليه، ولا يخفى رغبتَه ونواياه بالتدخِّل فيه بالتعديل أو التغيير. سيّان هنا أنْ يقولَ إنَّه سيكون ديكتاتورًا ولو ليومٍ واحد، أو يُوَظَّف ضِدّه «مشروع 2025» الذى أعدَّته نُخبةٌ من صقور الجمهوريين، وبعضهم كانوا أعضاء فى إدارته السابقة. إنها حربٌ قذرة تُستخدَم فيها كل الأسلحة المشروعة والمُحرَّمة، ولا فارق بين مُمارسة العنصرية على سيِّدة سمراء، أو اتِّهام مؤيِّدى المُنافس بأنهم «قمامة ونفايات»، كما لا فارق بين التوظيف الدعائى للإعلام واستطلاعات الرأى، وللقضايا والنزاعات القانونية، أو الاتهام الفجّ بالخيانة الوطنية لمُجرَّد اللون والفكر، أو بالشيوعية فى بلدٍ يسارُه يمين، والفارق بين الطَّيفَين جرعةُ دواءٍ أو نزاعٌ على حقِّ الإجهاض.
الديمقراطيِّون إن كانوا أُجبِروا على المُنافسة تحت راية بايدن، انطلاقًا من تقاليد ألَّا يُنازَع الرئيسُ فى ولايته الثانية. فالحال أنَّ الفلسفة انطوَتْ، ولو دون قَصدٍ، على مُقابلةٍ عميقةٍ بين التراث الراسخ والانفلات المُقترَح، بين سياسىٍّ ذى خبرةٍ عميقة، وتدرَّجَ طبيعيًّا فى أروقة النظام، ومُستثمرٍ مارقٍ يقتحمُ الحلبةَ من الخارج كاسرًا كلَّ أعرافها وثوابتها، وهكذا يُمكِنُ النظرُ لإحلال «كامالا» باعتباره حفاظًا على التقابُل نفسِه، صحيحٌ أنه خيارٌ يُشبه الضرورة، وفى أقلِّ هامشٍ مُتاحٍ من الوقت، لكنه ينحازُ لفكرة الاستدامة، وطبيعة القوالب النمطيَّة المُكرَّسَة لانتقاء السياسيِّين وتصعيدهم. شىءٌ من القلق الحقيقىِّ دفعَ لاستبدال الرئيس العجوز، وأضعافُه من الاطمئنان الزائف ساعدت على الاستخفاف بالمسألة، وعدم التركيز على هُويَّة البديل المطروح.
ينظرُ الطرفان للعملية على صِفَة الاستفتاء لا الانتخاب، الديمقراطيِّون ومِنْ ورائهم قلبُ الدولة الصلبُ ينافسون بالنظام القائم، وبعضُ الجمهوريِّين تُؤازرهم الموجةُ اليمينيَّةُ الصاعدة، يُراهنون على المُناوئة الكاملة، وإن لم يتوافر لديهم بديلٌ واضح. وبهذا تُمسَخُ الحالةُ الفردانيَّة للمُرشَّحَيْن، ويصيران أقربَ إلى الرمز من المشروع أو الذات المُتعيَّنَة، وهذا ما يُفسِّرُ ارتباكَ البرامج وسطحيَّتَها، والتشابُهَ الكبيرَ بين الخطابين فى كثيرٍ من العناوين والتفاصيل، وأن تذوبَ الأيديولوجيا، فيتحوَّل إيلون ماسك وغيرُه من تأييد التقدَّميِّين إلى النقيض، ويُوقِّعُ عشراتُ المُحافظين عرائضَ لدعم غريمتِهم ونائبة غريمهم. إنها ليست انتخاباتٍ بين مَشروعَيْن تنفيذيَّيْن قابلين للتعايُش أو الصراع المُنضبط، بل مُفاضلة بين وَجهين مُتناقضين للولايات المُتَّحدة، يستحيلُ أن يتعايشا معًا تحت سقف الإجراءات القائمة، وقد ينتجُ عن تصارُعِهما طريقٌ ثالثٌ بين الطريقين.
فى التجربة السابقة، جُنِّد الإعلام التقليدى فى أغلبه لصالح هيلارى كلينتون، ومنحتها الاستطلاعات فوزًا سهلاً بهامش مُريح، وبدا ترامب رجلاً من خارج الصندوق بكل المعانى، ليس فى طبيعته الشخصية وخبرته السياسية فحسب، بل فى المنافسة من خلال حساب على منصّة تويتر، والتصدِّى لأدوات التأثير الراسخة، وآليات الدولة العميقة بكل تجاربها الساخنة، حتى اقتنص الرئاسة على غير إرادة النخبة الأمريكية فى أغلبها، والمشهد لم يختلف كثيرًا، إذ كان أغلب الصف الأول من الجمهوريين على خصومةٍ معه، وجُوبه من الداخل بأكثر مِمًّا حاربه الخارج، لكنهم اضطرّوا فى النهاية لأن ينحنوا أمام موجته الكاسحة. وعلى هذا المعنى تتحقِّق صفته الإزعاجية الكاملة، بمعنى أن الطبقة العليا من ساسة الحزبين يرفضانه بالتساوى، ويختلفان فى درجة التعبير عن الرفض، أو إمكانيته، ولا ضمانة لأن ما حدث قبل ثمانى سنوات، يتكرر اليوم.
الشكُّ فى أعلى مناسيبه على الإطلاق، المُتطرِّف لا يتركُ احتمالاً للخسارة إلَّا الغشّ والتزوير، والمُعتدِلون أو مَنْ يصطنعون الاعتدالَ، يعتبرونَه اختراقًا من الخاصرة الهشّة، ومُحاولةً لتقويض الإمبراطورية وحَبسِها عن أدوارها الرساليَّة العُليا، وهى تُختَزلُ دائمًا فى إرعاب العالم، وإذكاء الحروب، وفى نقد الحرب على أوكرانيا ومُباركتها فى غزة ولبنان، وبمنطقِ السوابق والمُشاكَلة، فربَّما تكونُ الاستطلاعات الحاليَّة مُوجَّهَةً لطرفٍ، أو مُوجِّهَة ضدّ آخر، بمعنى التوظيف لاستمالة الناخبين والتأثير على مواقفهم. لكنَّ استفاقة الطرفين، والبدايةَ من نقطةٍ ساخنةٍ أصلاً، لا يتركان هامشًا لعَكسِ الحالة فى اتجاه مُضادّ، ولو جاءت النتائجُ على خلاف التوقُّعات، أو بالأحرى على خلاف الآمال والتمنيَّات.
المُفارقةُ أنَّ الدفعَ والتحشيد الشديدين وراءَ السيدة، منحاها بالكاد مقعدًا مُوازيًا لغريمِها، أى أنَّ التوازُنَ القائمَ فى المُنافسة ليس نتاجَ القوّة الفِعليّة للمُرشَّحَيْن، بل يُعبِّرُ عن مُعادلةٍ صارخةٍ فى وُضوحِها، كامالا ومن ورائها النُّخَبُ والمُؤسَّسات وأغلبُ رأس المال، وترامب عاريًا إلَّا من شارعٍ هائجٍ ويتزحزحُ بسرعة إلى جهة اليمين. والفوز أو الهزيمة فى تلك الصيغة، إنما يُؤثِّران على إيقاع التحوّلات المُرتقَبَة، ولا يشطُباها بالكُليّة من دائرة الاحتمالات. والقصدُ أنَّ امتدادَ إدارة أوباما لولايةٍ رابعة، أو تحقيقَ عودةٍ استثنائيَّة للبديل الجمهورىِّ الصاخب، لن يَحرِفا الدولةَ عن مسارِها المُنتَهِى للوقوف أمامَ تساؤلاتٍ مفصَليَّة جادّة. سيتباطأ التغييرُ أو يتسارع، لكنَّه سيحدثُ حتمًا.
وإذا افترضنا أنَّ مُؤشِّرات الاستطلاعات آخرُ ما أمكَن تحقيقُه لصالح كامالا، أكان بالتلاعُب أم الانتقاء أم الأخطاء العارضة، فالخُلاصةُ أنها قد لا تُعبِّر بجدارةٍ عن واقع الحال. إنَّ فكرةَ الوصول إلى الحدِّ الأقصى من الرواج، مُقابلَ احتماليّة أنَّ المُنافس تحت ضغوطٍ مُركَّبة من جانب المُؤسَّسات النظاميّة والأهلية والشارع العام، تُرجِّحُ كَفّة «ترامب» على مُنافستِه من القراءة الأُولى، وإنْ ظلَّ من الصَّعب الجَزم بالبطاقة الرابحة إلى الآن. من جانبٍ، يُمكن افتراض أنَّ المراكز تنتقى العيِّنات بما يُحقِّق الناتجَ المأمول، كما يصعُب الانصراف عن حقيقة أنَّ جمهورَ الرئيس السابق أغلبُه من البِّيض المُحافظين وكبار السن، وكثيرون منهم لا يُشاركون فى قياسات الرأى، وبعضهم يُخبِّئون ميولَهم أو يَرُدّون بإجاباتٍ مُحايدة. ومثلما جَرَتْ خديعةُ «السراب الأحمر» فى الانتخابات السابقة، عندما بدأ الفرزُ بأصوات البريد فرجَّحَتْ تفوُّقَه، قبل أنْ تنقلِبَ الأرقامُ مع التصويت العام، فإنَّ ما يجرى على مدى الأسابيع الأخيرة قد ينتهى إلى غير ما يُروَّجُ عنه، ويُكتَشَفُ أنه لم يكن سوى «سرابٍ أزرق».
من العَصىّ على «ترامب» أو غيره أن يُقوِّضَ تجربةً راسخة، لكنَّ استمرارَ الدقِّ على رأسِها قد يُوسِّعُ ما فيها من شروخٍ وتناقُضات. ما ارتضاه الآباءُ قبل نحو ثلاثة قرون، يبدو أنه لم يعُد مُقنعًا للأحفاد ولو بدرجةٍ زهيدة، ولا شكَّ سيتضاعفُ عدمُ الرِّضا كُلَّما تعرَّضت المنظومة لاهتزازاتٍ عنيفة، أو لضربات مُحارِبِين من خارج الكتالوج.. والحال أنَّ المُلاحظات على النظام الانتخابىِّ المُعقَّد ليست جديدة، والنقدَ لآليَّة المندوبين يتردَّد منذ عقود، ومن البديهىِّ أنَّ المُنتفعين بالوضع القائم لن يدعموا أيّة مُقاربة للنظر فيه، ناهيك عن تغييره. إنها الديمقراطية التى تُطارِدُ السرابَ طوالَ الوقت، وتستخلِصُ المناصبَ على هواها، تاركةً للناس أن يختصموا فى الجدليَّات غير المُثمرة على حواشيها.
وإذا كانت ثمّة حقائق يُمكن الجَزمُ بها من تجربة «كامالا وترامب»، فهى أنَّ البلد مُنقسمٌ على ذاتِه حتى النخاع، والاستقطاب يُهدِّد الاستدامة، والمُقاومة من داخل المنظومة لن تتوقَّف عن ارتكاب الأخطاء، وكلّها إشارات إلى فصلٍ جديد من النزاعات الأهلية، أو إلى جولةِ استيلادٍ أقرب لحرب الاستقلال. لن تكون الولايات المتحدة فى المُقبل، كما ألفناها فى الماضى. حقبةُ اليمين تكتسحُ العالم، والدولةُ التى صدَّرت نُسخَه الحديثة للجميع، وعَولَمَتْها، وسرَّبت خطاباتها فى كلِّ شىء تقريبًا، من السياسة إلى السلاح والفنون والتجارة والنظام الدولى القائم على القواعد، ستختبرُ مرحلةً إجباريَّةَ لا مَهربَ منها: أكان مع الضارى وغير المُروَّض السيد دونالد، أم مع الوديعة المُستأنَسَة السيدة هاريس.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة