ما زال عدد من محللى الحال السياسى يعيشون تناقضا فى الرؤية، بل وكثير من الأحيان يخطئون الرؤية، بمزاعم بناء الديمقراطية ينخرطون فى تأييد الميليشيات الإرهابية، لمجرد أنهم يريدون الظهور فى صورة أنصار الحرية، وكأنهم لم يشاهدوا ويتابعوا ما يجرى فى الإقليم طوال أكثر من 13 عاما، وربما قبلها، عندما أسفرت دعاوى الحرية والتغيير عن أكثر التنظيمات الإرهابية دموية، وبينما اختفى ما يسمى الجيش السورى الحر وباقى دعاوى التفكيك، ارتفعت الرايات السوداء وأعلن أبو بكر البغدادى عن دولة الخلافة المزعومة، وانتزعت الجماعات المسلحة مساحات من الأرض، وسرقت البترول والآثار والثروات فى سوريا والعراق وليبيا، قبل أن تتراجع فى عام 2018، وهو ما بدا طريقا لمسارات سياسية تم تعطيلها لأن الإرهابيين سعوا إلى دخول المسار السياسى، مع الاحتفاظ بالسلاح.
بعد أكثر من عقد من الصراع والحروب الأهلية بالوكالة، لم تتحقق أى نتيجة غير مئات المليارات من الخسائر، وآلاف القتلى والجرحى وملايين اللاجئين، ولم يستفد من هذا سوى المرتزقة وتجار الحروب والسلاح، واختفت مطالب التغيير نفسها ودفنت تحت أنقاض المبانى وخلف دخان الانفجارات.
من هنا يمكن النظر إلى الدخول الظاهر لإرهابيين من النصرة، أو فلول داعش وغيرها إلى سوريا ضمن تطورات إقليمية وحرب لم تتوقف، وغليان يمثل تحولا واسعا فى سياقات الأحداث، وسبق أن رفض تنظيم داعش دعوة أيمن الظواهرى رئيس القاعدة، بالانضمام إلى التنظيم، بينما تبادل التنظيمان التكفير سعيا إلى احتكار التمويل، وبجانب أن هذه التنظيمات لم تتخذ أى خطوات تجاه نصرة القضية الفلسطينية، فقد لعبت ولا تزال دورا فى خدمة ممولين أو دول لها مصالح، توظفه من أجلها هذه الميليشيات، التى أصبحت ضمن حروب بالوكالة.
الظاهر حتى الآن أن هذه التنظيمات فقدت بعض مصادر الدعم والتمويل وملاذات، وأصبحت تقوم بغارات تهدف إلى الحصول على تمويل، ولم تعد بنفس قوتها السابقة، حيث يتم تجميع الفلول كل فترة، وخلاياها الكامنة، للقيام بعمليات حسب الطلب، وفى سوريا تأتى تحركات هيئة تحرير الشام، وهو الاسم الجديد لتنظيم القاعدة والنصرة، تأتى ضمن إسناد جبهة الاحتلال، حتى لا تتم أى تحركات باتجاه التقاطع مع الحرب فى غزة.
وحسب ما هو معلن من بيانات سوريا، فقد تمكنت قوات الجيش السورى من القضاء على عشرات المسلحين التابعين لما يسمى هيئة تحرير الشام فى محيط بلدتى دير الزور وريف حماة الشمالى، وتحاول تدعيم الخطوط الدفاعية والإسناد على المحور الشمالى بريف حماة تمهيدا لبدء الهجوم المضاد ضد التنظيمات الإرهابية فى تلك المنطقة، كما واجهت هجمات من الميليشيات فى مناطق مختلفة، كما أعلنت قوات سوريا الديمقراطية «قسد» السيطرة على عدة قرى فى ريف دير الزور الشرقى، تلبية لنداء الأهالى إثر تزايد المخاطر المحتملة باستغلال تنظيم داعش للمعارك الدائرة فى الشمال السورى، ومعروف أن قوات «قسد» هى تحالف يقوده الأكراد فى شمال وشرق سوريا مدعوم من الولايات المتحدة، لكنها مرفوضة من تركيا.
ومن خلال رصد التطورات فإن هناك معارك متواصلة، وفيما يتعلق بالسياق السياسى أكدت هيئة التفاوض السورية على ضرورة استثمار التطورات فى سوريا سياسيا، لتفعيل العملية السياسية، مع ضم كل الروافد السياسية، مع استمرار الاتصالات مع الجامعة العربية والأمم المتحدة من أجل الدفع نحو بدء حل سياسى حقيقى وشامل، مع وجود تنسيق ولقاءات بين وزراء خارجية إيران وتركيا وروسيا فى إطار «عملية آستانة» يومى 7 و8 ديسمبر الجارى لمناقشة الملف السورى. من جهتها نفت وزارة الدفاع الأمريكية، تورطها فى العمليات التى تجرى فى شمال غربى سوريا، من ما يسمى هيئة تحرير الشام.
كل هذه التطورات تعيد التأكيد على خطر الصراعات والحروب التى لا تنتج سوى المزيد من الخسائر، ولا حل سوى المسارات السياسية أيا كانت صعوبتها، ويبقى الخيار الأفضل للحفاظ على ما تبقى، لكن ضمن العقبات، حجم التشتت فى التيارات السياسية التى تتوزع بين تكوينات صغيرة، تتبع كل منها جهة إقليمية أو دولية، والمحافظة على نواة الدولة فى سوريا كمقدمة لمزيد من الخطوات، وقد أثبتت السنوات الماضية أن الحروب تلد المزيد من الصراعات، ولا يمكنها إتاحة أى فرصة لمسارات سياسية، وأن تجار الصراع والمرتزقة هم فقط الرابحون من ماكينات الحروب بالوكالة.
وهى حقيقة تؤكدها تجارب دول ذهبت إلى الحرب ولم تعد، والأمر يحتاج إلى تفهم لعلاقات وتشابكات معقدة ومتقاطعة، وتبقى مسارات السياسة مهما كانت صعوبتها بديلا عن ديمقراطية «ميليشيات الدفع الرباعى».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة