انطلق موسمُ الدراما الأكبر والأهمّ. ربما منذ الثمانينيات صار رمضان نافذةً نوعية؛ لكنّه اتّخذ فى العقدين الأخيرين هيئةً شديدة الكثافة والزخم، والنسخةُ الحالية قد تتفوَّق على كل الأعوام السابقة، لناحية العدد والتنوُّع وشرائح الإنتاج. الصناعةُ شهدت انتعاشًا واضحًا فى السنوات الأخيرة، حتى وصل إنتاجُها إلى نحو ستين مسلسلاً أو يزيد، يُعرَض نصفُها تقريبًا خلال الشهر ويتوزّع النصفُ على بقيّة السنة. والشركةُ المتحدة للخدمات الإعلامية أنشطُ الفاعلين فى السوق، بأعمالها المُباشرة أو ما تنجزه مع باقةٍ طويلة من الشركات المُتعاونة، ما يجعلُ خريطتَها عنوانًا صالحًا لاستقراء الحالة الدرامية، وتقييم المستويات التى بلغتها فنيًّا وتجاريًّا. وهى تُنافسُ بالأصالة عبر خمس شاشاتٍ ومنصّة رقمية، ويمتدُّ توزيعُها الخارجى إلى منصّاتٍ عديدة إقليميًّا ودوليًّا، وقد صارت مع نموِّ تجربتها منذ التأسيس فى 2016 القوةَ الضاربةَ فى المجال، وصاحبةَ الحضور الأوسع والأكثر تأثيرًا واستدامة.
ترقّت التجربةُ عبر سلسلةٍ طويلة من النجاحات، فى الموسم الرمضانى وخارجه؛ إلى أن تكاملت إمكاناتُها ونضجت رُؤاها، وصاغت استراتيجيّةً واضحة فى الأفكار والمضامين وتحقيق الأعمال بصريًّا، وفى الرهان على الشباب، وإعادة اكتشاف النجوم خارج بيئاتهم التقليدية الآمنة. لقد حقّقت قفزات جماهيرية فى سنواتها الأُولى بأعمالٍ من نوعيّة: ثلاثية «كلبش»، لمس أكتاف، زلزال، حكايتى، وفوق السحاب وغيرها. لكن 2020 كان عامَ ذروةٍ فى الذيوع والتأثير، لا سيما مع النسخة الافتتاحية من «الاختيار»، ثم ما تلاه من عناوين مُتفاوتة فى رهاناتها الجمالية والتعبيرية، وصولاً لرمضان 2023 بجماهيريته القياسية فى «جعفر العمدة» مثلاً، وحالة الفُرجة المُتقَنة فى: جزيرة غمام وسوق الكانتو وجت سليمة، والبهجة فى: الصفارة والكبير قوى، والرسالة فى «الكتيبة 101» و«حرب» وصولاً إلى الانتقائية والعُمق المقصودين فى «رسالة الإمام»، والجدية والوظيفية الفاعلة اجتماعيًّا فى «تحت الوصاية».
ما كان فى العام الماضى يبدو حاضرًا بقوّة ضمن خريطة الموسم الجديد؛ وإنْ بتنوُّعٍ أكبر وتخطيطٍ أكثر وضوحًا. بدا فى السابق أن الشركةَ تُراهن على الصناعة بمنطقٍ يستندُ إلى مُعادلة الجدوى فى الاقتصاد والتأثير، وتسعى لتفكيك عُقدة العلاقات المُشوَّهة التى حكمت السوق طويلاً؛ لجهةِ هيمنة النجوم على العملية الفنية من الفكرة إلى غُرف المونتاج، وانحسار فرص تصعيد مزيدٍ من المواهب والطاقات؛ بما يُثرى الساحة ويضعُ العملَ قبل البطل، والأهمّ ألّا يكون الموسمُ سيفًا على الرقاب، بما ترسَّخ فيه من معايير فرضتها الوكالاتُ الإعلانية، وأخطرها أن تُغطّى القصّة كاملَ الشهر ولو لا تحتمل، وبغَضّ النظر عن احتياجها الموضوعى وصلاحيتها للتطويل والمُبالغة فى الزمن؛ فالجميع يُقرّرون تعبئة ثلاثين حلقة، ثمّ يُطوّعون الورقَ بالمطّ والحشو والثرثرة. وعلى مدار السنوات الأخيرة شقَّت «المتحدة» مسارًا إصلاحيًّا، فمن ناحيةٍ أعادت ضبطَ المنظومة وتفعيل سلطة الكاتب والمخرج والمُنتِج، بعدما كانت ضائعةً أمام سطوة النجم ونزواته الساعية إلى إطلالةٍ مُهيمنة، كما خلقت مواسمَ مُوازيةً لرمضان، وفتحت الباب للبطولات الشبابية، وأصبح التكثيف وشدّ أوتار السرد معيارًا لاختيار الأعمال، بعيدًا من قانون الثلاثين حلقة وعشرين ساعة درامية. القصةُ التى تُروَى فى عشر حلقات لن تمتد لأبعد من نطاقها الحيوى، وقد حقّقت تجاربَ من 10 حلقاتٍ فقط مثل: حرب، بالطو، حالة خاصة، وأخرى امتدَّت لعشرين: «الكتيبة 101» رمضان الماضى، و«بقينا اتنين» الشهر الجارى، قبل أن تُختزَل منه خمسُ حلقات، وتُجاوره فى الموسم الجديد عشرُ مسلسلاتٍ قصيرة مُقابل تسعة فقط طويلة.
بدأ العرضُ توًّا، ويصعبُ عمليًّا الحكمُ على مسلسلٍ من حلقةٍ أُولى؛ أو حتى عدَّة حلقات. لكنّ بعضَ العناوين قد تكشف عن مكنون جواباتها، والخبرات القديمة مع الصنّاع تُبشِّر بما فى الجديد من صنعة، وسوابق كثيرين من المشاركين فى الموسم تُرجِّح أن نلتقط عناصرَ لامعةً فى كثيرٍ من الأعمال. لناحية الكتابة فإن أسماء مثل: محمد سليمان عبدالمالك ومحمد سيد بشير وأنور مغيث وعبدالرحيم كمال يصحُّ الرهان على رُؤاهم، وطرائقهم فى بناء الحكايات وتقصِّى خيوطها، وفى الإخراج مُتحقّقون من عيِّنة: مجدى أبو عميرة وأحمد نادر جلال وعمرو عرفة وشيرين عادل وإسماعيل فاروق وخالد مرعى وهانى خليفة، وصاعدون تركوا بصماتٍ لامعةً فى السابق: إسلام خيرى ونادين خان ومحمد سلامة، أمّا مروحةُ التمثيل فتتّسعُ من المخضرمين: الفخرانى وميرفت أمين وخالد النبوى.
وألمع مواهب جيل الوسط: ياسر جلال ومصطفى شعبان وكريم عبدالعزيز وأحمد مكى وآسر ياسين. وإلى المُتألّقين بتصاعدٍ وحيويّة: دياب ودينا الشربينى وأحمد داش وعصام عمر. وكلّها عناصر تُثير التفاؤلَ وتُحفّز على المتابعة، ويُمثِّل الواحدُ منهم وعدًا مُطمئنًا بالاجتهاد والإبداع، وبعضُهم صاروا مع الزمن وتوالى المحطات علامةً للجودة وعنوانًا على النجاح الراسخ والمضمون.
بشكلٍ شخصى أُراهن على الصورة.. فالناظرُ بعُمقٍ فى قائمة مسلسلات الشركة المتحدة خلال المواسم الأخيرة؛ سيلحظُ طفرةً بصرية واضحة، ترتبطُ بالتقنية وتحديث المعدّات، وبسَخاء الإنتاج والاهتمام بالتفاصيل. لكنها بجانب ذلك موصولةٌ بالمواهب الكبيرة لمُديرى التصوير من ذوى الخيال الخلّاق والعيون البليغة. فى رمضان الماضى برزت عطايا شديدة الجودة والإشباع، لعلَّ أبرزها: بيشوى روزفلت فى «تحت الوصاية»، ومحمد مختار «الكتيبة 101»، وإسلام عبدالسميع «سوق الكانتو»، وحسام حبيب «جت سليمة»، وتيمور تيمور «رسالة الإمام»، وبعضهم حاضرون بالموسم الجديد، وفى مشاريع أُتِيحت لها كلُّ الإمكانات المادية والفنية، كما يُمكن الرهان أيضًا، وبمُنتهى القوّة والثقة، على حسين عسر فى تحقيقه البصرى لتجربة «الحشاشين»، وقد توافرت له مُهلةُ الإتقان والتجويد؛ لطول فترة التحضير والعمل، كما أفاد من الثراء فى الديكور والملابس والانتقال بين عدّة دولٍ فى ثلاث قارات. والوعى المُضاعَف بالصورة قد صار حاضرًا فى أذهان مُخرجين كُثر، حتى أنّ بعضهم شكَّلوا ثُنائيّاتٍ مُستقرّةً ونادرًا ما تتزحزح، كما فى حالة محمد مختار ومحمد سلامة.
ولا يتغافل الصنّاع المهرة عن حقيقة أن للتصوير دلالاتٍ وأبعادًا تعبيرية مُكمّلة للرؤية؛ إنما يُوازنون بين أن يكون المرئى نابعًا من الحكاية ومُتّصلاً بها عضويًّا، وأن يحتفظ بقدرٍ من الانسيابية والجمال فى معماره وتكويناته، وعلاقة الكُتلة بالفراغ وحوار الظلّ مع النور. ثمّة فارقٌ بين القُبح المُعبِّر والمُنفّر؛ حتى لو كان مطلوبًا لرمزيةٍ مُضمَرة، أو لواقعيةٍ مُعلنَةٍ وتأثير نفسىّ مقصود؛ فإنه يُمكن أن يُؤدّى أدوارَه كاملةً دون أن يفقد جاذبيّته وحساسيته الجمالية؛ وهكذا يصيرُ مُزعجًا للعين بقدر الأثر المُراد، ومُريحًا فى الوقت نفسه بما يتناسبُ مع حالة الفُرجة والإمتاع. وعمومًا فإنّ الصورة من العناصر التى تقدَّمت كثيرًا فى الدراما، وصارت من عوامل الثِقَل والإغناء، ومع إيلائها اهتمامًا عاليًا من الشركة، وحضور كتيبةٍ من الموهوبين رفيعى المقام؛ فإنَّ ذلك ممَّا يرفعُ منسوبَ التوقّعات لأعلى ذُراه، ويُجيز الحماسةَ فى ضوء الاهتمام بتفاصيل الصنعة الفنية، واتصالاً بأنّ نُضج المظهر إنما يُترجِم رصانةَ الجوهر أو يُشجّع على مزيدٍ منها، بمعنى أنها مُعادلةٌ طرديّة إذا ترقَّى فيها طرفٌ وتدرّج صعودًا شَدَّ الآخرَ معه، فإمّا تجويد الحكى يتبعه ترفيعٌ للرؤية، أو تحفر التقنيةُ فى وعى مُستخدميها وتُطوِّر أداءهم وأدواتهم فى الرأى والرؤية والخيال.
وما قيل فى الصورة ينطبقُ على الموسيقى. أجندةُ الموسم تحمل تواقيع مُجرّبة ولها رصيدٌ فى الذاكرة القريبة. تتكرّر أسماء صارت معروفةً للناس فى مجالها، كخالد الكمار وخالد حماد وشادى مؤنس وعمرو إسماعيل، وأيضًا أمين بوحافة الذى أنجز علاماتٍ دراميةً مهمّة لنحو اثنتى عشرة سنة من العمل فى مصر، منذ تجربة «باب الخلق» مرورًا بجبل الحلال وطريقى وحارة اليهود وممالك النار وجراند أوتيل وقرابة عشرين عنوانًا غيرها. وما قدّمته المقاطع ُ الترويجية أوّلاً، ثمّ أُولى الحلقات من كل الأعمال، يُضىء على شريط صوتٍ عميق الاتصال بمادة الحكاية ومُتناغم مع صورتها، عبر تيماتٍ لا تخلو من البساطة والمرح، بإيقاعٍ مُتدفّق وجُملٍ جذّابة وتعلقُ فى الأذن بسهولة. وقد تنوّعت تحدياتهم بتنوُّع المضامين وفئات التصنيف، وأجادوا جميعًا فى إنجاز المُعادل المطلوب، بين الخفّة الكوميدية بما فيها من مُواكبة للمفارقات ومواقف سوء الفهم المُولِّدة للضحك، أو الدخول من ناحية شعبية تتشابك فيها ملامح من الفولكلور مع أجواء الشارع ونوعية غنائه الرائجة، والتبدُّل بحرفيّة بين تهدئة الشريط وتوتيره، وخلق حالات تشويقية أو مُربكة نفسيًّا بما يُناسب أجواء الشك والترقّب ومحاولات ربط المشاهد بالموضوع. ولعلّ الأبرز في مقدمات التعارف ما بدا من طابعٍ كلاسيكى مُغلّف بنكهةٍ أسطورية فى «جودر» المأخوذ من عالم ألف ليلة، ومزجٍ بين الحِسىّ والروحانى فى «الحشاشين» بأجواء المُوشّحات والابتهال الدينى وما يُشبه غناء الجوارى فى القصور العباسية، دون إغفال اللمسة العصرية التى تبنى جسرَ الحكاية مع الواقع، وتُحقّق معادلة الإسقاط وانفتاح الدلالات بين الحاضر والماضى.
بالخبرة الشخصية، نحن أمام موسمٍ فيه قافلة طويلة من الموهوبين الكبار فى كل المجالات. ومن دون فُرجة يمكن أن نُشير على مناطق ستكون شديدة التميز فى كل عمل، وبالمُشاهدة قد نستكشف جوانب إضافية من حصيلة تخليط المكونات وضبط مقاديرها. وستكون هناك ملاحظات بالطبع، ولن يخلو الأمر من نقد لخطٍّ فى الدراما أو لتفصيلة فى الصورة والأداء؛ إنما المضمون أن حالة التنوّع لا تُغيِّب شكلاً من السرد ولا نوعًا من الحكايات، كما لا تتعالى على ذائقة الناس أو تُشهِر فى وجوههم دروسًا تربوية ومعايير وصائية على القيم والأخلاق، وكيف تكون البهجة أو تجوز المُتعة. صحيح أنها تُحافظ على حدٍّ من الاتساق مع فلسفة صُنّاعها ورُؤاهم؛ لكنها تستبقى الخيطَ الرفيع الذى يُميّز الإبداع من الخطابة والفن عن الوعظ. والموسم فى أغلبه يضع الأُنسَ والترفيه على قدم المساواة مع القيمة والرسالة، وأحيانا تكون التسلية غايةً مطلوبةً لِذاتها.
قادت الدراما المصرية السوقَ العربية لعقود، وهيمنت عليها طوال الوقت رواجًا وأثرًا؛ باستثناء محطّات مُعينة تقدّم فيها الفنُ السورى منافسًا فى نوعية الأعمال التاريخية، قبل أن ينتكس مع اندلاع الحرب الأهلية هناك وتضرُّر قدراتهم الإنتاجية. وربما بالتزامن عانت مصر من ارتباكٍ شبيه، لا سيما بعد 2011 وخلال فترة حُكم الإخوان وما تلاها من فوضى وإرهاب. لكن السوق استعادت عافيتها فيما بعد وعادت لحجز موقعها القديم، وخلال السنوات الأخيرة تطوّرت فى الكمّ والكيف إلى أن شغلت موقعها الريادى المعهود من دون منافس تقريبًا؛ إذ حتى المنافسة التى يُعوَّل عليها جزئيًّا مع بعض القنوات والمنصّات تُدار بأعمالٍ محلية ونجوم وفرق عمل من المصريين. ربما يكون السباقُ حاليًا مع الدراما الآخذة فى كسب مساحات جديدة بالمنطقة، مثل الكورية والإسبانية وإنتاجات شركات المحتوى المدفوع العالمية الكبرى، وليس حتى مع الدراما التركية التى تراجعت فى السنوات الأخيرة بسبب بُطء إيقاعها وتكرار مضامينها وتقنيات سردها المُملة. باختصار؛ يُنافس المصريون أنفسهم أوّلاً، ثمّ الطموح إلى توسعة حيّز الحضور إقليميًّا وعالميًّا، وأعلنت الشركة المتحدة بالفعل أنها سوّقت أعمالاً مُترجمة أو مُدبلجة لبعض الأسواق الأجنبية. لقد انطلق الموسمُ، وأهل الفن يحصدون ثمار جهدهم الطويل؛ أمّا نحن كجمهورٍ ومُتّلقين فلنا البهجة والاستمتاع. وأعتقد أنه واحد من المواسم التى يتوافر فيها معروضٌ يجعل المُتعة فى متناول اليد، مهما كانت الذائقة والاهتمامات.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة