على غير عادتى فى الكتابة عن الأعمال الدرامية، سأسمح لنفسى هنا أن أبدأ الحديث عن (الحشاشين) من النهاية، أقصد نهاية رؤيتى للمسلسل والحكم عليه وفقا لذائقتى الخاصة، نعم ذائقتي الخاصة، فالنقد وإن تسلح بالعلم والخبرة هو في خلاصته تعبير عن ذائقة الناقد الخاصة، وذائقتي الخاصة تقول إن مسلسل الحشاشين واحد من الأعمال الدرامية التليفزيونية المصرية - بل والعربية – الهامة التي خرجت للنور على مدار تاريخ هذا الفن، والتي أظن أنها ستبقى طويلاً ككل عمل فني حقيقي.
ولأنني بدأت من النهاية، أو قل من إصدار الحكم، فسأسمح لنفسي أيضا أن يأتي تفنيدي لهذا الحكم من النهاية أيضا، أقصد من النهاية الدرامية للمسلسل، أى من حلقته الأخيرة، والتي عنونها الكاتب بـ ( من أنا ؟).
"من أنا" عنوان ذكي لحلقة كاشفة تدعوك للرجوع إلى وراء يمتد إلى الحلقات الثلاثين. والعودة ليست بالضرورة إلى مراجعة ما قد شاهدته، فهو أمر غير متاح للكثيرين. لكنها ستنبهك إلى بذور غرسها الكاتب على مدار الحلقات أثمرت ما يمكن حصاده لفهم ما كان. ما كان سواء على مستوى الدراما أو على مستوى التاريخ ( أو ما يشبه التاريخ ) أو سواء على مستوى الواقع الذي تحياه واحترت كثيرا في تفسيره، خاصة ذلك السؤال الذي يرفض ويلفظ كل إجابة سهلة وهو (ما السر وراء أن يقتنع إنسان بفكرة إلى حد الإيمان ويسير وراءها مغمض القلب والعين حتى وإن كلفته حياته؟).
تبدأ الحلقة الأخيرة – كما كل حلقة – بالعودة إلى مشاهد من حلقات سابقة، يضعها الكاتب والمخرج أمامنا كما الخطوط الحمراء تحت جمل بعينها في كتاب كان وما يزال صعب تفسيره. تبدأ الحلقة – كما كل حلقة – بصوت راوٍ عليم كنا نظنه طوال الحلقات السابقة أنه الكاتب أو المخرج أو على أقصى تقدير شخص ما معاصر يحكي عن شخص وفكرة أعجزت الكثيرين عن فهمها. لكننا سنكتشف أنه أحد شخصيات الحكاية وإن كان من جيل أحدث. إنه سعيد بن الشاب يحي الذى سعى طوال الحلقات إلى الأخذ بثأر أبيه ( المؤذن ) الذي قتله تابع حسن الصباح في أول عملية إغتيال يأمر بها من لقب نفسه بـ ( صاحب مفتاح الجنة )، لتكون هذه العملية هي الترسيخ الأول لفكرة أن القتل مباح مادام لوجه الله ولمقاومة للكفر.
رواية سعيد بن يحيى هي إذن رواية على لسان شخصية ليست تاريخية بناها المؤلف من واقعة حقيقية صغيرة هي إغتيال المؤذن، لكن التاريخ لم يقل لنا أن ذلك المؤذن ترك إبنا سيسعى للأخذ بثأره.
هذه التقنية، تقنية بناء شخصيات ومن ثم أحداث لم يذكرها التاريخ صراحة، هي التي اعتمدها عبد الرحيم كمال في بناء عمله الدرامي مستنداً على ما أباحه القانون الدرامي الأصيل الذي يشترط إما ( الضرورة ) أو ( الإحتمال ). وهو ما تجلى أكثر عمقا في شخصيتي التابعين الأقرب لحسن الصباح، " زيد بن سيحون " و " برزك أوميد" ، الأول إبداع خالص لشخصية لم يذكرها التاريخ ، والثاني غزل من خيط رفيع لشخصية مر بها التاريخ مروراً عابراً.
يقول الراوي (سعيد بن يحيى) بوضوح وجلاء: "هي دي رواية سيدنا حسن الصباح اللي سمعتها من ناس كتير، يمكن ناس منهم بالغوا في كراماته، ويمكن ناس بيتجنوا عليه وبيحملوه بزيادة عن الشر الموجود. لكن في كل الأحوال أنا موجود ومكمل. ".
هذه الكلمات تؤكد ما سبق وأن قلناه . أن الرواية - المسلسل - ليست هي تاريخ ما حدث، إذ أن التاريخ نفسه هو تاريخ منقوص بل ومتعدد الروايات. لكنها اختيار من ثوب مليء بالثقوب حاول عبد الرحيم كمال عبر يحيى بن سعيد أن يرتقها وفق رؤية خاصة لا تناقض ما بقي من التاريخ ولا تقع في الوقت نفسه في أسر وهم صحته المطلقة.
لماذا أؤكد على هذا المعنى بأكثر من جملة ؟ لأنني وببساطة لاحظت أثناء عرض المسلسل أن هناك من حاكموا المسلسل باعتباره يناقض التاريخ، وبعضهم وصل إلى حد وصفه بـ( تزوير التاريخ). وهو ما أثار دهشتي وتساءلت : وأين هو التاريخ الكامل الموثق عن هذه الشخصية ؟ أين هي تلك الرواية التي يمكننا الرجوع إليها كمسطرة قياس نقيس عليها ما يفترض أن بدلّه عبد الرحيم كمال ؟ .. ببساطة لا يوجد.
مع نهاية تقديم الراوي ستبدأ الحلقة من لحظة تستدعي هي الأخرى لحظات سابقة مر بها المسلسل في نحته للشخصية الرئيسية.
وفي محاولة للإجابة عن سؤال ( من أنا ؟) يعود الكاتب بتنفيذ مخرج واع إلى مشهد دال من الحلقة الأولى، حيث حسن الصباح الطفل في بئر يشبه كثيرا بئر يوسف الذى ألقى فيه بأياد إخوته، هنا سيظهر حسن الصباح في مرحلته قبل الأخيرة ناظراً إلى البئر وإلى الطفل متسائلاً " أنا فين؟ " فتجيبه المرأة المتخيلة ، تلك التي تشبه الأولى التي أنقذته طفلاً من بئر الموت لتلقي به في بئر الظلمة. شخصية متخيلة، ربما هي بنت أفكار الصباح الخاصة، في جانب منها تشبه ساحرة من ساحرات ماكبث، تمنحه النبوءة وتمهد له الطريق. وفي جانب أخر هي "مفستوفيليس" الذي صك عهداً مع فاوست يمنحه القوة والجاه والسطوة والعلم مقابل روحه التي سيلقي بها إلى الجحيم في نهاية الرحلة. يسألها حسن الصباح " أنا فين ؟ " فتجيبه: " في مُلك حسن الصباح " يجيبها : " ملكي ؟ بس ده ضلمه ! " تتجاوز المرأة عن التفسير وتسأله : " إيه طلبات حسن الصباح؟ " فيجيبها : ابني الحسين، دنيا زاد ، الهادي" تجيبه : " أنت قتلت الأول ، وأرسلت من يقتل الثانية ، والثالث يسئل عنه برزك يوميد" وكأنها تقول أنت الأن تجني ما غرسته يداك. يجيبها : " أنا معملتش كل ده ، اللي عمل كل ده مولانا حسن الصباح"!.
إجابة حسن الصباح هنا تكشف ما حاول الكاتب طوال الحلقات السابقة أن ينسجه، حسن الصباح هو صنيعة حسن الصباح، صنيعة طموحه اللا حد له، صنيعة إيمانه المغلوط بقدرته، ثمرة بذرة الحقد والرغبة اللاوعية في الإنتقام ممن ألقوا به في غيابات الجب وتحميل العالم أجمع وزر هذه الخطيئة. وهنا مع لحظة الإكتشاف المتأخر اللا مجدي يطلب حسن الصباح المستحيل ، يطلب حسن الصباح الذي كان أو بالأحرى الذي يتمناه، فتجيبه المرأة " بس أنا هربتك منه " في إشارة وتذكير بالصك ، صك بيع الروح مقابل النجاة من بئر الظلمة. يصر حسن الصباح على طلب مقابلة حسن الصباح، فتحذره المرأة التحذير الأخير " هايقتلك " لكنه يصر. هنا يظهر حسن صباح أخر فارسا يرتدي الأبيض مقابل أسود الأول، يتواجهان، الأول بنظرة شوق لحبيب غاب طويلا والثاني بنظرة غضب على خيانة كانت سببا في ضياعه. ولا يتردد الثاني في قتل الأول.
بنهاية هذا المشهد الحلم نعود إلى مشهد واقعي حيث حسن الصباح في عزلته بعد مرور سنوات طويلة تشهد عليها تجاعيد الوجه والعينان الغائرتان الذاهلتان و الأبيض الذي غزى الرأس واللحية. هنا سنتلمس زحف الجنون إلى عقل وروح رجل كان يظن أنه يستطيع حكم العالم متسلحاً بإيمان بالذات وبالفكرة ، مدعوماً بأتباع صدقوا أنه رسول الإمام إليهم .
" مين ؟ مين بينده على حسن ؟" هذا أول ما سينطق به حسن الشيخ الهرم. سؤال شغله طوال سنوات العزلة مصحوبا بسؤال أقسى "مين حسن الصباح ؟. هل هو حقا الإمام ، أم عبد صالح ، أم عبد عاص، أم أنه هوالرب نفسه؟).
أسئلة الصباح وبأداء كريم عبد العزيز المتقن وبزاويا تصوير وإضاءة يضيفان أجواء أسطورية على المشهد، تضع الأيادي والعقول على قلب المسلسل. وتقترب بحذر يليق بالأسئلة الكبرى عن النفس البشرية وتقلباتها. وتؤكد من جديد على أن المسلسل لم يكن يستهدف رحلة توثيقية عن شخصية وأحداث تاريخية ، بل كان مجرد تكئة لقراءة حاضر يزداد غيمه وغموضه كل يوم.
وكما قال التاريخ يموت حسن الصباح موتة طبيعية لا مطعوناً ولا مسموماً، لتبقى فكرته سارية حتى الآن. بل إن قلعته قاومت غزاتها لأكثر من مائتي عام. ليطرح السؤال نفسه على المهتمين ( أي قوة تلك التي جعلت الفكرة والقلعة صامدة كل هذا العمر؟ ). وهو السؤال الذي أظنه كان الدافع الأساسي لكاتب يرفض كما كل مبدع حقيقي الإجابات السهلة. والأهم أنه لا يدعي أنه يمتلك الإجابة اليقين.
وكما توقعنا، ستعوقنا المساحة عن الاسترسال في تفسير التفاصيل. لكنني أردت الإشارة ولو باختصار أتمناه غير مخل، لما أعتقد أنه قلب العمل، ولذلك بدأت من النهاية.
لكنني لن أستطيع الكف قبل الإشارة إلى بعض العناصر التي منحت العمل قوته. ومنها وعلى رأسها إخراج بيتر ميمي الذي يكشف عن تطور هائل وعن فهم حقيقي لهدف المسلسل وعن قدرة هائلة في الإهتمام بالتفاصيل. ومنها الأداء التمثيلي الذي حقق – في أغلب الأدوار – القاعدة الذهبية التي تقول ( كل شيء بقدر) لا أكثر ولا أقل. فجاء أداءوهم جميعا – بإختلاف درجات الموهبة والخبرة – يحقق المطلوب منه. وهنا لن نستطيع أن نتجاهل أداء كريم عبد العزيز الذي عشق الشخصية وبرر لأفعالها وصدق أو إقترب من تصديق ما صدقه حسن الصباح عن نفسه. ولعل الحلقة الأخيرة تمنح وحدها كريم عبد العزيز جائزة خاصة وتوقعه في مأزق السؤال ( وماذا بعد ؟ ).
لا يمكن أيضا تجاهل مهندس الديكور (أحمد فايز) الذى أظن أن منصة الجوائز – في أي مسابقة حول دراما التليفزيون – لن تستطيع تجاهله، ومعه مدير التصوير(حسين عسر) الذى منح الحوار وإنفعالات الشخصيات بروزاً يليق بهم عبر إضاءات مختارة بعناية، وبوعي يفرق بين أجواء داخل القلعة وخارجها وبإقتراب وإبتعاد محسوبين بدقة سواء للوجوه أو الأيادى أوالعيون.
عمل كهذا لا يمكن أن يكتمل نضجه بغير تنفيذ مدقق للمعارك وإعطاء الإحساس بقسوة الحروب وتحكم متقن في حركة مجاميع تضع المسلسل بجدارة مع أعمال يصفونها بالعالمية.
وفي الأخير نقول إن الحشاشين وبما أثاره من جدل - قبل عرضه وأثنائه وبعده - يقول وبجلاء ( نعم .. نحن نستطيع ). فكل التحية للشركة المنتجة التي سيواجهها أيضا السؤال المأزق (وماذا بعد)؟ وأظن أن نجاحهم في الحشاشين سيمنحهم الثقة والإرادة في عمل جديد يليق بهذا النجاح ويجعلهم يرفضون من النصوص ما هو أقل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة