وائل السمري يكتب: جودر مسلسل على قدر الأسطورة.. استخدمت شهرزاد الحكاية لتقاوم شهريار ونستخدمها الآن لنقاوم التردي الفني والأخلاقي.. بفضل المتحدة وميديا هاب وأروما وقفنا على قدم المساواة مع الأعمال العالمية

الأربعاء، 03 أبريل 2024 11:58 ص
وائل السمري يكتب: جودر مسلسل على قدر الأسطورة.. استخدمت شهرزاد الحكاية لتقاوم شهريار ونستخدمها الآن لنقاوم التردي الفني والأخلاقي.. بفضل المتحدة وميديا هاب وأروما وقفنا على قدم المساواة مع الأعمال العالمية مسلسل جودر

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لن أستطيع أن ألخص شعوري أثناء متابعة مسلسل "جودر" في الحيز الضيق لكلمة الإعجاب، أو الحيز المبالغ بجملة "عاملين عظمة" التي يرددها الكثير من المتفاعلين على مواقع التواصل الاجتماعي، وإن أردت تقريب المسألة سأقول دون مبالغة في إظهار الإعجاب أو تقليل من شأن العمل أني شعرت بشعور المغترب حينما يصل إلى أرض الوطن، فأخيرا لدينا مسلسل على قدر عظمة الأسطورة، وأخيرا لدينا عمل يضاهي الأعمال العالمية التي نشاهدها مندهشين من روعة الإخراج والتنفيذ، وأخيرا لدينا مسلسل على قدر الخيال الذي ترسمه كلمات ألف ليلة وليلة، إن لم يكن أبلغ وأجمل، وهكذا يتحقق المأمول بأن يكون العمل الذي نراه على الشاشة قيمة مضافة إلى العمل الذي قرأناه واستمتعنا به.


على مدار التاريخ الفني منذ اختراع الشاشة البيضا كانت ألف ليلة وليلة تحديدا من أهم التحديات التي يخوضها صناع أي عمل درامي، ففي ألف ليلة وليلة خيال فوق الخيال، وخيال تحت الخيال وخيال بين هذا وذاك، فهذا عمل استثنائي بمعنى الكلمة، عمل من الصعب بل من المستحيل حصر تأثيره على العالم، وإن أردت أن تضع قائمة بالتأثيرات المباشرة لألف ليلة وليلة على كتاب العالم ستجد أن أغلب كتاب العالم قد تأثروا بها بداية من تشارز ديكنز وجوتة وإدجار آلان بو، وحتى هنري فيلدنج ونجيب محفوظ وجون بارث، وبورخيس، وسلمان رشدي، وبوشكين، وتولستوي، ومارسيل بروست، كما أن شخصياتها الشهيرة مثل علاء الدين وسندباد وعلى بابا وشهرزاد، أصبحت جزء من تراث الإنسانية، واشتهرت مقولاتها بشكل عالمي أيضا مثل مقولة "افتح يا سمسم" التي يفهمها كل من على وجه الأرض كما أصبحت مادة ثرية وخلابة للكثير من الأفلام السنمائية وأفلام الرسوم المتحركة التي تناولت شخصياتها مثل فيلم علاء الدين بنسخة المتعددة، وكذلك الأفلام التي صنعت لرحلات السندباد، وفيلم لص بغداد، وكذلك شخصية بوباي التي استمدت شهرتها من لقائها بسندباد.


وامتد تأثير ألف ليلة حتى وصلى إلى الأدب الياباني الذي ترجم ألف ليلة في وقت مبكر من القرن التاسع عشر، حتى اعتبرها الجمهور الياباني الكتاب الأكثر جاذبية في العالم، فأثرت في العديد من أدبائه المشاهير مثل هيناتسو كونوسوكي وهاكوشو كيتاهارا وموكوتارو كينوشيتا وهاروكي موراكامي، وامتدت تأثيرها إلى الأدب الهندي الذي صنع منها عشرات الأفلام والمسلسلات، ولا يقف تأثير ألف ليلة على صناع الدراما فحسب، بل ألهمت أيضا مئات الفنانين التشكيليين ومئات الموسيقيين حول العالم، وبفضلها صارت مدنا مثل القاهرة وبغداد والبصرة من أشهر المدن.


كان من دواعي الحرج أن أرى كل هذا التأثير لألف ليلة وليلة يمتد من أقاصي الأرض إلى مغاربها، في حين أننا لا نستفيد من هذه الزخيرة الفنية العظيمة إلا في أضيق الظروف، وكان من الصعب أن أقنع أبني وقت عرض فيلم "علاء الدين" أن أصل هذه القصة عربي، برغم أن الأغنية الافتتاحية للفيلم تحمل اسم "الليالي العربية" فهو لا يرى لهذه القصة أصل في ذاكرته سوى صورة ويلم سميث ومينا مسعود بلسانهما الإنجليزي المبين.


غير أن هذا الحرج الآن قد تلاشى تماما بفضل الإنتاج الواعي للشركة المتحدة وميدياهاب وأروما وفي الحقيقة فإني أشكر تلك اللحظة المنيرة التي اتخذ فيها القرار بأن يتم إنتاج هذا العمل الجبار بهذه الإمكانيات الكبيرة وهذه الجودة الفائقة، فمن غير المعتاد أن نرى تسخيرا لكل هذه الإمكانيات لعمل يصنف عادة إنه للأطفال، لكن الحقائق تقول إن بمثل هذه الأعمال ترتقي العقول ويحفز الخيال وينتمي الفرد إلى ثقافته ذات المشارب المتعددة والأوجه المنيرة.


يطيب لي هنا أن أعتبر هذا العمل الفاتن أحد أهم الإنجازات الثقافية التي حدثت مؤخرا، فجنبا إلى جنب يقف "جودر" مع احتفال "موكب المومياوات" ليعبرا عن وجه ناصع من تاريخنا المبهر وحاضرنا الواعي، وتجدر الإشارة هنا إلى انتقاء هذه الحكاية من حكايات ألف ليلة وليلة والتي تقع تحديدا في الليلة الـ 606 حتى الليلة 624 قد أتى بالكثير من التوفيق، فهذه الحكاية المعنونة بـ "حكاية جودر الصياد وأخويه" تقع تحديدا في مصر، ويأتي بها ذكر الكثير من الأماكن المصرية مثل القاهرة والسويس، ولا أبالغ إذا قلت إن المعالجة التي قام بها الكاتب أنور عبد المغيث كانت على درجة كبيرة من الإتقان والإحاطة، فهو لم يخرج عن روح الحكاية الأصلية وتفاصيلها وشخصياتها، لكنه في ذات الوقت أضاف الكثير من عناصر التشويق والإبهار، بما وضع جودر على قدم المساواة مع الكثير من أبطال الأساطير الأكثر شهرة مثل علاء الدين وسندباد في الثقافة العربية، وأوديسيوس بطل ملحمة الأوديسا في الثقافة اليونانية، والحكيم آني بطل الحكايات الفرعونية.


استخدمت شهرزاد في ألف ليلة وليلة الحكاية كسلاح تقاوم به ملك غاضب من خيانة زوجته، فوقفت متسلحة بحكاياتها أمام سيف السياف المتعطش للرقاب، وها نحن نستخدم ذات الحكاية لنقاوم بها الكثير من التردي الفني والأخلاقي السائد الآن، فهذا العمل ليس عملا دراميا عاديا، لكنه وجبة ثقافية مكتملة وجميلة في آن، بها نستطيع أن ننمي أوراح أبنائنا بالثقافة العربية الأصيلة عبر حبكة درامية راقية، وموسيقى تقتبس من التيمات العالمية وتضيف إليها وعيا جديدا بروح عصرية وأصيلة، وملابس متقنة تضعنا في أجواء أساطيرية، وديكورا محلقا في سماء الأسطورة فيأخذ منها ويضيف إليها، وخدع تصويرية تحقق الإنجاز الأكبر في تاريخ الخدع السينمائية فلا تظهر باعتبارها خدعا وإنما باعتبارها واقعا من فرط إتقانها.


الأكثر جمالا في هذه هذا العمل المتكامل هو أنه  يقدم نموذجا مثاليا لشخصية البطل المصري ابن البلد التي أداها الفنان الكبير ياسر جلال بإتقان وسلاسة، ليعيد إلينا النسق الأخلاقي الجميل الذي تربينا عليه للشخصية المصرية الصبورة الحمولة القوية المتسامحة الذكية، في سينفونية فنية تحمل توقيع المخرج المبدع "إسلام خيري" الذي استثمر النجاح الكبير الذي حققه في مسلسل "جت سليمة" العام الماضي، فإضاف لتاريخه عملا خالدا، وأضاف إلى ذائقتنا رقيَّا كنا نشتاق إليه.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة