كانت مصر خارجةً لتوِّها من امتحانٍ صعب. ثار الملايين على الرجعيّة، وتحصَّنت إرادتهم بموقفٍ صُلب من مُؤسَّسات الدولة الراسخة، وقضوا بعدها عامًا من الفوضى التى صنعتها جماعةُ الإخوان واستثمرت فيها. وعندما جاء السيسى رئيسًا بأغلبيةٍ كاسحة، كان أوّل ما فكَّر فيه أن يُوطّد تحالف القوى الوطنية ويعيد اللُحمة لنسيج المجتمع، مُقاومًا محاولات تفسيخه من الداخل ونقضه من الخارج. وعلى دعائم تلك الرؤية جرى تنظيم إفطار الأُسرة المصرية للمرّة الأُولى، بعد أسابيع قليلة من تولّيه المسؤولية، وفى خضم معركة مفتوحة مع الإرهاب وجهود لا تهدأ لتثبيت الدولة، وخَلق توازنٍ جديد إزاء موجة الشحن والانحياز ضد 30 يونيو. وبتنظيم النسخة الأحدث من المائدة الجامعة قبل يومين، لا تُؤكِّد القيادة السياسية تمسُّكَها بأحد ملامح الانتصار على المُؤامرة فحسب؛ إنما تُجدِّد الحفاظ على مُكتسبات اللحظة الوجودية الفارقة، فى الرخاء كما فى وقت الشدة، وتحت لافتة الأمن والاستقرار مثلما كانت إبان الرخاوة والاضطراب.
بُنِيَت رمزيّةُ الحَدَث وقتها على أنَّ الرباط الذى يجمع المصريين يتجاوز أُفق السياسة ومُناكفاتها، ومعياره الوحيد أن تلتئم الأسرةُ على مائدةٍ واحدة، من دون اعتباراتٍ شخصية أو خروجٍ على الصالح العام. ومن سنةٍ لأُخرى اتّسعت الدائرةُ وتبدَّلت عليها الوجوه، وخرجت من رحمها أفكارٌ ومُبادرات سعت لمُداواة الجراح وتجفيف آثار النزيف، ولتطوير الرؤى وبرامج العمل فى السياسة والاقتصاد والاجتماع، وصولاً إلى ترميم «تحالف 30 يونيو» وتخليصه من رواسب الشِّقاق والانحرافات التى زرعتها الأُصولية الدينية، لا سيما جماعة الإخوان بمناوراتها العديدة، من تعديلات الدستور 2011 مرورًا بالتلاعب بكلِّ التيّارات فى انتخابات البرلمان والرئاسة، وإلى الهيمنة الكاملة على الحُكم ومُحاولة اختطاف الدولة ومَرافقها. وكانت ألمع تجلّيات المُلتقى الرمضانى فى نسخته قبل سنتين، عندما دعا الرئيسُ لتنظيم حوارٍ وطنى مُوسَّع، يُثير كلَّ القضايا، ولا يستثنى أحدًا إلّا من تلوَّثت أياديهم بالدماء، وعلى مدى سنتين أنجزت الورشةُ الحوارية جولتين مُهمَّتين، ورفعت رُزمةً من التوصيات للرئاسة، وتتأهّب لاستكمال مسارها بعدما جدَّد الرئيسُ الدعوةَ لذلك مرَّتين فى غضون أسبوع.
قبل خمسةِ أيامٍ فقط من الإفطار، أدَّى السيسى اليمين الدستورية لولايته الجديدة أمام مجلس النواب، فى مقره بالعاصمة الإدارية. وتناول فى بيانه ملامحَ المرحلة التى تمتدّ للعام 2030 عبر سبعة محاور، بدأت بالأمن القومى، ثمّ الحوار الوطنى، وملف أولويات الاقتصاد، والإصلاح المُؤسَّسى الشامل للموازنة واستدامة الدَّيْن العام، ومحور الثروة البشرية وبناء الإنسان، والأمان الاجتماعى، وأخيرًا استمرار استراتيجية التنمية العمرانية ومشروعات الإسكان والمناطق غير المُخطَّطة. وفى كلمته على المائدة الأُسرية صاغ الشواغلَ نفسَها فى أربعِ نقاط، مع اختلاف الترتيب بما يُلائم السياق الاجتماعى والشعبى للقاء؛ فبدأ بالإصلاح الاقتصادى، وتوطين الصناعة ودعم القطاع الخاص والحماية الاجتماعية، وعبر على الحوار والانفتاح السياسى وتمكين النساء والشباب وقضية بناء الإنسان، ليختتم بالسياسة الخارجية وتوازناتها، فى ضوء مركزية الأمن القومى وثوابت الرؤية المصرية الساعية للسلم والاستقرار واحترام إرادة الشعوب. وإذا كان فى حديثه بالأسبوع الماضى يُخاطب السلطتين التشريعية والتنفيذية بحسب الترتيب الطبيعى للأولويات؛ فإنه خاطب فى الإفطار اهتمامات الجمهور وروّاد الساحة السياسية، وفق ما يُرتّبونه من أجنداتهم وما يتطلَّعون إليه فى علاقتهم بالدولة، وعلاقة الدولة بهم.
التباينُ فى تتابُع الأهداف بين الخطابين لا يُشير لاختلافٍ على الغايات العُليا؛ بقدر ما يُعبِّر عن مسارٍ أُفقى يتحرَّك إزاء القضايا كلّها بوتيرةٍ واحدة. بمعنى أنه ترتيبُ السياق ومجال الحَدَث، ما بين سُلطة الدولة فى حفل التنصيب، ومُكوّنات المجتمع على مائدة الإفطار. لكنّ الخُلاصة أنَّ القيادة ومن خلفها شبكة المُؤسَّسات المعنيّة تتعاطى مع المحاور بدرجةٍ واحدة من الاهتمام، وتشتغل عليها دفعةً واحدة، ليس للإلحاح الذى يفرضُه الظرفُ الداخلى والخارجى فحسب؛ إنّما لأن الأفكار كلها مُتشابكة ويُكمل بعضُها بعضًا. فتنشيطُ المجال السياسى ضرورةٌ لإنعاش الاقتصاد، وتعافى السوق مطلبٌ ضرورى لصيانة المصالح الاستراتيجية، وحالُ التنمية والخدمات وترقية الفئات الأولى بالرعاية بمثابة الوقود الذى لا تسيرُ المنظومة أو تنضبط فى غيابه. وهكذا يُؤكِّد الرئيسُ من المناسبة التى كانت عنوانًا على الصلابة الوطنية فى زمن المحنة، أنَّ الميثاق الذى انبنت عليه حالةُ الإجماع ضد الرجعية والإرهاب، بحثًا عن فضاءٍ مدنىّ عادل يُؤسِّس لتجربةٍ ديمقراطية سلمية وناهضة، ما يزالُ الغايةَ الأسمى التى تستهدفها كلُّ الفعاليات المُؤسَّسية والإجرائية، مع انضباط ذلك بمعيار الوفاق الذى يتحقَّق فى ورشة الحوار الوطنى، ويضمنُ بقاءها ومُواكبتها الفعَّالة للمسيرة المقبلة.
فى أهمِّ نُسَخ الإفطار قبل سنتين. حلَّت وجوهٌ من كلِّ القوى السياسية، فيما يُشبه إعادة البعث لحالة يونيو بصورتها الجامعة. وأعلن الرئيسُ فى كلمته ثلاثةَ عشر تكليفًا للحكومة، تضمَّنت الالتزام بإطلاق خطَّة لمواجهة الأزمة الاقتصادية، ومبادرة لدعم وتوطين الصناعة، وتحفيز العمل الأهلى مع إرساء منصّة تفاعُليّة لتنشيطه ورَفده بتسعة مليارات جنيه من الدولة، ودَعم مُزارعى القمح، واستمرار معارض السلع مُخفّضة الأسعار، وإعداد تصوُّر لخَفض الدَّيْن العام وعجز الموازنة، ورؤية للنهوض بالبورصة، مع بدء تخارج الحكومة من المشروعات، وبرنامج لمُشاركة القطاع الخاص بنحو 40 مليار دولار على أربع سنوات، وسداد ديون الغارمين والغارمات، وكانت أهمّها دعوة الحوار الوطنى. ولو جَرَدنا الحسابَ فى الذكرى الثانية سنجد كثيرًا من العناوين قد أُنجِزَت، وبعضها تسيرُ جزئيًّا باتّجاه أهدافها المرسومة. لقد تجاوزنا الانسدادَ فى ملفّ النقد وشُحّ الدولار، وبدأت قيود الأزمة فى الانفكاك عن عُنق الموازنة قليلاً، وأحرزت مُبادرة «ابدأ» نجاحًا ملموسًا، وساعد سعرُ الضمان على تنشيط زراعة القمح وبعض المحاصيل الاستراتيجية وتأمين الجدوى للفلاحين، وتتواصل المعارضُ والمُبادرات الاجتماعية، وأُغلِق ملف الغارمين، وتتمدَّد موجةُ التخارُج الحكومىّ بوتيرةٍ مُنتظمة، ونجحت الدولة فى جذب استثماراتٍ وتمويلات قياسية، لعلَّ أبرزها صفقة رأس الحكمة، واتفاقات الاتحاد الأوروبى، والبنك وصندوق النقد الدوليين، ويقف «الحوار الوطنى» على ساقين راسختين؛ بعدما أنجز كثيرًا فى موضوع العفو ومحاور السياسة والاقتصاد، وصارت أوراقه فى عُهدة لجنةٍ تنسيقية من مجلس أُمنائه والحكومة؛ لإنفاذها حسب تكليفات الرئيس.
عشرُ سنواتٍ تقريبًا على المائدة الوطنية، باستثناء الظرف القاهر لجائحة كورونا، وقد منع التئامَها المُعتاد لكنه لم يصادر رمزيّتها وآثارها.. ثمّة معانٍ إنسانية وقيمية تتحقَّق فى الحدث السنوى؛ لكنّ دلالاته السياسية ما زالت أبقى وأعلى صوتًا. إنّ الأسباب التى استدعتها قبل عقدٍ كامل رسمت ملامح التجربة وفلسفتها، وفى القلب منها أنَّ العائلةَ المصرية مُوحّدةٌ على ركائز صلبة، تجمعها مائدةُ غير مُلوّنة ويُشبعها طعامٌ واحد، وهى لا تستبعدُ أحدًا سوى الذين قرَّروا أن يعزلوا أنفسهم عن الأُسرة ويُناصبوها العداء. وعليه؛ فالسبيل الوحيد أن يتشارك الجميعُ شواغلَهم وأفكارهم، وأن تُدار الخلافاتُ تحت سقف البيت، وباللغة التى يفهمها الجميع، بعيدًا من الكيد والتزيُّد واستعراض العضلات. وقد أفضت المحاولاتُ الأمينة إلى حوارٍ مفتوح، ثم انتخاباتٍ رئاسية مُنفتحة، على أن يكتمل المسارُ وتنضج التجربة بالمُمارسة والتراكم. والذين لا يقتسمون خبزَ المصريين وغُموسَهم، أو يدَّعون الوصل ثم يأكلون على موائد أُخرى؛ إنما يُخرجون أنفسَهم من دفء التوافق إلى بُرودة الشِّقاق، وسابقةُ التجارب تكشف عن المآل الذى انتهى إليه الخارجون من عباءة يونيو، والمُتمرِّدون على إرادة الناس وقتما رُسِمَت الخطوطُ العريضة للمرحلة، وأوضح ما فيها أنه لا ارتداد عن المدنية، ولا عودة إلى الرجعية؛ ولو بالوكالة ومن وراء ستار.
كانت الصورةُ فسيفسائيّةً لم يغب عنها لونٌ أو ظِلّ.. حضرت مصرُ بتنوِّعها الطبقى وأطيافها الجِهَويّة والفكرية، وبرزت على الموائد وجوهٌ من كلِّ التيارات، المُعارضة والموالاة، والرئيس ومنافسوه فى الانتخابات، ورموز حزبية من أوَّل سُلَّم التعقُّل إلى أعلاه فى الخطابة والشعبوية والعاطفة. ولم يقُل السيسى فى كلمته مساء السبت إنّ الأمور ورديّة، أو ما بلغته المسيرة صار مِثاليًّا ومُرضيًا؛ بل على العكس ألمح إلى صعوبة المرحلة وتعاظُم التحدّيات؛ لا سيما فى الشهور الستة الأخيرة. وقد حقَّق الربطَ التاريخىَّ بين إفطار اليوم والأمس؛ إذ أشار للامتحان الوجودى قبل عقدٍ من الآن، وضريبة الدم التى دفعتها الأُمَّة بصلابةٍ واقتناع، مُقدّمًا الشكر للشعب على احتماله، وللجيش وذوى الشهداء على تضحياتهم، وكلاهما محور الارتكاز وعمود الخيمة فى «معركة البقاء والبناء»، مُشدِّدًا على أن الدولة كانت حريصةً على صَدّ الإرهاب بالتزامُن مع دوران عجلة العمل والإنجاز، وفى ذلك شىءٌ ممَّا أشرتُ إليه سالفًا عن الحركة الأُفقية، والاشتغال على كلِّ المحاور بتوازٍ واتّزان، وهو الأمر الذى انتقل من حيِّز الحاجة الظرفيّة قديمًا، بالنظر لضخامة المُتطلِّبات واتّساع الهامش بين الواقع والمأمول؛ ليصير عقيدةً راسخة فى عقل الدولة ودولابها التنفيذى.
وممَّا توقَّف أمامه الرئيسُ طويلاً، الصيرورة التى آل إليها الحوار الوطنى خلال سنتين. مُتحدِّثًا عن بطء الإيقاع فى البداية بين أخذٍ ورَدّ، إلى أن زاد التواصل والاستيعاب، وصارت الورشة النقاشية «حالةً» تفاعُليّة خلّاقة، من ثمارها ما يزيد على تسعين توصيةً رُفعت إليه من مُنسِّق الحوار. ودعا لاستثمار الفعَّالية وتزخيمها بما يستجيبُ لبقيّة العناوين المطروحة، ويستجيب للمُثيرات الناشئة محليًّا وإقليميًّا بأثر التطوُّرات الأخيرة، على شرط أن تكون المنصَّة للجميع؛ بعيدًا من بطريركية النُّخبة وغرامها بالوصاية على العوام، فالكلام المُوسَّع حاجةٌ وطنية راهنة، وحقٌّ للجميع لا المُثقّفين والنُّخب الحزبية فقط. وكفايةُ الفكرة وكفاءتها فى أنْ تتحصَّن بالوعى المُنتِج للاستيعاب، وقَبول الاختلاف واحتواء المُختلفين، وأن تكون الشفافيةُ والمُكاشفة والاستقامةُ معيارًا حاكمًا لضَبط الاتصال وقياس عوائده. وهنا قد يكون مُفيدًا الذهاب لمَأسسة الحوار، على صِفة التنظيم والتوسيع والاستدامة، وأن يندمجَ مع أبنية الأحزاب والمُؤسَّسات المدنية من جمعيّات ونقابات؛ باستحداث لجانٍ نوعيّة تعمل داخل كلِّ تيَّار ومع الشارع، وتصبُّ فى المجرى العريض للورشة الجامعة. وقد لا يختلف مُنصِفٌ على أن الحوار مفقودٌ داخل البيوت الحزبية ومع قواعدها، وكان نموذج ذلك انقسام إحدى الحركات الكُبرى على نفسها، وعجزها عن إنجاز توافقاتٍ يسيرة فى أُمورٍ حيوية مَسَّت صيغتَها الائتلافية، وقدرتَها على الصراع السلمى واقتراح بدائل مُقنعة.
التجدُّد المُنتظم للتلاقى على مائدةٍ واحدة، مع الإقرار بحتميّة الاختلاف وتبايُن الرؤى؛ إنما يُؤكِّد الرغبةَ فى استبقاء المُشتركات، والعمل الجاد على تذويب مساحات الشِّقاق. والسنوات الماضية كانت فاصلاً طويلاً من مُقاومة اعتلالات الماضى، والتأسيس لروافع قادرةٍ على هيكلة الحاضر واقتراح مسارات المستقبل. والمصريّون وإن كانوا أفلتوا من فِخاخ الأُصوليّة والعنف ومحاولات تقويض تطلُّعاتهم الوطنية؛ فإنهم تعرَّضوا لضرباتٍ قاسية مَسَّت الهُويّة والوعى والقُدرةَ على التجاوب مع العصر بانعتاقٍ من المواريث القديمة. والرئيسُ أشار فى كلمته إلى حاجتنا لإعادة صياغة الشخصية المصرية، وللتعليم والصحة دورٌ فى ذلك؛ لكننا نحتاج عقدًا اجتماعيًّا مُحدَّثًا من أدنى أعلى، وشُمولاً فى المهام بدءًا بالثقافة والخطاب الدينى، وإلى تسييس الناس واستثارة غريزتهم للتعايش والتثاقُف واقتسام المجال العام.. الليلةُ الرمضانية مُناسبةٌ لتذكيرنا بوحدة المسار والمصير، وبأنَّ الحركة فى اتجاهٍ واحد بإمكانها وحدَها أنْ تقودَ الجميع لوجهةٍ مُثمرة.
وحوار الأُسرة المصرية وإفطارُها ليسا تفصيلاً عابرًا ولا وَردةً فى عُروة المشهد؛ لكنهما احتياج الضرورة واختيار الاقتناع، وإذا سارت الدولة إليهما شِبرًا؛ فعلى المجتمع بنُخَبه وعوامه وأفراده ومُؤسَّساته أن يسيروا ذراعًا، فبالتكاتُف وتماسُك الكتلة الوطنية تنضجُ المُمارسة وتتعمَّق خبراتُها، وما صلُح به أوَّل الأمر بالإنقاذ مع تحالف 30 يونيو، سيصلُح به آخره بالإنجاز؛ بعدما يُستعَاد التوافقُ ويكتمل ترميمُ التحالف، وتخليصه من شوائب المُراهقة والرجعيّة والرقص بين شعاراتٍ ساخنة وأيديولوجيات انطفأت وكساها الغُبار.. إنها دعوةٌ لتجديد الدم، وترشيد نزوات الساسة المُقيمين فى حظيرة الماضى، واستيلاد الفاعليّة المُحدَّثة من رماد الخُمول القديم، وكلّما تجدَّدت تتأكَّد صِدقيَّتها، ويتبقَّى أن يُردِّدها الجميع مُوقنين بالإجابة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة