الزمن غير الزمن والأيام لا علاقة لها بتلك الأيام.. كانت مصر تعيش مرحلة شديدة الأهمية فى تاريخ استقلالها الوطنى ونهضتها السياسية و الثقافية والاجتماعية.
الشعب المصرى بكل طوائفه، مسلمون ومسيحيون، يبحثون عن ضالتهم فى أصوات تعبر عنهم ويتوحدون ويصطفون خلفها من أجل قضيتهم الكبرى. فيجده فى خطب ومواقف السياسى مصطفى ومن بعده والزعيم سعد زغلول وفى أغانى وفى آذان وقراءة القرآن للشيخ محمد رفعت..!
الشيخ محمد رفعت..؟!
نعم سيدى القارئ كما قرأت ولا تندهش وإليك التفاصيل.
ربما مرور 74 عاما على وفاته فى يوم 9 مايو 1950 – وهو بالمناسبة ذات اليوم الذى ولد فيه يوم 9 مايو 1882- السبب فى غياب الكثير والكثير من المعلومات المثيرة والحقائق المدهشة عن الشيخ محمد رفعت ولم يتبقى منه فى ذاكرة الأجيال الحالية سوى صوت الآذان الذى يرتبط بشهر رمضان الكريم أو ببعض ما تبقى من تسجيلات بصوته لقراءة القرآن الكريم.
لكن من يقرأ ويتمعن فى سيرة هذا الشيخ يجد أنه لا يمكن النظر إليه أو اعتباره مجرد قارئ للقرآن فقط.. فهو ابن مرحلة تاريخية فى غاية الأهمية عاشتها مصر.
نتأمل تاريخ مولده وتاريخ وفاته والأحوال والأوضاع والظروف السياسية والوطنية عموما التى عاش فيها سنوات عمره الـ68 بالتمام والكمال لتجعل منه صوتا للوطنية المصرية فى تلك المرحلة.
فالمرحلة بين مولده ووفاته يمكن أن نطلق عليها مرحلة تغييرات وتحولات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية شديدة الأهمية.. فهى مرحلة مخاض عسيرة المولد. فبعد مولد الشيخ رفعت بأربعة شهور تقريبًا اشتعلت أحداث الثورة العرابية والمطالبة باستقلال الجيش المصرى، وبالحياة النيابية السليمة، وفى الشهر ذاته سبتمبر من عام 1882 فشلت الثورة لأسباب عديدة واحتل الإنجليز مصر بعد هزيمة عرابى واتهامه بالخيانة فى موقعة التل الكبير، وبعد 12 يوما من وصول الإنجليز للقاهرة يعاد تنصيب الخديوى توفيق ابن إسماعيل حاكما لمصر مكافأة له.. وبدأت الحركات الفكرية والسياسية المطالبة بالاستقلال فى الظهور.. وعندما بلغ الشيخ رفعت عامه السادس والسابع كانت أفكار الإمام الشيخ محمد عبده تشغل المجتمع المصرى الذى عانى من ظلام العثمانيين فهو واحد من أبرز المجددين فى الفقه الإسلامى فى العصر الحديث، وأحد دعاة الإصلاح وأعلام النهضة العربية الإسلامية الحديثة، وساهم بعلمه ووعيه واجتهاده فى تحرير العقل العربى من الجمود الذى أصابه لعدة قرون، كما شارك فى إيقاظ وعى الأمة نحو التحرر، وبعث الوطنية، وإحياء الاجتهاد الفقهى لمواكبة التطورات السريعة فى العلم، ومسايرة حركة المجتمع وتطوره فى مختلف النواحى السياسية والاقتصادية والثقافية..
وفى بدايات القرن العشرين ومع بلوغ الشيخ محمد رفعت عامه الرابع عشر والخامس عشر، وبدأ نضج وعيه لما يحدث حوله فى المجتمع وتشبعه به، يظهر الزعيم مصطفى كامل ودعوته للاستقلال التعليمى والثقافى وإنشاء المدارس الأهلية، وإنشاء جامعة أهلية وطنية كرد فعل لسياسة الاحتلال نحو طمس الهوية المصرية، والقضاء على العقلية والفكرية ثم ظهور الزعيم محمد فريد.
ثم..ومع نضجه ووعيه الكامل يعيش الشيخ محمد رفعت – كان الشيخ قد بلغ عامه الـ37- أحداث ووقائع ثورة 19، وما تمخضت عنه من أفكار تحررية ووعى جمعى بالقضية الوطنية المصرية ووأد التفرقة بين عنصرى الشعب من مسيحيين ومسلمين، وتنهض الدعوة إلى الاستقلال الاقتصادى من طلعت حرب باشا وينهض الفن مع سيد درويش.. وبداية المعركة الحقيقية نحو الاستقلال التام من الاحتلال الإنجليزى.
هذه هى المرحلة التاريخية التى عاشها الشيخ محمد رفعت.. فى مجتمع يسعى إلى التغيير فى التعليم والفن والثقافة والاقتصاد.. وتأثر هو بكل ذلك وتكونت شخصيته وهو المولود فى درب الأغوات بحى المغربلين أحد أشهر الأحياء الشعبية بالقاهرة، ولذلك فقد اعتبره جميع المصريين من كل الطوائف والديانات المختلفة هو صوت التغيير والتعبير عن أحلامهم حتى لو كان بقراءة القرآن.. فقد التف حول صوته المسيحيون واليهود المصريون قبل المسلمين، واعتبروا صوته هو صوت مصر التى تتوق للحرية إلى العالم .. ولمَ لا فهو أول صوت بشرى يصل للمصريين عبر الراديو..!
فى عام 1934 شهدت مصر ميلاد الإذاعة اللاسلكية وافتتحت إرسالها بتلاوة الشيخ محمد رفعت "إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا"، كانت الإذاعة المصرية فى ذلك الوقت بمثابة السحر الآتى عبر الأثير والقادر على إيصال صوتك لبشر بعيدين عنك بآلاف الكيلومترات، ومن حينها وانطلق صوت الشيخ رفعت كملمح خاص لتلك الإذاعة ومنذ السنة الأولى، وتم التعاقد معه لتلاوة القرآن طوال شهر رمضان مقابل مائة جنيه.
ولقراءته القرآن فى الإذاعة قصة طريفة، ففى إحدى الليالى سمعه الأمير محمد على توفيق، ابن عم الملك فاروق والوصى على العرش قبل تولى فاروق حكم مصر، وصاحب قصر المنيل، فرشحه لافتتاح الإذاعة المصرية بتلاوته، ولكن الشيخ الورع التقى خاف من هذا الاختراع الجديد الذى لم يكن قد وصل حتى إلى دول أوروبا، وخاف أن يتلو القرآن ويذاع من الراديو فى مكان لا يليق بجلال كلام الله، وحينها قال له شيخ الأزهر محمد الأحمدى الظواهرى الذى تولى مشيخة الأزهر فى الفترة من 10 أكتوبر 1929 وحتى 26 أبريل 1935: «ربما يهدى الله بصوتك شخصا إلى طريق الله»، وهنا وافق الشيخ رفعت على افتتاح الإذاعة بسورة الفتح، وبعقد قيمته 3 جنيهات، لتحدث الطفرة الكبرى فى شهرة الشيخ رفعت التى وصلت للعالم أجمع.
فى تلك الأثناء أصبح صوت الشيخ رفعت علامةً مميزةً أيضًا لشهر رمضان، حتى طُلب منه تسجيل الأذان بصوته وظل هذا الأذان هو المميز لشهر لرمضان على الإذاعة المصرية ومن بعدها التليفزيون المصرى، وهو نفس الأذان الذى تستخدمه معظم القنوات الفضائية فى رمضان حتى اليوم.
كان منزل الشيخ محمد رفعت تعبيرا حقيقيا وواقعيا عن الحالة السياسية والاجتماعية والتنويرية التى تعيشها مصر، فقد كان منزله وهو قارئ القرآن الأول فى مصر والعالم الإسلامى، عبارة عن مجمع أديان وملتقى فنانين وقساوسة ورهبان.
تحول منزله إلى ملتقى وصالون ثقافى اجتمعت فيه كل الأطياف والأديان بعدما ذاعت شهرته، فالتف حوله الفنانون والأدباء والمفكرون وعلماء الأزهر والقساوسة والرهبان وحتى المواطنين اليهود، فالمنزل كان مكونا من 3 طوابق، الطابق الأول منه عبارة عن 3 منادر (صالات واسعة)، يعقد بها صالون ثقافى يحضره فكرى أباظة ، الشاعر أحمد رامى، ومحمد التابعى، والشيخ زكريا أحمد، ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم ووالدها الشيخ إبراهيم، وليلى مراد ووالدها اليهودى زكى مراد قبل إسلامها ونجيب الريحانى.
فقد كان قيثارة السماء صديقا للعديد من القساوسة والرهبان الذين عشقوا صوته، وربطته علاقة قوية بنجيب الريحانى وبديع خيرى، ومما يقال بأن الريحانى- المسيحى الديانة- كان يبكى عندما يستمع إلى القرآن منه، وقيل إنه عندما يكون عنده مسرح، والشيخ رفعت يقرأ فى الإذاعة لا يفتح الستارة حتى ينتهى الشيخ رفعت من القراءة.
الحالة الوطنية التى عبر عنها الشيخ رفعت بصوته وقراءته للقرآن هى التى جعلت الكنيسة الوطنية المصرية وأقباط مصر من المسيحيين يعبرون عن غضبهم الشديد بسبب توقف الشيخ رفعت عن قراءة القرآن للإذاعة..!!
هذا ما حدث بالضبط وكان أمرا طبيعيا فى تلك الأيام والسنوات وكتب عنه قبل رحيله الكاتب الصحفى المعروف ورئيس تحرير مجلة صباح الخير الأسبق الأستاذ لويس جريس.
والحكاية أنه فى عام 1939 أو قبلها بشهور قليلة، توقف الشيخ رفعت عن القراءة للإذاعة، لأن سعيد لطفى باشا رئيس الإذاعة رفع أجر الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى من 12 جنيها إلى 14 جنيها فى التلاوة الواحدة، ولم يرفع أجر الشيخ رفعت إلى الرقم نفسه، رغم أن الشيخ رفعت هو من افتتح الإذاعة بصوته، ولأنه الصوت الذى إذا غرد يصيب الجسد بالقشعريرة، والروح بالصفاء والنفس بالسمو فقد غضب الكثير من الأقباط وطالبوا بإعادة الشيخ رفعت إلى قراءة القرآن فى الإذاعة حين تم منعه منها لأنهم يحبون الاستماع إلى سورة «مريم» بصوته.
يقول الكاتب الصحفى الراحل لويس جريس "إن الشيخ عايش أحداثا وطنية مهمة، منها فترة الزعيم مصطفى كامل وواقعة دنشواى وثورة 1919.وعندما جئت إلى القاهرة وجدت عددا كبيرا من الأقباط يسيرون وراء الشيخ محمد رفعت فى كل سرادق يرتل فيه"
ويضيف لويس جريس،" إن الشيخ محمد رفعت بتلاوته أدى دورا وطنيا مهما جدا أكثر مما فعلته خطب الساسة أو أغانى المطربين، وقرّب القبطى من المسلم أكثر مما فعلته خطب الساسة، فصوته حنون جدا يجعلك إنسانا رقيقا تحب من أمامك".
لم يرفض الشيخ رفعت وهو الشيخ المعمم مرحلة النهوض الفكرى والفنى التى عاشها فهو ابن تلك المرحلة التى عبر فيها الفن عن قضية الوطن وعن معاناة الشعب، فأحب الشيخ رفعت الموسيقى ودرسها أيضا..!
فهو أول من استخدم مقام «السيكا» الموسيقى فى الأذان، مما جعله مختلفًا ومميزًا عن أى أذان آخر، حيث جرت العادة أن يرفع الأذان على مقام "الحجاز" كان طبيعيا وعاديا أن يدرس ويتعلم الشيخ رفعت الموسيقى ويهوى ويعشق العزف على العود فى هذا الزمان، لم يكن التدين يرتبط فى أذهان المصريين بالتشدد أو باعتزال المجتمع أو بـ«بمشايخ الغبرة والنكد»، وفتاوى الإرهاب والتكفير وكراهية كل شىء وتحريمه، فقد كان الشيخ رفعت معبرًا عن زمانه الجميل فى هذا، فحينما أراد الشيخ أن يستزيد من العلم قرر أن يتعلم الموسيقى وأن يتدرب على عزف العود حتى أتقنه ثم حفظ مئات الأدوار والتواشيح والقصائد، كما استمع إلى موسيقى «بيتهوفين» و«شوبان» و«موزارت»، و«فاجنر» وغيرهم وقد أثر ذلك كثيرا فى طريقته فى التلاوة فأصبح قادرًا على اختيار المقام الموسيقى المناسب لكل سورة، ولكل آية حتى أنه أتقن الانتقال بين المقامات بصورة لم يستطعها موسيقيون كبار فى ذلك الوقت. وكان ينشد تواشيح ومدائح نبوية وقصائد، إضافة إلى تلاوته للقرآن فقد تعلمت منه أم كلثوم وليلى مراد المقامات، واهتم بشراء الكتب، ودراسة الموسيقى الرقيقة والمقامات الموسيقية، وحفظ العديد من الأوبريتات والسيمفونيات العالمية فى مكتبته.
ويذكر الدكتور خيرى عامر، فى كتابه «مشايخ فى محراب الفن»: «لم تكن لتكتمل للقارئ الجديد أدواته بدون دراسة الموسيقى والإلمام بقواعدها وطبع صوته بسحرها، فتعلم قواعد الموسيقى من خلال العزف على العود وحفظ الكثير من إبداعات كبار ملحنى عصره من أمثال الشيخ محمد عبدالرحيم المسلوب وعبده الحامولى ومحمد عثمان، حتى أن هناك من الباحثين المعاصرين له من يذكر أنهم استمعوا إلى الشيخ وهو يردد بعض القصائد مثل «أراك عصى الدمع» و«وحقك أنت المنى والطلب» و«سلوا قلبى. كما أنه ارتبط بصداقة قوية مع العديد من مبدعى الفن فى هذا الزمان، ومنهم الموسيقار محمد عبدالوهاب والفنان الكبير نجيب الريحانى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة