تُتقن الإداراتُ الأمريكية الرقصَ على الحبال، أو أدمنته لزمنٍ طويل حتى لم تعُد فى وارد الإقلاع عنه.. وهى جميعًا، السابق منها واللاحق، تتوهَّم قُدرتَها على حشد المُتناقضات فى عبارةٍ واحدة؛ وأن تضمنَ لها الإقناعَ والعبور الآمنَ من غابة النقد والاعتراض. والأمثلةُ أكبر من الرصد، فى فيتنام وكمبوديا وكوبا وشبه الجزيرة الكورية وأفغانستان والعراق. وإذ تدَّعى الاصطفافَ بجانب القانون والإنسانية فى أوكرانيا؛ فإنها تُغادر الصفَّ بأريحيّةٍ وتبجُّحٍ فى غزّة. والحال أنَّ انسداد الأُفق الراهن فى المشهد الفلسطينى تعودُ أغلبُ أسبابه إلى واشنطن؛ ليس لأنها الضامنُ والمُموِّل لنزوات اليمين المُتطرِّف فى إسرائيل فحسب، إنما للارتباك البادى على مواقفها منذ اليوم الأول، وتضارُب رُؤاها وأفكارها السياسية، والرغبة المحمومة لديها فى أن تُحقِّق كلَّ شىءٍ دفعةً واحدة: أمن الحليف، وتجميد القضية، والوئام مع المحيط العربى، وأوّلاً وأخيرًا الاحتفاظ بمقعد الشرطىّ الحاكم لفضاء المنطقة؛ حتى بعدما اختارت أن تصرفَ النظر عنها، وتحشد جهودها للمُواجهة مع روسيا والصين فى أوراسيا والإندوباسيفيك، وربما القطب الشمالى المُتجمّد فى المستقبل القريب.
نحو مائة صفقة سلاح ضخّتها الولاياتُ المُتّحدة فى شرايين الآلة الحربية الصهيونية، أغلبها غير مُعلَن أو معروف التفاصيل؛ حتى للكونجرس نفسه، بحسب تقارير صحفية أمريكية. وما حدث أنها منذ «طوفان الأقصى» التحقت بمجلس الحرب على صفة العضو الأصيل، وحلَّ بلينكن بين صقوره يهوديًّا أوّلاً لا دبلوماسيًّا من بلدٍ آخر، هكذا قال بلسانه، ثمّ تبعه «بايدن» سائرًا فى بحرٍ من الدم والجثث بعد ساعات من قصف المستشفى الأهلى المعمدانى، وكان المشهد فجًّا ومُشينًا لدرجة أن مصر والأردن قرّرتا إلغاء لقاء معه فى عمّان. وإذا كان الرئيس المُوشك على امتحانٍ انتخابىٍّ فى غضون ستة أشهر، يُعدِّل خطابَه جُزئيًّا اليوم؛ فإنه تعديلٌ لا يخرج عن لعبة الخداع نفسها. لقد جاء مقرونًا باعتراضاتٍ على قتل المدنيين بسلاح أمريكى، وهو وضع قائمٌ منذ سبعة أشهر ولم يُستجَدّ عليه شىء. كأنّه يُحاول الإيحاء بتعرُّضه للاحتيال من حكومة نتنياهو؛ على عكس الوقائع شديدة الانكشاف والوقاحة منذ اللحظة الأولى، فلم يدَّعِ أحدٌ فى تل أبيب أنهم ذاهبون إلى غزّة بالورود، وجاهر وزير دفاعهم يوآف جالانت بأنهم يرون الغزِّيين «حيوانات بشرية»، وسيُحاربونهم بالنار والحصار والتجويع، وطالب آخرون بقتل الصغار قبل الكبار لأنهم يرون الجميع إرهابيِّين، وتمادى غيرُهم فى المُجاهرة بمُخطَّط التهجير أو الرغبة فى قصف القطاع بقنبلةٍ نووية. والبيت الأبيض لم يكن فى غيبوبة، وإفاقته اليوم، على هزالها الشديد، ليست أكثر من مناورة.
لا خلافَ بين الطرفين إطلاقًا، وما يُدفَع إلى الواجهة بكثافةٍ أقربُ لتوزيع الأدوار فى سيناريو مرسوم.. تتّفق إدارة بايدن مع كابينت الحرب فى وجوب تصفية حماس، وإكمال العملية على امتداد مساحة القطاع، بما فيها المناطق الجنوبية؛ لكنها تعترض على اجتياح رفح الفلسطينية دون خطّة لإجلاء المدنيِّين، وترشيد فاتورة القتلى وليس تصفيرها. والمعنى أنها مُناكَفةٌ فى التكتيك لا الاستراتيجية، ولها أبعاد جيوسياسية أكثر من كونها إنسانيةً وأخلاقية؛ لا سيّما أنّ الإزاحة المُقرَّرة ستكون شمالاً باتجاه المواصى وخان يونس وغيرهما، وكلها مناطق سبق قصفُها، وقُتِل فيها آلافُ الأبرياء، ولا ضمانة تمنع مُعاودة استهدافهم وتقتيلهم بالكيفية نفسها. لكنّ الأمريكيين يُقدّمون نفسهم وسيطًا نزيهًا فى مُفاوضات التهدئة، وفى الوقت نفسه ضامنًا لأمن إسرائيل واستمرار تفوُّقها على العُزّل المنكوبين، ولا تستنكف أن تكذب فى السياسة وفى الحرب أيضًا؛ فتُعلن تعليقَ بعض أنواع الأسلحة وتُرسل أطنانًا غيرها، وتُبدِى ضيقَها من تمدُّد العدوان ولا تمنعه، وتُبشِّر بانحيازها للتسوية على قاعدة «حلِّ الدولتين»؛ ثمّ تذهب فى كلِّ المسارات الكفيلة بإزهاق هذا الخيار، أو تعطيله لأجلٍ غير مُسمّى.
التأمَتْ الجمعيةُ العامة للأُمَم المُتّحدة مساء الجمعة، وصوَّتت على مشروع قرارٍ يقضى بأهليّة فلسطين للعضوية الكاملة، داعيًا مجلس الأمن لإعادة النظر فى المسألة بإيجابيةٍ أعلى، مع إقرار الأحقيّة فى تقرير المصير والدولة المُستقلّة. وكالمُتوَقّع والمُعتاد كانت واشنطن فى أوّل طابور الرافضين، وهو طابورٌ قصير وهزيل لم يتجاوز تسعة أعضاء، بينهم دول مكروسكوبية لا تُرَى على الخريطة، مقابل 143 عضوًا دعموا القرار فيما يُشبه الاعترافَ الكاسح بفلسطين. والحقّ أنها من الوجه القانونى لا تحتاجُ اعترافًا؛ إذ إنَّ قرار التقسيم الذى تأسَّست إسرائيل بموجبه ينُصّ على الدولة الثانية، وكلّ تعطيلٍ لوجودها يخصمُ من شرعيّة الصهاينة وشهادة ميلادِهم المُخلَّقة أُمَميًّا. لكنّ الولايات المُتّحدة لا ترى غضاضةً فى الوقوف ضد العالم كاملاً، وهى بطبيعة الحال تُغطِّى على خطيئتها بخطأ أكبر؛ إذ السلبيّة المُستهجَنة ضِمنيًّا فى نصِّ الجمعية تخصُّها بصورةٍ مُباشرة؛ فالمجلس صوَّت خلال الشهر الماضى لصالح فلسطين بأغلبية اثنى عشر عضوًا، وتكفَّلت وحدها بإزهاق الفكرة ببطاقة النقض. وهنا عليك وفقَ الفَهم الأمريكى أنْ تُوفِّق بين المُتناقضات: إنهم يُبشِّرون بدولةٍ للفلسطينيين ويستميتون فى تأخير ولادتها، وغرضهم التهدئة واحتواء التصعيد؛ لكنهم لا يتوقَّفون عن تغطية جنون نتنياهو وتذخير أسلحته، ويرعون الهُدنةَ ولا يجرؤون على التصريح بأنهم عدَّلوا بعض بنودَها كما أعلنت حماس، وأنّ على الحكومة العبريّة أن تراعى مصالحَهم مثلما يتفانون فى تأمين مصالحها!
الأسابيعُ الماضية حملت وِفاقًا «صهيو-أمريكى» على خطّة العمل فى رفح. وأقرب المعلومات أنهم قسَّموا المدينة عدَّة مُربّعات، يتوالى العمل فيها من واحدٍ لآخر، مع تقييم الآثار العسكرية والإنسانية؛ لاتخاذ قرار بالمواصلة أو الإبطاء حسب المُستجدّات. وحتى اللحظة لم يطرأ على مواقف الطرفين، ولا فى البيئة الدولية، ما يشى بتغيُّر الصفقة أو تعديل بنودها.. التحوُّل الوحيد جاء مع الهجمة المفاجئة على شرقى رفح واحتلال الجانب الفلسطينى من المعبر، والاعتراض الحاد من الإدارة المصرية اتّصالاً باتفاقية السلام وبروتوكولات المعابر، وما يخصُّ حدود العلاقة والانتشار على جانبى محور صلاح الدين/ فيلادلفيا. وقِيَل صراحةً من الجانب الأمريكى ما يؤكد ابتعادهم عن مُغامرات تعكير الأجواء مع القاهرة. وعلى هذا المعنى؛ فإنّ تجميد بعض شحنات الذخائر لا يتجاوز الرسالةَ الأليفةَ للحليف؛ بدلاً من اتخاذ مواقف جادّة لدى واشنطن ما يُسوِّغها، وبإمكانها أن تفرضها على مخابيل الحكومة اليمينية لو أرادت؛ لكنّ «بايدن» يُحاول ترضية الغاضبين والتقدُّميِّين فى جامعاته وشوارعه بالأقوال، ومُغازلة اللوبى الصهيونى بالأقوال، على أمل أن يُفلتَ بالانتخابات من كمين الشرق الأوسط ونيرانه الحارقة.
الهدفُ نفسه يُحرِّك نتنياهو. إنّه على الأرجح يسعى لإبقاء جمرة الحرب مُشتعلِةً بأيّة درجة حتى نوفمبر المُقبل؛ فإمّا يعود حليفه المُفضّل دونالد ترامب إلى السلطة حاملاً هداياه الاستثنائية المُعتادة لإسرائيل، أو يفوز بايدن ويتحرَّر من ضغوط الرأى العام فى ولايته الأخيرة، ليعود صهيونيًّا صريحًا وغير رمادىّ كعادته، وهو المُتفاخر دومًا بإخلاصه للدولة العبرية، وأنه ليس شرطًا أن يكون يهوديًّا ليُشاركها الأفكار والمُعتقدات. والحال أنّ الطرفين المُتحاربَين فى غزّة قادران على المُواصلة لسبعة أشهرٍ كالتى فاتت؛ لا الفصائل أسلمت رقبتَها لمذبح الفناء أو بصدد التسليم، ولا إسرائيل تجدُ من يردعها ويكبح نزقَها المُنفلت. وإذا كان القاتل يُراهن على تحوُّلٍ بعيدٍ يَعِدُه بما هو أكبر ممَّا فى يده بالفعل؛ فليس معروفًا على أىّ أملٍ يمكن أن تمضى حماس وحلفاؤها فى الجولة بكلِّ مخاطرها المحيقة. صحيح أنها عادت لرُشدِها قليلاً عندما وافقت على مُقترَح الهُدنة؛ لكنها كانت عودةً مُتأخّرة نسبيًّا، وتكشف عن صراعاتٍ فى بِنية الحركة، ربما لا تقلُّ شراسة عن صراعها مع عدوِّها، وقد بات الوفاقُ ضرورةً مُلحّة بين الجناحين السياسى والعسكرى، وفيما يخصُّ علاقتهما بالسلطة وبقيّة المُكوّنات الوطنية. على الأقل لأجل اجتراح سيناريوهاتٍ مُستقبلية كفيلة بالتصدِّى للأجندة الصهيونية ببرنامجٍ وطنىّ مُوحَّدٍ ومحلّ إجماع.
تعلم حكومةُ الحرب أنها بعيدةٌ من عمليةٍ شاملة فى رفح، بموجب اتّفاقها مع الأمريكيين؛ إلَّا لو كسرت بنودَ التفاهم رهانًا على أن «بايدن» يحتاجهم بأكثر ممَّا يحتاجونه، وسيعيد التموضُعَ مُجدَّدًا بما يمنعُ تعميق خلاف البلدين أو إيصاله لمستوى الصدام. والفكرةُ أنهم منذ طالبوا الغزِّيين بالتحرُّك شمالاً إلى مواصى خان يونس، لم ينتقل سوى نحو مائة ألفٍ فى غضون أسبوع. والحسبةُ البسيطة، انطلاقًا من عدد المُتكدِّسين فى المنطقة، تعنى الانتظار بين أربعة عشر وستة عشر أسبوعًا قبل الاجتياح الواسع، وهى مهلةٌ تتجاوز الهُدنةَ المُقترحة بمراحلها الثلاث. هكذا يبدو أنَّ ما كان مطلوبًا من نتنياهو أن يُقدِّمه فى المُفاوضات، قد يُقدِّمه من دونها، ولا معنى لعناده فى تسويق التوقُّف الاضطرارى على صيغة الإذعان للرغبة الأمريكية؛ إلَّا أنه لا يُقيم وزنًا للحليف وشواغله، ويجتهدُ فى تحوير حال الاستتباع بينهما؛ ليتقدَّم قرارُ تل أبيب على إرادة واشنطن، وهو بذلك يُحدِثُ تحوُّلاً استراتيجيًّا فى العلاقة بما يتجاوز رفح وغزّة والحربَ الراهنة بكاملها، وربما يُوسِّس لحقبةٍ تنتقل فيها واشنطن من الشراكة فى غرفة القيادة، إلى التبعية الكاملة فى ميدان القتال.
يتساندُ اليمين الصهيونى والتوراتى على الغطاء الذى أسدلته الأُصوليّةُ الحماسيّة على الصراع. يُشبه الأمرُ ما كانت عليه الأوضاع قبل ثلاثة عقود؛ إذ استنزفت الحركةُ رصيدَ «انتفاضة الحجارة» وأسَّست مسارًا مُضادًّا لأوسلو، قبل ولادته وبعدها، وفى المقابل كان نتنياهو رافضًا للفكرة وثائرًا عليها، وقاد التظاهرات التى أفضت لقتل رابين وتشييع الاتفاق لمثواه الأخير. والحال أنهما يُكرِّران اللعبةَ مُجدَّدًا وإن بتفاصيل وخياراتٍ أكثر خشونة، وقد أخطأ الحماسيّون فى موعد طُوفانهم قبل الانتخابات الأمريكية بسنةٍ كاملة؛ فأتاحوا للعدوِّ فرصةً أكبر للابتزاز، وتركوا للضامن هامشًا للمُناورة وتسييل جهود الاحتواء. وإزاء الجمود المُستحكِم لدى البيئتين؛ فإنهما يشتريان الوقت انتظارًا لمُتغيِّراتٍ تأتى من الخارج. كأن يُراهن الغزِّيون على فتح جبهات المُمانعة، وقد تردَّدت أنباء عن إيعاز طهران لحزب الله بالتصعيد والدخول كجبهة رئيسية، وأن ينتظر الصهاينةُ الإدارةَ الأمريكية الجديدة، أو يُطوِّعوا مواقفَ الحالية مع أىِّ توتُّرٍ إضافىّ يطرأُ من ناحية لبنان أو سوريا والعراق واليمن.. إنها مغامرةٌ محفوفةٌ بالمخاطر؛ ويزيد من خطورتها استشعار الطرفين الخسارة، واستماتتهم فى الذهاب إلى أقصى مدى، يحمل ولو إشارةً خافتة على كَسبٍ زهيد.
هكذا تبدو المفاوضاتُ حدثًا واحدًا بتأويلاتٍ شتّى؛ فالوساطةُ المصرية تبتغى تبريدَ الجبهة والتوصُّل لهُدنةٍ تُمهِّد لوقف النار بشكلٍ مُستدَام، والولايات المتحدة تُحايث فيما بين امتصاص غضبةِ العرب وعدم إزعاج الصهاينة، أمَّا الخصمان فيعُضَّان الأصابع ويُوغلان فى لعبة النصر أو التشدُّد، والأصلُ أنه لا انتصار دون أن يُقرَّ الغريمُ بالهزيمة، ويقع ذلك فى عداد المُستحيل لدى المُحتلّ والمُقاومين. ومن هنا تنتقلُ جولاتُ الحوار، من نطاق تفكيك الأزمة إلى تطويقها؛ بمعنى أنها تُواجه صُدودًا من المعنيِّين الأُصلاء بالحلِّ؛ لكنها قادرةٌ فى الوقت نفسه على كبح اندفاعتهم لمزيدٍ من التصعيد.. فالظروفُ الموضوعية للتهدئة لم تنضُج بعد؛ أو بالأحرى لا يُريد المُتحاربون إنضاجَها، بينما الظروف الجيوسياسية أعقدُ من تجاوزها أو الالتفات عنها بالكامل، لأنَّ جانبًا من علاقات حماس يتَّصل بأحد أطراف الوساطة، ولأنَّ مصر مَعنيّة بالتطوُّرات لا سيّما فى جنوبىّ القطاع. ومن هنا تتّصل الجهودُ الدؤوبُ لحلحلة المشهد؛ ولا تنقطعُ المُماطلة والمراوغات.
والخطورةُ أنَّ إطفاء نور السياسة يُهدِّد بإذكاء نار الحرب. فمحور المُمانعة بات فى حرجٍ بالغ إزاء دعايات «وحدة الساحات»، وخُفوت أثر المُشاغلة والإسناد، والاحتلال يتحضَّر لعمليّة شماليّة ما لم ينزل الحزب على شروط القرار 1701، ويتزحزح لشمالىِّ نهر الليطانى. وعلى قسوة الاحتمالات؛ فإنها خيارٌ يتلاقى عنده الصهاينةُ والقسَّاميون؛ وإن بدا جناحُ حماس السياسى مُختلفًا قليلاً. وما بين الطمع والترقُّب وجَسّ النبض، تتعدَّل قواعدُ الاشتباك ببطءٍ مُخادع؛ حتى ليَسهُلَ أن يجدَ الخصومُ جميعًا أنفسَهم فى المعركة دون قرارٍ أو اختيار. واللعبة تضليليّةٌ بالكامل؛ إذ المحتلُّ يرمى خصومَه بالإرهاب بينما يُدافعون عن حقوقٍ مشروعة، والخصوم يُغطّون أجنداتهم السياسية بعمامةٍ دينية، ويستمرءون سرديّة البطولة والصمود على جبلٍ من القتلى والركام. وهكذا يقع التخادُم المطلوب؛ إذ يُبرِّر كلٌّ منهما للآخر حِدّة الموقف وغِلظة الخيارات، ويتساوى القاتلُ والضحية فى النظرة الأنجلو أمريكية، ما يُعسِّر مهمّة «ربط النزاع» وفتح الباب لتسويةٍ أخلاقيّة قانونية؛ قبل البحث عن تسوياتٍ ميدانيّة.
ما فعلته انتفاضةُ الحجارة لفلسطين كان أنفعَ ممّا فعله الطوفان، وفى المقابل كانت «أوسلو» بكل ما رأته إسرائيل تنازُلاتٍ قاسيةً أفضلَ من الحرب. وإذا كانت مُناوشات إيران فى «ليلة المُسيَّرات» كشفت عن يدٍ أمريكية عُليا على تل أبيب؛ لناحية ترشيد ردِّها بهجمة أصفهان الدعائية؛ فالمطلوب أن تُفعِّل الإدارةُ الأمريكية أوراقَها المتاحة لترويض التوراتيِّين والقوميِّين، وأن تجتهد فى وَقف الجنون مثلما تلهثُ وراء إنقاذ اتفاقات التطبيع والشراكة.. تبدو المسألةُ بكاملها خارج التوقُّعات بأثر التعنُّت، ومشاعر التشفِّى والانتقام، وكلُّ تحليلٍ فى المناخ الضبابى إنما يُخالطه التفاؤلُ أو التشاؤم غير المُؤسَّسين على حقائق ومعلوماتٍ كاملة. والغالبُ أنَّ طرفى الحرب يتعاملان معها كحدثٍ عابر، سرعان ما تنقضى مفاعيله وتعودُ الأمور لسوابقها، وهذا ما لم يعُد مُمكنًا على أىِّ وجهٍ؛ فحماس تضرَّرت فى وجودها السياسى القريب على الأقل، ونتنياهو لن يظلّ حاكمًا بعد حقبة المُحاسبة، والترضيات الوقتية دون مفاعيل مُثمرة لا مكانَ لها، وعلى الجميع الاعتراف بعقلٍ باردٍ أنَّ القضية غادرت رتابتَها القديمة، واليمين فى الناحيتين عليه فواتير واجبةُ الدفع، ومُسكِّنات الماضى لن تُغنى عن الجراحات المُؤجَّلة، وأخيرًا والأهمّ أنَّ الولايات المُتّحدة ليست وسيطًا نزيهًا ولا ضامنًا أمينًا، وعليها تصويب مواقفها وخياراتها؛ قبل أن تتسبَّب برُعونتِها وخِفّة قادتها فى إشعال المنطقة والعالم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة