عقب رحيل عم خيري شلبي اكتشفنا في أدراجه ثمانية عشر حلقة من مسلسل لم يكتمل عن روايته الأعظم "وكالة عطية"، وبالتقصي عنه اكتشفنا أنه تعاقد على تحويل روايته لمسلسل كما فعلها مرتين من قبل في "الوتد" ١٩٩٦ و"الكومي" ٢٠٠١، لكن بسبب انشغاله وقتها بالكتابة الروائية توقف عن الاستمرار في العمل ولأن نظام العمل الدرامي في ذلك الوقت كان يتطلب انتهاء السيناريست من كتابة العمل قبل البدء في تصويره تعثر المشروع، فقام المخرج الكبير رأفت الميهي بكتابة المسلسل.
قبل ذلك بعقد كامل تقريبا كنت في بيت الفنان القدير حسن عبد الحميد ووجدت إلى جانب مقعده صفا طويلا من الأوراق عرفت منه أنها حلقات مسلسل أوان الورد للكاتب الكبير وحيد حامد. كان دوره صغيرا نسبيا في العمل ومع هذا انهمك في قراءته كاملا كجزء من تحضيره للدور، والأهم أن موعد بدء التصوير تحدد عقب انتهاء الأستاذ وحيد من كتابة السيناريو.
تغيرت في العقدين الأخيرين ظروف العمل الدرامي، خصوصا بعد أن صار الإعلان هو مركز العملية الإنتاجية. حركة رأس المال اللازمة للإنتاج صارت أسرع وأبطأ في الوقت نفسه. أسرع لأنها تطلبت فترات محددة لا يمكن تعديها للانتهاء من التصوير. وأبطأ لأنها صارت مؤجلة دائما لحين اقتراب موعد العرض، فصار من الصعب التعاقد مع مؤلف العمل قبل بداية التصوير بفترة كافية تسمح له بالانتهاء من كتابة العمل بالكامل، وبالتالي تقلصت فترة التحضير التي كانت تستغرق من صناع العمل من قبل شهورا وربما أكثر. أثر ذلك بالطبع على المنتج الفني النهائي، خصوصا وأن المخرج - ثاني أهم عنصر في العملية الفنية - افتقد الوقت اللازم لوضع خطته الإخراجية، كما أن الممثل - واجهة العمل وأداة توصيل الفكرة - خسر فرصته في قراءة دوره.
قبل أيام انتشر تصريح للمخرج الكبير وودي آلين الذي اقترب من التسعين عاما، والذي قدم آخر أفلامه العام الماضي. التصريح يقول إن فن الكتابة هي الأصعب حتى من الإخراج. ويقول إن مخرج متواضع الموهبة يمكنه أن يقدم عملا جيدا إذا ما حصل على سيناريو جيد، أما المخرج الجيد فلن يمكنه تقديم عمل جيد إذا ما تصدى لإخراج سيناريو ضعيف. ورغم أن السينما هي فن المخرج بالأساس، فإن وودي آلين الذي مارس الكتابة والإخراج طوال مسيرته لم يجد مفرا من الاعتراف بأهمية السيناريو.
فإذا كانت هذه هي أهمية السيناريو في السينما فإن تلك الأهمية تتضاعف في الدراما التليفزيونية، لأن الدراما التليفزيونية تعتمد على فن الحكي بصورة أكبر، ولا وجود لعمل درامي تليفزيوني جيد إلا بوجود قصة جيدة ومنضبطة تحوي شخصيات مرسومة بعناية كبيرة، لأن ضعف القصة – وطريقة حكايتها - لا يمكن تعويضه بصورة جيدة وأداء ممتاز، فالجمهور – في هذه الحالة - يمكنه تذكر أداء ممثل عظيم لكنه حينها لن يتذكر شيئا من القصة التي حكيت له، وسوف يعبر عن إعجابه بالصورة الجيدة لكن إعجابه سوف يفتر بعد عدة حلقات لأن القصة التي يريد متابعتها غرقت في الرداءة أو الاستعجال أو كلاهما معا.
لن يمكن إذن الارتقاء بفن الدراما التليفزيونية إلا إذا اعترف كل صناع الدراما بأهمية السيناريو والأهم أن يتصرفوا على أساس هذا الاعتراف. أن يمنح الكاتب وقته كاملا لكتابة قصة جيدة والعناية بكل تفاصيلها، وأن يكون لديه الوقت الكافي للحذف والتعديل دون ضغوط إنتاجية. ولن يحدث ذلك إلا إذا جازف المنتجون بالتعاقد مع الكاتب دون انتظار دوران عجلة التسويق. فالطبيعي أن كل شركة إنتاج تعمل على الحصول على أفضل القصص، وأن يكون لديها دائما مخزونا من القصص والسيناريوهات الجيدة واستثمارها مع الوقت، فما لم ينتج هذا العام يمكن أن ينتج في أعوام تالية. ولن يحدث ذلك إلا إذا قلدت كل شركة إنتاج نظام الستديوهات في هوليوود، ففي كل شركة مكتب للسيناريو مكون من خبراء يتلقون رسائل عديدة من الكتاب ويهتمون بكل رسالة ويحصلون على كل فكرة جيدة حتى ولو أسندت فيما بعد لخبراء آخرين لتطويرها مع كاتبها أو لو كتبوها بأنفسهم بعد التعاقد عليها، والنتيجة أن كل ستديو لديه مخزونا كبيرا من القصص التي يمكن تقديمها في أي وقت. ولن تضار شركات الإنتاج أبدا إذا ما عرفنا أن كاتب السيناريو في أمريكا يحصل على نسبة من إجمالي ميزانية العمل، وهو ما يقدر بالملايين، فيما يحصل كاتب السيناريو المصري على أقل مما يحصل عليه ممثل من الصف الثاني.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة