أعادت حرب غزة - فى شهورها الطويلة - عددًا من المُسلّمات لطاولة الاختبار؛ بعدما كان مسكوتًا عنها أو أُزيحت للخلفية بالاعتياد. صار مقطوعًا من الجميع بأن الأزمة فى الاحتلال؛ وليست فى ردود الفعل عليه، وأن الحلول الأمنية أسوأ الخيارات المُمكنة لإدارة الصراع التاريخى، وأقلّها حظا فى إنتاج آثار عملية مثمرة. لكن بين ما كشفته أيضًا أننا لا نعيش وحدنا فى العالم، ولا نملك سرديّة مُهيمنة كحال العدو، وأن ما نعتبره حقوقًا مشروعة وعادلة، وهى كذلك بالفعل، عليها خلاف فى دوائر مُشتبكة عضويًّا مع الملف، ولها سُلطة التحكُّم فى تفاصيله أو تغليب أحد عناصره على بقيّة العناصر. والحال أنّ المُؤمنين بالقضية ربما أوصلوا رسائلهم الساخنة لكلِّ الأطراف، البعيد قبل القريب؛ لكنّ أغلبهم لم يستقبلوا الردود المُضادّة على وجهٍ سليم، وبالتبعية فإنهم لم يُطوّروا خطابًا صالحًا لامتصاص فائض الانحياز والتحريف، والبناء على التحوُّلات الظرفية الناشئة من رحم العدوان؛ لتصير فاعلاً حيويًّا فى بنية العقل الغربى على المدى الطويل، وليس فى زمن النار والدم فحسب. والسوابق المُتكرِّرة أننا نفوز بالتعاطف فى كلِّ نكبةٍ؛ ثم يتبخّر رصيدها بعدما نتوهُّم النصر، ونستعجل الشعور بزَهو المُنتصرين، بينما لم يتوقَّف النزيف أو تندمل الجراح الغائرة.
ثارت حماس على خطاب الرئيس عباس أمام القمَّة العربية بالبحرين؛ لأنه قال إن الحركة بعَمَلها المُنفرد فى «طوفان الأقصى» وفَّرت ذرائع القتل والتنكيل للاحتلال. ولعلَّ البعض يرون المقال لا يُناسب المقام، وأن رئيس السلطة الفلسطينية لم يكن مُوفّقًا فى طرح رُؤيته بين القادة؛ بينما يبحثون عن مخارج إنسانية وسياسية لإنهاء المَقتَلة الدائرة. هذا مقبول من جانب الشكل؛ أمَّا لناحية المضمون فليست الفكرةُ فيما نعتقده معًا إزاء فلسطين، ولا فى تصوُّرنا عن الطوفان وما أضافه للعاطفة القومية وخَصمَه من أرواح النساء والأطفال. لنفترضَ جدلاً أنَّ اثنتين وعشرين دولةً وسُكَّانها يُجمِعون على ما جرى فى 7 أكتوبر، ولا يختلفون فى فاعليّته أو يتوقّفون أمام كُلفته الباهظة؛ لكنَّ مسألة الذريعة لا تخصُّ السياق الإقليمى أصلاً. وما يقصده «أبو مازن» وكل من يعتقد فيما قال؛ أن الصهاينة وظَّفوا عملية غلاف غزّة لاستمالة الحاضنة الغربية، وتبرير خياراتهم الدامية تحت عنوان المظلوميّة الناشئة عن استهداف المدنيِّين. نعلم هنا أنهم مُحتلّون، وأغلبهم مُقاتلون أو على ذِمّة القتال، نظاميِّين أو احتياطيين؛ لكنَّ العالم الذى نخاطبه جميعًا يفهمُ الوقائعَ بصورةٍ مُغايرة، وقد اهتمَّ الاحتلالُ بمُخاطبته مُبكّرًا وتجاهلناه، وحينما صُحِّحَت الصورةُ جزئيًّا كان ذلك بأثر العنف الإسرائيلى المُفرط؛ وليس لأننا أعدنا صياغةَ خطابنا ووضعناه موضع القبول ممَّن نستهدفُ الوصول إليهم وإقناعهم.
الضيق من كلمة الرئيس الفلسطينى إنما يعكسُ شعورًا بالإنكار والانفصال عن الواقع. ربما لدينا من الثوابت ما يُحصِّن سلوك الفصائل من المُساءلة فى زمن الأزمة؛ لكنَّ المُعاناة ناتجةٌ عن سلاح العدوّ المُنفلت تحت غطاء حُلفائه الغربيين، وهجمة حماس منحته المُبرِّرات التى يحتاجها سياقٌ مُنحازٌ وغير عادل بالأساس. والحقّ أنَّ السلطة ليست على ما يُرام، وتحتاج لهيكلةٍ وتأهيل عاجلين؛ لكنَّ تسجيل المُلاحظات عليها لا يُغيِّر شيئًا فى توصيف مُغامرة يحيى السنوار وشُركائه القسَّاميِّين، وكانت قرارًا فرديًّا مُفاجئًا إذا نظرنا من جانب رام الله والمحيط العربى، وتحالُفًا أيديولوجيًّا برؤيةٍ مُتَّفَق عليها بالنظر من زاوية العلاقة مع محور الممانعة، سواء فى مركزه الفارسى، أو أطرافه جهة حزب الله وضاحية بيروت والجنوب اللبنانى. وباختصار؛ فقد نسَّق الحماسيِّون مع الحليف البعيد وتجاهلوا الشقيقَ القريب، ومثلما فاجأوا العدوَّ فإنهم فجَّروا المُفاجأة فوق رؤوس الغزِّيين. والمطروح من وقتها يَنُمّ عن رغبةٍ فى تكبيد الآخرين فواتير الخيارات الشعبوية النَّزِقة، لا فارقَ بين جيش الاحتلال وكتائب المُقاومة، بينما يتعيَّن عليهم الاقتناع بأنهم المَعنىُّ المُباشر بسداد التكاليف، وتقبُّل أن يتدخَّل الوسطاء والضامنون فى الصراع وُفقَ رُؤاهم ومُحدِّدات مصالحهم، وليس بشروط الملعب الذى رُسِمَت خطوطه وصِيغَت شُروطه بمعزلٍ عنهم.
لا أحدَ مُجبَر على الإقدام أو الإحجام بميقاتِ الآخرين. وهذا التناقضُ المُركَّب يبدو واضحًا فى أداء الجميع؛ فالولايات المُتحدة ترتبك بين الدعم العسكرى الكاسح والرسائل السياسية المُتضاربة، وأوروبا تتقلَّب فى غابةٍ من التباين؛ حتى أنَّ بعضَها يدين والبعض يدعم، وفريقٌ يدرس الاعترافَ بدولة فلسطين وآخرون يُصوِّتون ضدَّها. وإقليميًّا فقد وُضِعَ العربُ أمام امتحانٍ طارئ على شرط تيَّارٍ يُناصبهم العداء، وهُم بين إخلاصهم للقضية وخَشيتهم من ارتداداتها، يسعون للمُوازنة بين خطابين كلاهما حَارقٌ. وبينما يمسك رُعاةُ الصهيونية بخِناق النظام الدولى، ولديهم من السُّلطة والقوّة ما يسمحُ بتمرير أهدافهم الرديئة دون اعتبارٍ لقانون أو أخلاق؛ فإنَّ العربَ مُضطرّون للعمل وفق المسارات الشرعية، والتِماس السُّبل الكفيلة بضَبط المشهد واستعادة توازُن السرديَّات، دون الدخول فى صداماتٍ لا تسمح بها البيئةُ الدوليّة المُختلّة. لننتقدَ التشوُّهَ القِيَمى وانعدامَ العدالة كيفما نشاء؛ لكننا سنُضطرّ فى النهاية للتعاطى مع الوضع القائم.
إزاءَ المناخ المُلتبِس، تتداخلُ الأوراق وتزدهر الدعايات البائسة. لقد مَرَّر نتنياهو حربَه من قناة البيت الأبيض على وعد الحسم السريع، والعودة للحال الطبيعية قبل دخول مُعترك الانتخابات الرئاسية. ربما تصوَّرت إدارة بايدن أنها مُستدعَاة لمُغامرةٍ من عدّة أسابيع على الأكثر؛ فوجدت نفسَها عالقةً فى أوحالٍ تُهدِّد فُرصَها فى السباق الوشيك. وبينما لا تقتنع الحكومةُ المُتطرِّفة فى تل أبيب بما حقَّقته حتى الآن، تُلاقيها حماس على هدف شراء الوقت وإطالة أمد الحرب. هكذا قصفت مُحيطَ معبر كرم أبو سالم قبل قبولها للهُدنة بساعات؛ فأتاحت لغريمها إفشالَ المفاوضات واستمراء الجنون. وتُصرِّ على إبداء الفاعلية وعدم التضرُّر من العدوان؛ وبخطابها الدعائى استدعت قوّات الاحتلال مُجدَّدًا إلى الشمال، فى جباليا وحى الزيتون وغيرهما، وهى إذ تُدافع عن وجودها المُهدَّد بالاتفاق الصهيو-أمريكى على استبعادها من المستقبل؛ تُغامر فى واقع الأمر بإنتاج مُعادلةٍ أشدّ شراسةً وتهديدًا لسُّلطتها الوقتية فى غزّة، وربما لحضورها الإجمالى فى المشهد ما بعد تحويل القطاع لأرض ميّتة.
أراد بايدن أن يمتصَّ غضبَ العرب والمسلمين الأمريكيين، ويحتوى تظاهرات جامعات النخبة؛ فأعلن عن تجميد شحنة قنابل ثقيلةٍ للتأثير على قرار نتنياهو باجتياح رفح. وبعيدًا من استمرار تدفُّق بقيّة الشحنات، وامتلاء المخازن الإسرائيلية بالفعل؛ فإن الخطوة على دعائيَّتها أفصحت عن شىءٍ من الشِّقاق بين الحليفين؛ وإذ يُرجِّحُ ذلك أن يسعى التوراتيِّون والقوميِّون المخابيل لتجاوز مُنعطَف الانتخابات؛ فإمَّا يفوز بايدن ويتحرَّر من الضغوط فى ولايته الأخيرة، أو يعود ترامب بأجندةٍ أشدّ انحيازًا وأكثر اجتراءً على الخيارات الصفرية والحلول الإلغائيّة الزاعقة؛ فلا يُعرَف على ماذا تُراهن الفصائل!
ومكمنُ الخطورة أننا نُواجه سياقًا مشحونًا باليمينية والنزعات المحافظة، وإذا تُرجِمَ ذلك بتعزيز حضور المُتطرِّفين فى البرلمان الأوروبى خلال أسابيع، ثمّ بتمدُّد الموجة فى بقيَّة حكومات القارة؛ فإنَّ المرحلةَ المُقبلة ستكون صراعًا وجوديًّا عنوانه إذكاء الهويَّات العدوانيّة واحتدام صراعاتها، وتركيب المسائل الإنسانية على أيديولوجيات عِرقيّة وأُصوليّة أكثر انشغالاً بالفَرز وترسيم الحدود بالنار. هكذا يبدو الخطابُ الأُصولىُّ من جانبنا، فى بيئاتنا أو ما نُصدِّره للآخرين، مُعينًا لليمين المُتشدِّد على اجتذاب الناخبين صعودًا للسُّلطة، ثم على تبرير رُؤاه الصراعيّة الساخنة؛ لتَنغلقَ «دائرةُ التخادُم» على تصعيدٍ مُتبادَل فى الخطابات، ويكتوى الطرفُ الأضعفُ بالضرورة بالنار التى اعتبرها أثمنَ ما يملك وألمعَ نقاطِ قوَّته وتأثيره.
قالت حماس فى بيانها الاعتراضىِّ على كلمة عباس؛ إن «طوفان الأقصى» الحلقةُ الأهمُّ فى سلسلة النضال الفلسطينى، والمُغالطة هنا أنها تتجاهلُ مسارًا طويلاً سابقًا عليها من النضالات العُنفيّة والسِّلميّة، هى ما مكَّنت الفلسطينيِّين من الوجود المُؤسَّسى على أرضهم وأن يُثارَ الحلُّ السياسى وفكرةُ الدولة المُستقلّة ولو بصوتٍ خافت؛ بل إنَّ الحركةَ نفسَها كانت من نتاجات «انتفاضة الحجارة»، وتعاظمَ حضورُها بأثرِ انتفاضة الأقصى، وصعدت إلى السلطة على أوراق اتفاق أوسلو، قبل أن تنقلبَ على مُنظَّمة التحرير وحكومتها وتستأثرَ بالقطاع. والحال أنَّ خطابها لا يُلوِّث مشهديّة المُقاومة الفلسطينية فحسب؛ بل يسعى لتأميم القضية وتُراثها، وتضحيات أبنائها من كلِّ التيارات، لصالح الحركة وحُلفائها الإقليميين، ويُعمِّق لديها حالةَ الإنكار والانغلاق المَرَضىّ على الذات، ما ينسفُ أىَّ أملٍ فى استقراء واقع الأزمة وتطوير الرؤية وسَدِّ ثغرات الخطاب والممارسة.
لقد بدأ العدوُّ نفسُه مسارَ المراجعة الذاتية؛ رغم تشدُّد نتنياهو وتغييبه لكلِّ البدائل الكفيلة بتصويب انحرافات حكومته. على الأقلّ ثمّة اعترافٌ بالخطأ والتقصير، واستقال بعضُ المسؤولين، ولا خلافَ على الحاجة للتحقيق والمُساءلة؛ وإن اختلفوا فى حدود التُّهمة وسَعوا للتهرُّب من المسؤوليات. وفى المقابل؛ لا تُبدِى الفصائلُ أىَّ رغبةٍ فى المُراجعة والتقييم، ولو على مَوعدةٍ مُرجأة لما بعد الحرب. إنهم على العكس تمامًا من أىِّ سلوكٍ قويم؛ يُؤمنون بصواب خياراتهم إلى درجة العصمة والتنزيه الكاملين، ولم يُدمِنوا الوهمَ فيما بينهم فقط؛ بل يَسعون لبَيعه إلى غيرهم، وإجبارهم بالعاطفة والابتزاز والمُبالغات الدعائيّة على شرائه بالغالى والاعتراف بجودته وتفرُّده. وتتَّفقُ أذرعُ محور الممانعة كلُّها فى لعبة الانتصارات الوهميّة، فالحركة ترى أن 1300 قتيلٍ وأسير من الجبهة المُعادية أكبر من 150 ألفًا من الغزِّيين، والحزب يعتبرُ دمارَ الجنوب اللبنانىّ ونزوحَ مائة ألفٍ نصرًا إلهيًّا، والحوثيِّون يُسوِّقون لُعبتَهم عند مدخل البحر الأحمر كأنها «بيضة القبّان» التى غيَّرت المُعادلات. وفى الأخير؛ يُغالى الجميع فى النظر إلى تظاهرات الجامعات الغربية، ويعتبرون استفاقةَ الضمير رصيدًا أبديًّا لن يزول. ولا أثرَ إطلاقًا للتعلُّم من الخبرات القديمة، وأنَّ المشاعر التى تتأجَّجُ سريعًا تنطفئُ بصورةٍ أسرع، وأننا نحتاج للرهان على التعديل التراكمى المُتدرِّج فى الرأى العام العالمى، وإلى إفساح الميدان قليلاً للتعقُّل وخطاب المظلوميّة وأنسنة شعارات المُقاومة، بدلاً من نَحت الرسائل بالأظافر أو الطمع الدائم فى احتلال واجهة الصورة. لقد فتحت المُراهقةُ بابًا للخصوم على كلِّ الفعاليّات الاحتجاجية، وكان ظهور رايات حماس والحزب وشعارات إفناء إسرائيل، أو إحراق أعلام أمريكا واستبدالها بعلم فلسطين، خاصِمًا من تظاهرات الجامعات، واستعدى عليها بعضَ الجمهور، ولم يفرز انفعالاً شعبيًّا مُكافئًا لحجم الغطرسة التى مارستها الشرطة، أو الرسائل العنيفة من السياسيِّين وقادة الكونجرس، وكان أقلّ من هذا كافيًا فى احتجاجات 1968 لقَلب المشهد رأسًا على عقب، وإنهاء حربٍ أطول وأشرس فى الهند الصينية.
المُنحازون لفاعليّة «الطوفان» يحصرون الأمر فى عودة القضية للتداول، وليست أوَّلَ مرّةٍ تحتلُّ واجهةَ المشهد الدولى. وإلى ذلك؛ يُبَرهِنون بتصويت 143 دولة لصالح فلسطين فى الجمعية العامة، والواقع أن 140 منها كانت تعترفُ بها بالفعل؛ فهل تُساوى الثلاثة المُضافة كلَّ ما أُرِيق من دم؟ خِفَّة الانتصارات الوهميَّة تقولُ أيضًا إنَّ العدوَّ أخفقَ فى تحقيق أهدافه المُعلَنة؛ وهذا ممَّا يقعُ فى حيِّز التدليس والرعونة المُؤسِفة. صحيح أنَّ الاحتلال تحدَّث عن إفناء حماس ولم يفعل؛ لكنه خلافَ هذا التكتيك البائس أفنى قاعدةَ حماس ونطاقَ سُلطتها، وحقَّق هدفًا استراتيجيًّا بتدمير غزة وجَعلها غير صالحة للحياة، والتعامى عن أنَّ غايتَه العُليا أن يزيحَ الفلسطينيين من أرضهم، أو يجعل بقاءهم فيها مُستحيلاً، لا يُمكن تفسيره بغير واحدةٍ من اثنتين: العشوائية أو السطحية؛ وكلاهما تَنُمّ عن جهلٍ عميق وعدم اكتراث بالمآلات، وهذا ممَّا يتجاوزُ احتقارَ الدم والأرواح إلى ازدراء القضية نفسها؛ لأنه لا حياةَ لها من دون حاضنتها الاجتماعية، وما لم تُصرَفْ تضحياتُ الحاضنة لصالح السياسة؛ فإنهم يصيرون أُضحياتٍ مجانيّةً على مذبحِ عدوٍّ لا يملُّ القتلَ ولا يرتوى من الدماء.
مثلما الحربُ ليست مطلوبةً لذاتها؛ فالشكلُ لا ينفصلُ عن المضمون. وظاهرُ الأمر أنَّ الاحتلال لم يُحقِّق غايتَه المُعلَنة فى غزة؛ إنما الجوهر أنه أصاب كلَّ ما يُريد وأكثر من الغايات المُضمَرة. وهو من جانبه لا يُصرِّح بالنصر طمعًا فى المزيد؛ بينما الفصائل لا تكتفى بإنكار الهزيمة، بقدر ما تُعلن انتصارَها فتُسوِّغ للعدوِّ مُرادَه، وتُضلِّل الصديقَ، وتخلطُ فى عينيه معانى الفوز والخسارة؛ فلا يتعلَّم من الدروس ولا يتجنَّب تكرارَها. وهكذا تمضى الفصائلُ من حربٍ لما بعدها، والقضيةُ تنتفخُ فى الدعاية وتتآكلُ على الأرض. واليوم يزدهرُ «حلُّ الدولتين» فى خطابات الساسة؛ لكنَّ الفجوةَ بين النظرية والتطبيق صارت أوسعَ من أىِّ وقتٍ مَضَى. وإذا كان الإنكارُ مُريحًا للنفوس الاستعراضيّة، والعاطفةُ فراشًا وثيرًا يتَّسع لنومها الهانئ وأحلامها الورديّة؛ فالواقع أنَّ نَسفَ الحلِّ الأمنىّ لم يُوفِّر الظروفَ اللازمةَ لبناء حلٍّ سياسى، والحرب إن انتهت اليوم أو غدًا؛ ستبدأ القضيةُ جولتَها الجديدةَ من نقطةٍ أسوأ ممَّا كانت عليه قبل الطوفان.
ربما أخطأ الرئيس عباس؛ إذ قال ما قاله بين القادة العرب، والأولويةُ وقتَها مَعقودةٌ لإدانة العدوان والبحث عن سُبل إيقافه؛ لكنَّ هذا لا ينفى حاجةَ الفلسطينيين إلى قَول ما لا يقوله غيرُهم، والضغط على جراحهم بكلِّ الأصابع الغليظة، وعلى وجه الاستعجال، بدءًا بإثارة مسألة الانقسام وأثرها على الأرض والقضية وصلابة البيئة الوطنية، مُرورًا بالتحالفات وانخراط البعض فى أجنداتٍ «فوق فلسطينية» وفوق عربية، وإلى الالتقاء على مفهومٍ ناضج وديناميكىٍّ للنضال، لا يضعُ السلاح فوق السياسة، أو العكس، ولا يستنكفُ المُراجعةَ، أو يتعالى على فضيلة الاعتراف بالخطأ، وفريضة الذهاب إلى التصحيح. نِصفُ القضيّة الفلسطينية فى تاريخها الطويل دماءٌ وأشلاء، والنصف أوهام وحنجوريّات، وللأسف دائمًا ما يُضيِّع الخُطباء تضحيات الشهداء. والصراحةُ على قسوتها تضمنُ أن تُحرِّرَ القضيّةُ ذاكرتَها من الاستقطاب والمُزايدة والشعبوية وتجارة العواطف والفتوحات الوهميّة، والأهمّ ألَّا تُلدَغ من الجُحر نفسِه عشرات المرَّات؛ كما اعتادت ويحدثها معها إلى اليوم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة