كما أكدنا فى مقالاتنا الخمسة السابقة، أن إقحام الأديان السماوية فى التاريخ، وربطه (أى التاريخ) بالأحداث المسجلة نقشًا وكتابةً على جدران المعابد والمقابر والمسلات والتماثيل، والألواح الطينية والحجرية والجلود وورق البردى، إلى آخر الشواهد الأثرية، خطر شديد، وليس فى صالح الأديان السماوية على إطلاقه، فالأديان السماوية من صنع الله، بينما التاريخ إنتاج بشرى.
وفى سلسلة مقالاتنا عن الأديان السماوية والتاريخ، نصحح - وبشكل علمى - كثيرًا من المفاهيم، وندحض الادعاءات وما أُلصق بتاريخ مصر وآثارها من خزعبلات وترّهات تتصادم بعنف مع العلم وكل أدوات المنطق.
ولنتفق أن هناك فريقين أعتبرُهما متطرفين، الأول هم الذين يتدثرون بعباءة الدين، ويعتبرون أنفسهم المالك الحصرى للتحدث باسم الدين، فيحاولون التدليل بالتاريخ على حقائق القصص المذكورة فى الكتب المقدسة وفى القلب منها القرآن الكريم، وكأن القرآن يحتاج إلى دعم وتأكيد من التاريخ وما دُوِّن على الآثار، وهؤلاء متطرفون يسيئون للدين أكثر مما يسىء له أعداء الإسلام!
الفريق الثانى، هم الذين ينكرون أن هناك ديانات سماوية، وبعض أدعياء التنوير المتطرف، وهؤلاء يستعينون بالتاريخ وما هو مدوَّن على كل الشواهد الأثرية لتأكيد على صحة معتقدهم، والدليل أن التاريخ والآثار لم يسجلا شيئًا عن أى نبى، بل إن حادثًا جللًا مثل غرق الفرعون وجيشه الذى كان قوامه 600 ألف جندى، ابتلعهم البحر، ومع ذلك لم يسجله المصرى القديم على أى شاهد لا تلميحا ولا تصريحا!
الفريقان على باطل، ولا يمكن أن نعتد بأى رأى منهما، فلا يمكن أن نقول إن إوزوريس هو النبى إدريس، لأن ببساطة، قصة إيزيس وأوزوريس، أسطورة، أى ليست حقيقية، هدفها إبراز صراع الخير والشر، وأن الخير ينتصر فى النهاية، وهى القصة التى سنتحدث عنها لاحقا، ولا يمكن أيضًا قبولها من الناحية العلمية، والأدلة التاريخية، ما يردده البعض ومنهم للأسف الشديد، باحثون فى التاريخ، حول ما يطلق عليها إصطلاحا «لوحة المجاعة» المنحوتة فى الصخر بمنطقة جزيرة سهيل بأسوان، وهى أحد النقوش التى تروى قصة 7 سنوات عجاف سيطر فيها الجفاف على أرض مصر فى عهد الملك زوسر مؤسس الأسرة الثالثة، بأنها تسرد نبوءة نبى الله يوسف الواردة فى القرآن الكريم!
من حيث الشكل والمضمون، فإن ما تسرده لوحة المجاعة، هو ذاته ما سرده القرآن الكريم عن السنوات المجاعة «السبع العجاف» إبان وجود نبى الله يوسف فى مصر، والرؤية التى رواها ملك مصر، لسيدنا يوسف عليه السلام؟: ففى سورة يوسف الآية 43 يقول المولى عز وجل: «وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّى أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِى فِى رُؤْيَايَ إن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ».
وفسر سيدنا يوسف الحلم بأن مصر ستمرُّ بسنوات مجاعة تمتد سبع سنوات متتالية، وتحققت النبوءة.
هذه الرؤيا، هى ذاتها التى ذكرها الملك وفسرها النبى يوسف، وتسردها «لوحة المجاعة» بنفس التفاصيل، ما أثار التعجب، وبمجرد إعلان الاكتشاف، نال النقش شهرة طاغية بين علماء المصريات.
النص المنقوش على شكل لوحة صخرية، يتضمن 42 سطرًا، مكتوب بشكل عموى، أى يُقرأ من أعلى إلى أسفل، ويؤرَّخ النص المكتوب بعصر الملك بطليموس الثانى، ثانى ملوك البطالمة الذين حكموا بعد دخول الإسكندر الأكبر مصر 332 قبل الميلاد.
تسرد اللوحة، قصة مجاعة وقعت فى عهد الملك زوسر، أول ملوك الأسرة الثالثة من الدولة القديمة «2649 قبل الميلاد» وقد حدثت هذه المجاعة نتيجة انخفاض مياه النيل وانحسار الفيضان لمدة 7 سنوات متتالية فاشتدّ الضيق بالملك وساءت أحوال البلاد، وأرسل الملك يطلب من رئيس الكهنة أن يبحث الأمر لعله يجد حلًا لهذه المشكلة.
وتسرد اللوحة، أن الملك زوسر، رأى فى منامه الإله خنوم، إله منطقة الفنتين بأسوان، جاءه ليذكره بقوته وسيطرته على مياه النيل ومنابعه، وعندما استيقظ الملك زوسر، طلب من مستشاره إمحتب، ففسر له رؤياه، بأن الإله خنوم، هو المتحكم فى منابع النيل، وعليه أن يسترضيه بأن يوقف على عبادته ومعبده مساحات شاسعة من الأراضى الزراعية الخصبة وأمر بتقديم القرابين اللازمة له وأوقف أموالا كثيرة للصرف على كهنته، وحدث بالفعل.
التفسير العلمى للوحة انقسم حوله العلماء إلى فريقين، الأول يقوده العالم الفرنسى الشهير جاستون ماسبيرو، والذى يرى أن القصة ابتدعها كهنة «خنوم» فى منطقة الفنتين لاستعطاف ملوك البطالمة بعد أن طغت عليهم شهرة المعبودة إيزيس، وانصرفت إليها أنظار هؤلاء الملوك الذين أغدقوا على عبادتها بالقرابين والهدايا.
الفريقى الثانى، ويقوده العالم الألمانى كورت زيته، الذى يرى أن القصة أصلًا قديمة، وأن الأسلوب الذى كُتبت به اللوحة فى عصر البطالمة لا يخلو من تعبيرات الدولة القديمة ذاتها؛ ولذلك يعتقد أن للقصة أصل قديم كان مكتوبًا على الحجر أو غير الحجر، ولكنه تعرض للتلف بمرور الزمن.
هنا -وبشكل علمى - ندحض بالأدلة أن اللوحة ليست لها علاقة بنبى الله يوسف، بل من المستحيل أن تكون لها علاقة من قريب أو بعيد للأسباب التالية:
1 - اللوحة تسرد قصة دارت أحداثها عام «2649 قبل الميلاد» وهى الفترة التى لم يظهر فيها نبى الله يوسف فى مصر.
2 - اللوحة كتبت فى عهد البطالمة، تحديداً عام 332 قبل الميلاد، بعد دخول البطالمة مصر.
3 - اللوحة تصور شخصًا يقدم القرابين لثالوث أسوان «الإله خنوم والإلهة ساتت والإلهة عنقت» فلو أن اللوحة تسرد قصة سيدنا يوسف، فكيف يقف أمام آلهة من البشر ليقدم لهما قرابين؟ لذلك العلماء يؤكدون أن الذى يقف أمام الآلهة هو الملك زوسر.
وعليه فإن الربط بين قصة لوحة المجاعة، الأثرية، وبين قصة نبى الله يوسف الواردة فى القرآن الكريم، هو نوع من العبث، عبث بكل المقاييس العلمية والمنطقية، وخطر على الدين الإسلامى، لأن قصة الرؤيا سبقت وجود سيدنا يوسف فى مصر بمئات السنين، فهل القرآن أخذ بهذه القصة؟ المعلوم أن هناك تشابهًا بين القصتين فقط!
وللحديث بقية إن شاء الله.. إن كانت فى العمر بقية!