تحول كبير يمثله رفع دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، تحول مهم فى مسار القضية الفلسطينية، يفترض أن يجد اهتماما، ودعما، وتحركا إقليميا وعالميا، لأنه طريق قد يبدو صعبا لكنه فى الواقع يمكن أن يفتح مجالا أوسع للتعامل مع قضية مزمنة بالتفاف عالمى غير مسبوق، بجانب أن الدعوى أمام «العدل الدولية» يمكن - حالَ دعمها - أن تستقطب ملايين المواطنين فى العالم ممن اختلفوا مع أنظمتهم وحكوماتهم، وخرجوا ليعلنوا تضامنهم، وبعد أن اكتشفوا وتعرفوا على قضية شعب تم اقتلاعه من أرضه وممارسة أشد عمليات القتل والتشريد من احتلال استيطانى، لا يعترف بأى قوانين إنسانية.
الدعوى ضد الاحتلال الإسرائيلى رفعتها جنوب أفريقيا، وهى دولة عانى شعبها من التفرقة العنصرية والإبادة على يد العنصريين البيض، وبالتالى فإن جنوب أفريقيا ذاقت مرار التفرقة العنصرية، وخاض شعبها نضالا بدأ عنيفا، وانتهى سلميا، أثمر انتهاء العنصرية وانتصار قيم ومبادئ نيلسون مانديلا، أحد أعظم القادة السلميين على مدار التاريخ، ومن هنا فقد لفتت انتصارات جنوب أفريقيا الأنظار الى إمكانية أو تطابق الأوضاع بين فلسطين وجنوب أفريقيا، وأن الفلسطينيين يمكنهم أن يكرروا التجربة طبقا لتجاربهم وخبراتهم، وكانت هناك تيارات متنوعة داخل الفلسطينيين والعرب، تؤمن بهذا النضال الذى يمكنه أن يكون قادرا على التحرير، طالما كانت هناك قدرات واستمرارية.
وبالفعل فإن استعادة ما حققته الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية من المكاسب، بجانب أنها قدمت للعالم نماذج متنوعة فى كفاح لا يتوقف وقدرات هائلة على التجمع والمواجهة والوحدة، الانتفاضات الفلسطينية وحدت الفلسطينيين قبل أن تظهر التقسيمات الفئوية والمذهبية والعرقية والمرجعيات المتحكمة، ونجحت صور الأطفال الفلسطينيين والشباب وهم يواجهون الدبابات والجنود الإسرائيليين بصدور عارية قادرة على إثارة تضامن العالم حتى قبل ظهور السوشيال ميديا وأدوات النشر والتواصل.
بدأت الانتفاضة الفلسطينية الأولى 8 ديسمبر 1987، وكانت الأكثر تأثيرا على المستوى الفلسطينى والعربى والدولى، ونقلت محطات وصحف العالم صورا وفيديوهات عن جنود مدججين يضربون ويسحلون ويقتلون أطفالا عزل إلا من حجارة، ونجحت «انتفاضة الحجارة» لأنها جمعت الفلسطينيين مع «القيادة الوطنية الموحدة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية»، بدأت فى جباليا بغزة، وانتقلت إلى كل مدن وقرى ومخيّمات فلسطين، ووصلت الانتفاضة إلى أعلى مستوى لها فى شهر فبراير 1988، وانتشرت صور لجنود يكسرون أذرع فلسطينيين عزل ودارت الصور حول العالم ما أثار مشاعر التعاطف مع الفلسطينيين ومثل فضيحة، لم تنته إلى بعد توقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، ولا تزال تمثل واحدة من أهم نماذج الكفاح السلمى الناجح، وصدرت مئات الكتب العربية والأجنبية حول الانتفاضة كشكل جديد للكفاح.
أما الانتفاضة الفلسطينية الثانية - أو «انتفاضة الأقصى» - فقد اندلعت فى 28 سبتمبر 2000 كانت شرارة اندلاعها دخول رئيس الوزراء الإسرائيلى وقتها أريل شارون إلى باحة المسجد الأقصى برفقة حراسه، وتجمهر جموع المصلين وبدأت الانتفاضة، وكان مشهد الطفل محمد الدرة وهو يسقط برصاص الإسرائيليين يوم 30 سبتمبر بين يدى والده الأعزل خلف برميل فارغ، أيقونة أشعلت العالم كله غضبا ورفضا للهمجية الإسرائيلية، وانتشرت الصورة وتصدرت كل نشرات الأخبار وواجهات الصحف، وساهمت فى استمرار وتصاعد لانتفاضة، التى استمرت أكثر من 5 سنوات، واستشهد فيها 4412 فلسطينيا و49 ألف جريح، وقتل 1069 إسرائيليا بين جندى ومستوطن، وجرح 4500.
الآن وبعد أن اقتربت الحرب مما يقرب من 8 أشهر، واستشهد نحو 36 ألفا فى غزة وعشرات آلاف الجرحى، مع استمرار حرب الإبادة والحصار ومنع الطعام والشراب وهى جرائم ضد الإنسانية، تنكشف أمام العالم بشكل أكبر، وهو ما يعيد ضرورة التعلم من دروس الانتفاضات الفلسطينية، والدفع لدعم دعوى جنوب أفريقيا ضد الاحتلال وكشف الإبادة والعنصرية، وتمثل الدعوى تحولا كبيرا، خاصةً مع انضمام مصر للدعوى، وما تقدمه من أدلة تضاعف من كشف الاحتلال وعنصرية وتعمد إبادة الفلسطينيين فى غزة.
ولا يفترض التقليل من أهمية ما تمثله الدعوى أمام «العدل الدولية»، أو أن قراراتها التى صدرت بإدخال المساعدات أو وقف العدوان تواجه ازدواجية أمريكية، لأنها سوف تتطور ضمن آليات تجمع تأييد ودعما من مجتمعات غربية حتى فى الولايات المتحدة نفسها، كما أن الجلسات نجحت حتى الآن فى فضح أكاذيب إسرائيل وبرهنت على تعمد قتل الفلسطينيين ومنع الطعام والشراب والدواء عنهم، وهو ما كشفت الموقف المصرى، والذى يحمل إسرائيل ككيان محتل مسؤولية حياة وطعام وعلاج من تحتلهم.
كما أكد وفد جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية أن الاحتلال الإسرائيلى يرتكب جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب فى غزة، وقد أثرت الدعوى على إسرائيل، وضاعف من ارتباكها انضمام مصر كطرف لديه معلومات، بل كطرف فاعل وداعم للقضية الفلسطينية، ومارست إسرائيل ومعها الولايات المتحدة ضغوطا على محكمة العدل الدولية لرفض طلب جنوب أفريقيا الانسحاب من قطاع غزة، كما حاول الاحتلال اطلاق أكاذيب حول المعابر أو تراجع مصر عن الانضمام لجنوب أفريقيا وهو ما تم نفيه، حيث تواصل مصر بكل الطرق مساندة الفلسطينيين.
الشاهد أن الدعوى ومحكمة العدل الدولية فرصة للاحتشاد ضد احتلال من بقايا الاحتلال العنصرى للقرون الوسطى، يمكن أن ينتهى حال اعتقد الجميع بوحدة الهدف، خاصة أن هذه دعوى تخاطب المجتمعات التى أعلنت ولاتزال غضبها من الاحتلال الاستيطانى، وهو ما يجعل «العدل الدولية» متغيرا يفتح الباب لإنهاء الاحتلال.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة