معلوم أن حرب الاستنزاف نوع من الحروب تهدف إلى تقويض القوة العسكرية للخصم عبرَ استنزاف مقدراته عسكريا واقتصاديا ومعنويا، والمتتبع لما يحدث الآن خاصة في أوكرانيا وغزة يجد عودة قوية للصراع الدولي بين القوى الكبرى العالمية بعد ثلاثة عقود من الهيمنة الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة.
وأعتقد أيضا أنه بعد الصحوة من أوهام العالم الأحادى القطب، وسعى قوى عظمى لتشكيل مجلس إدارة جديد يقوم على تعدد الأقطاب، الولايات المتحدة قررت أن تشن حرب استنزاف جديدة تعلن من خلالها مرحلة جديدة من الصراع بين القوى الكبرى، التي تتنافس على الهيمنة السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والعلمية، والتكنولوجية.
ولذلك نرى الولايات المتحدة تسعى إلى استغلال كل الصراعات الإقليمية والحروب الصغيرة لإضعاف خصومها ولتحقيق مكاسب استراتيجية حاضرا ومستقبلا، وأول هذه المكاسب والذى بات واضحا جليا بعد اتفاق واشنطن مع أوكرانيا والذى مدته 10 أعوام، يؤكد رغبتها في إضعاف روسيا وعزلها دولياً خاصة أوروبياً وتشتيت انتباه الرئيس الروسى وتحجيم تدخله في بعض الأقاليم الهامة استراتيجياً بهدف إفقادها كثيراً من مقوماتها كدولة كبرى.
المكسب الاستراتيجي الآخر هو تحجيم الصين، لأن الحرب في أوكرانيا قد تفقد الصين حليفاً مهماً لها كان يدعمها دولياً وينسق معها المواقف الدبلوماسية، خلاف قضية تايوان ودعم الولايات المتحدة للجزيرة وتهديد مبدأ الصين الواحدة.
ومكسب استراتيجى ثالث وهو ضمان حيوية الناتو من جديد من خلال ضخم دماء جديده فيه، والعمل على دوران الحلفاء الغربيين في الفلك الأمريكي كما كانوا خلال العقود الماضية دون تمرد أحد على السياسة الأمريكية بعد أن ظهرت ملامح هذه التمرد فور خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى.
وماذا عن غزة بما أنها الحرب التى تتصدر اهتمام العالم الآن؟
أعتقد، أن كل المؤشرات والدلائل والسياسات الأمريكية تجاه ما يدور في غزة تؤكد أن واشنطن تعمل على استنزاف جميع أطراف حرب غزة - المباشرين والغير مباشرين - لتحقيق مكاسب إقليمية وعالمية، بالبنسبة للمكاسب الإقليمية تبدأ من حماية إسرائيل، لكن في نفس الوقت تعمل على استنزاف إسرائيل لتبقى تل أبيب تدور في الفلك الأمريكي ولا تخرج عنه لأنه لا يغفل عن أحد أن إسرائيل وصلت إلى مرحلة من القوة العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية تجعلها مختلفة عن إسرائيل منذ 20 عاما مثلا وهو ما تكشفه علاقة بايدن بنتنياهو وحالة التباين الواضحة.
إضافة إلى أن الولايات المتحدة تهدف من وراء تناقضاتها السياسية والإعلامية في التعامل مع حرب غزة أنها تريد من الأطراف الفاعلة فى الإقليم الدوران في الفلك الأمريكي خاصة في هذه المنطقة الحيوية، بمعنى آخر تريد أن تتحكم في الصراع دون أن تعمل على إنهائه.
لذا، علي العالم أن يعى خطورة حرب الاستنزاف الجديدة العالمية التي تقودها الولايات المتحدة والتى تستهدف أن يدور الكل في فلكها الحليف قبل العدو..