أنهى الملايين أمس السبت، وقوفهم على جبل عرفات، وتبدأ اليوم خطوات إنهاء فريضة الحج برمى الجمرات والإفاضة، لينتهى ركن الحج، الذى يعد أكثر الفرائض قدما، فهو فريضة تربط المسلمين بأبى الأنبياء إبراهيم الخليل، والطواف والسعى ما هما إلا استعادة لرحلة السيدة هاجر مع النبى إسماعيل بحثا عن الماء، وبعد سبعة أشواط يتفجر الماء بين قدمىّ الرضيع إسماعيل، لتبقى بئر زمزم ضمن معجزات الله بمياه تتدفق على مدى العصور.
الجزء الآخر من القصة هو امتثال إسماعيل للوحى، وتصديق أبيه إبراهيم، ويطيع إسماعيل الوحى حتى يفتديه الله.
الحج هو استعادة لقصة أبى الأنبياء، والذى وضع أساس البيت الحرام بمكة، فى واد غير ذى زرع، لكنه يدعو الله أن «يجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم»، ومن هنا فقد بقى الحج قائما وأفئدة الناس تهوى إلى البيت الحرام ويعيد ملايين البشر طوافا وسعيا ووقوفا بعرفات، والرجم والدعاء دائما.
وفى كل خطوة من خطوات إبراهيم، هناك حكمة وسؤال وإجابة، فقد اكتشف إبراهيمُ اللهَ بالسؤال، بل إنه جرب القمر والشمس قبل أن ينتقل إلى عبادة الله، ويتوالى الأنبياء من أبناء إبراهيم، ويبقى الحج ضمن فرائض المسلمين، ليعيدوا - أو يستعيدوا - أسئلة إبراهيم والفدى بدلا من الذبيح إسماعيل، ملايين يتركون عرفات ليتجهوا إلى المزدلفة ومنى ويرموا الجمرات، يحملون مشاعر واحدة ويدعون ويمتثلون فى سياق من الصبر والسعى والأمل فى المغفرة والمساواة.
وبالرغم من ثبات الخطوات والإجراءات فى الحج، فإن كل حاج يذهب، لديه تجربته الخاصة ومشاعره وطبيعة تفاعلاته مع مناسك الحج، وحتى تلقى الواقع بعد سنوات يكوِّن كل واحد عالم الحج فى خياله، لكن المؤكد أن أى شخص يذهب إلى الكعبة معتمرا أو حاجا يواجه عالما متشابكا من المشاعر والرسائل، لكن الأهم هو أن أى واحد يقرر ان يتعامل بمشاعره سوف يعيش تجربة شديدة الخصوصية تحاول أن تجيب عن أسئلة غالبا ما نظل نحملها بداخلنا، وهى أسئلة لا جناح على من يطرحها، لأن النبى إبراهيم هو نموذج معرفى يطرح الأسئلة مباشرة على الله ويتلقى أجوبة، بل حتى اليقين بعد السؤال يبقى علامة من علامات إبراهيم الخليل.
ينشغل كل حاج بنفسه فيما يشبه الحشر، ومن بين تجارب كثيرين تبقى نماذج الحجاج على فطرتهم وبلا ترتيب مع خشوع وإيمان، يتبعون فطرتهم بتأثر ويقين ودعوات صادقة بالغفران والإجابة، من بين الملايين يبقى الحجاج بفطرتهم عجائز وشيوخ، يطوفون ويدعون ويبكون تأثرا ورهبة، يطوفون ويسعون ومنهم من يعتبر الحج نهاية المطاف ومتعة العبادة، مع ثقة فى أن الله سيغفر لهم ويستجيب لدعائهم لأنفسهم ولكل من يحملهم أمانة الدعاء.
على مدار سنوات فى كل عمرة أو حج، كنت أتلقى رسائل وأدلة وبراهين على أن هناك الكثير مما يربط أرواحنا، بالآخرين، خاصة فى الطواف والسعى بين الصفا والمروة، غالبا ما ندعو لانفسنا وأهلنا ومعارفنا وكل من يطلب منا أو يحملنا أمانة الدعاء، وذكرت هذا مرات فى أثناء المشاعر ألمح أطيافا لراحلين، مرات لمحت إمى وأبى وإخوتى الراحلين وغيرهم من الأصدقاء والمعارف، بل إن هناك من يطفو اسمه وصورته على الذاكرة من دون دعوة، بل وألمح أصدقاء أحياء لا يكون الواحد منهم فى الحرم، بل ودعوات لبعض ممن لا يردون على الذهن كأن هناك من يدفنك ويملى عليك ما تقوله ومن تراه وتلتقى به ليطمئنك، أو يبلغك تماما مثلما تكون الأحلام خطوطا لتواصلنا مع الآخرين، فإن الحج يبقى أكثر الرسائل ربطا بين عالم الواقع وعالم الأرواح.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة