تسبحُ إسرائيلُ فى بحرٍ من الدم، هكذا كانت منذ نشأتها ولا جديدَ اليوم. الطعنةُ النافذةُ فى قلب غزَّة تكرارٌ لسوابق لا حصرَ لها، وخبراتُنا كلُّها تُؤكِّد أنَّ الحرب رياضةٌ مُحبَّبة للصهاينة؛ إذ يُحقِّقون فيها ما يشقُّ عليهم فى أزمنة الهدوء. والمسألةُ ليست أن تُعبِّر عن الصلابة إزاء عدوٍّ جارح؛ بقدر ما أن تقطعَ الطريق على نزواته كُلّما كان بإمكانك الخروج من نفق الصدامات الصفرية، إلى ترشيد كُلفة الوجيعة والخسائر التى لا تُفضى لمنفعةٍ ظاهرة. إمَّا أن يكون الموتُ سبيلاً لحياةٍ أفضل؛ أو أن تُنزَع صلاحيّةُ إصدار شهادات الوفاة المجَّانية من يد الاحتلال. أمَّا الحادثُ فإنَّه يتَّخذ صِفةَ الانتحار من نواحٍ عدَّة؛ لا لأنَّ أهل القضية قرَّروا أن يضعوا نقطةً غليظة فى آخر سطر التبجُّح والاستئساد، وأن يُفعِّلوا حقَّهم المشروع فى المُقاومة والصراخ لإسماع العالم؛ ولكن لأنَّ المُنازعة تُدارُ وفقَ حساباتٍ تتأخَّر فيها فلسطين لصالح بيئاتٍ وأجندات مُغايرة، وقد صُودِر قرارُ التصعيد والتهدئة من الواقفين على أطلال القطاع؛ ولو أنكروا، ودخلت على الخطِّ مُثيراتٌ أُخرى لها ظاهرٌ مُستقيم وباطنٌ مُناور؛ كما لو أنها تستتبعُ الغزِّيين رغمًا عن إرادتهم، وتُوظِّف مظالمهم العادلة لتمرير توازناتٍ إقليمية لا تخلو من انحرافاتٍ مُضمَرة.
القاتلُ وَضيعٌ كعادته ولا يحتكمُ لقواعد أو أخلاقيَّات؛ واللغزُ الغامض أنَّ القتلى يُلاقونه أحيانًا على المذبح بخُطىً لاهثةٍ وأعناق طَيِّعة.. واللوم هنا ليس على المدنيِّين العُزَّل، ولا حتى الفصائل التى ضاق بعضُها بالظٌّلم الفادح، وانخرطت بَقيَّتها فى محاور وأحلافٍ بدعاياتٍ مذهبيَّة وأطماعٍ عرقيَّة. المَحكُّ أنْ يكون الإسنادُ بريئًا ومُثمرًا فعلاً؛ وألَّا يقودَ لنزيفٍ مُضاعَفٍ ونكباتٍ مُتجدِّدة. والحال أنَّ الاشتباك مع المحنة الناشئة من رحم طوفانٍ سابق، لا يخلو من طُوفاناتٍ لاحقة. فالجبهاتُ الرديفة استجلبت المخاطرَ لساحاتها المأزومة فى العراق واليمن، وتضعُ لبنانَ بكامله فى عين العاصفة. وفضلاً على أنها لم تُنجز شيئًا حقيقيًّا لفائدة غزة؛ فإنها تُهدِّد القطاعَ وناسَه بمزيدٍ من المواجع والانكسارات. بالضبط مثلما قادت ليلةُ الصواريخ والمُسيَّرات فى أبريل الماضى لصَرفِ النظر عن المُعضلة الأصليّة، وترميم تحالُفات اليمين الصهيونىِّ مع حاضنته الغربية، وصولاً إلى تشجيع مُغامرته التالية فى رفح، وانفلاته المُتكرَّر من كلِّ مُحاولةٍ لاستيلاد صفقةٍ تُوقِفُ النارَ وتنهى المَقتَلة.
كان إقحامُ حزب الله فى المشهد مُرتبطًا بتوازناتٍ تخصُّ محورَ المُمانعة. أوَّلها الاستقامةُ أمام بيئته فيما يخصُّ شعارَ «وحدة الساحات»، فضلاً على أنَّ رأس الفريق الشيعى تتربَّح بالأصالةِ من فوضى غزَّة. أمَّا فى جَردة الحساب فلم يُخفِّف أثرَ اللوثة الصهيونية، أو يُبطِئ وتيرةَ الإبادة وشَطب الحياة والعمران فى أنحاء القطاع. تَفَجَّر الطوفان فى السابع من أكتوبر، وانخرط «نصر الله» سريعًا من اليوم التالى، وخلال الأشهر التسعة قُتِلَ وأُصِيب زهاء مائةٍ وأربعين ألفًا، وهُدِّمَت مئاتُ آلاف البيوت والمُنشآت العامة.. كلُّ ما قِيلَ فى أروقة المُمانعين كان بعيدًا تمامًا عمَّا أُدِير على الأرض، واللعبة التى ما أفادت فى جولتها الأولى، يُعادُ تنشيطُها لجولاتٍ تالية؛ بفارق أنَّ الذئبَ الجائع فى تلِّ أبيب صار يلتفتُ شمالاً، وأنَّ البيئةَ اللبنانية فى أغلبها الأعمّ تستشعرُ كما لو أنّها رهينةٌ بين عَدوِّين مَخبولين، والجميع يترقَّبون انفجارًا عاتيًا بين وقتٍ وآخر، لن يُضيفَ شيئا للواقعين تحت الاحتلال المُباشر فى غزَّة، كما لن يرحمَ المُحتَلّين بالوكالة فى لبنان.
دَرَجت المنطقةُ على التعايش مع الأوهام، وأن تُديرَ معاركَها فى الخيال قبل أن تخسرها فى الميدان. يشيعُ القول إنَّ إسرائيل تخشى الحروبَ الطويلة ولا تُجيد خوضَها أو تمتلك عُدّتَها؛ والأدقُّ لو قلنا إنها تتجنَّبها أو لا تُحبِّها، مع الاقتدار عليها بحسب الظروف والأحوال. الواقع أنها تستأسدُ على جبهتين منذ ثلاثة أرباع العام، وخسائرها فى الناحيتين أقلّ من خسائر الطرف الآخر. الإنكارُ هنا قد يُعبِّر عن خللٍ عقلىٍّ، أو انحرافٍ قِيَمى وأيديولوجى؛ بأكثر ممَّا يُشيرُ لقوَّةٍ واقتدار وصفاء فى الخطاب والسلوك. لدى الاحتلال كلُّ المُقوِّمات الكفيلة بإبقائه فى ساحة القتال أضعافَ ما أقام فيها، وأوَّلها الاقتصاد وقُدرات الجيش، والمنافع التى اعتاد أن يجنيها فوق الطَّلَل والأشلاء. لديه ملاءةٌ ذاتيّة واسعة، وحاضنةٌ راسخة لا تتقاعسُ عن الإسناد أو التعويض وتجديد خزَّانات عافيته. وفى المقابل؛ فإنَّ السائرين تحت راية المُمانعة يأخذون بالشعارات ما لا يتحصَّل بالعمل الجاد، ويُوضَعون فى محارق أرضية بأوامر تنتحلُ وجهًا سماويًّا، وبيئاتُهم هَشَّةٌ وحواضنهم مُتزعزعة، ويقيسون انتصاراتهم بهَدرِ الدولارات لدى الخصم؛ بينما لا يتوقَّفون لحظةً لتعداد الجُثث، والاعتذار لِمَنْ اتَّفقوا على موتهم دون مشاورتهم. ولا يُمكن أن تكون عادلةً أو عاقلة، تلك الحسبةُ التى نُعاير فيها ألفَ ضحيّةٍ مِنّا بواحدةٍ منهم.
ربما لا يُريد المُمانعون الانزلاقَ فى مُواجهةٍ شاملة؛ لكنهم يفعلون كلَّ ما يقودُهم إليها. حينما طَيّر حزب الله «هُدهُدَه» فوق حيفا؛ ليعودَ بما يُشبه بنكَ الأهداف، ثمَّ أذاعَ بعدَها رسالةً شبيهة «إلى من يَهُمّه الأمر»؛ كان فى الواقع يلتمسُ تَوازُنَ الرَّدع الذى لا يُفضى لتصعيدِ الاشتباك، وفيما وراء ذلك بدا كأنه يخترقُ المحظور، ويُؤكِّد لصقور اليمين الإسرائيلى مخاوفَهم بشأن الوكيل الرابض على حدودهم الشمالية. تقصَّد «نصر الله» أن يُخبرهم بانكشاف ترسانته الحربيَّة على عُمق جبهتهم الداخلية؛ فغذَّى لدى المُتطرِّفين منهم مَيلاً قديمًا لتعقيم التَّمَاس اللبنانى، وإنهاء المخاطر المُستقبلية من طوفانٍ آخر يفوق سابقَه حجمًا وأثرًا، وينفتحُ عليهم ممّا دون خطِّ الليطانى ليقطعَ أُصبع الجليل. والحال أنَّ مخابيل تل أبيب كانوا يرونَ الحزبَ مَلفًّا مُؤجَّلاً؛ ثمَّ صاروا يضعونه تحت بند الإلحاح، والأقربُ أنَّهم أصبحوا راغبين فى مُنازلته اليوم، بدلَ الانتظار عدَّة سنوات فتكونُ المخاطر وقتَها أعلى والآلامُ فوقَ الاحتمال. وهكذا يبدو الصدامُ وَشيكًا ووُجوبيًّا؛ أو أن يُستعَاضَ عنه بتفعيل القرار الأُمَمىِّ رقم 1701، الطالع من أنقاض حرب العام 2006؛ إنما بشروطٍ ومُواءماتٍ تُناسب السياقَ المُستجَدَّ وتُطوِّقُ مُثيراته المُقلقة، وهو ما يرفضه السيِّد فى الضاحية، ولا يحوزُ مُوافقةً عليه من أسياده فى قيادة المحور.
تُدَارُ المسألةُ كلُّها فى نطاق المُغامرة العارية. مثلما أطلق «السنوار» عمليَّتَه فى غلاف غزَّة، مُستندًا لتطميناتِ الحُلفاء الشيعة، ومُراهنًا على أثر التشقُّقات الداخلية فى إسرائيل وقتَ الخلاف على مشروع الإصلاح القضائى، ثمَّ فُوجئ بخيانة الصديق والتئام جروح العدوِّ سريعًا؛ فإنَّ «نصر الله» يُعيد الكَرَّة بحساباتٍ شخصية لا تُعزِّزها أوراقُه الحاضرة، ولا يتوفَّر على ضمانةٍ لها من الرُّعاة ومُخرجات حواراتهم مع الشيطان الأمريكى الأكبر فى الغُرَف المُغلقة. وبالوتيرةِ نفسِها، أعادت واشنطن حاملتى الطائرات فورد وأيزنهاور إلى سواحل غزَّة وحيفا، مثلما فعلت فى زمن الطوفان الأوَّل، وجدَّدت رعايتَها للدولة الصهيونية، مع تأكيد التزامها بمُساندتها والدفاع عنها، وربما الانخراط معها فى الحرب بصورةٍ مُباشرة؛ لو انفتحَ القوسُ وتداخلت الجبهات.
موجةُ المُعارضة التى أغرت القسَّاميِّين ثمَّ تكسَّرت على صخرةِ الصدمة الأكتوبريّة، يُعادُ إنتاجُها اليوم بحذافيرها. استقال جانتس وآيزنكوت من مجلس الحرب، وتتعالى أصواتُ المُتظاهرين فى القدس وتل أبيب وأنحاء الأرض المُحتلَّة، والناظرُ من الخارج قد يرى بشائرَ الانقلاب على نتنياهو واقتراب تفكيك حكومته. أمَّا واقعُ الحال فيشيرُ إلى خطابه المُنتظَر أمام الكونجرس فى غضون أسابيع، ليستكملَ توطيد روابطه مع مراكز صُنع القرار فى الولايات المتحدة، وربما ترويض إدارة بايدن وحَرفُها عن عنادها ونبرتها العالية، وبالتزامن سيدخلُ الكنيست عُطلتَه الصيفية ابتداءً من 27 يوليو المقبل، ولمُدَّة شهرين؛ ما يعنى انتقال مهمَّة التشريع والانفراد بالقرار إلى زعيم الليكود، وانحلال قبضة المُعارضة وأدواتها البرلمانية، مع خُفوت أصوات المُمتعضين من داخل دائرة رئيس الوزراء. أمَّا الهَبّة الشعبية فقد تبرُد ما لم تُواكبها سخونة سياسية، كما أنَّ اشتعال جبهة الشمال سيتكفَّل بتحييد الرافضين، وترصيص الصفوف تحت شرط الأزمة، كما جرت العادةُ وأدار الصهاينةُ شُؤونَهم الرسمية منذ التأسيس.
سواء كان الأمرُ بالوفاقِ أو الشِّقاق؛ فإنَّ زيارة وزير الدفاع يوآف جالانت للعاصمة الأمريكية تُصلِّب ظَهر تل أبيب وتُصدِّع جُدران خُصومها، صحيح أنّه جنرالٌ مُمتعضٌ من الإدارة السياسية؛ لكنه يمينىٌّ وليكودىٌّ فى نهاية المطاف. ربما ترى الإدارةُ الديمقراطيّة فيه بديلاً مُناسبًا بعدما احترقت ورقة جانتس، أو تتَّخذه جِسرًا مرحليًّا لترشيد منسوب الجنون فى تل أبيب؛ لكنَّ المُعلَن أنه ذاهبٌ لترضية الحُلفاء ومُصالحتهم بعد تصريحات نتنياهو العدائية، وتسريع صفقات السلاح المُعلَّقة. وإذا أضفنا الزيارةَ إلى خطابِ الكونجرس وإجازة الكنيست وتجديد تعهُّدات الحماية من البيت الأبيض، مع سُخونة الجبهة الشمالية وانتقال الحرب المُرجَأة إلى نطاقِ المصلحة الذاتية المُباشرة والمُلحَّة لرئيس الحكومة؛ فكُلُّ الإشارات تُنذر بالتصعيد لا التهدئة، وبالتبعية بنزيفٍ مُضافٍ إلى خزَّان غزَّة، ومخاطر وجودية تلفُّ سماءَ لبنان. ولا يصحُّ هنا الاستنادُ إلى الحوثيِّين أو الحشد الشعبى، وألوية «زينبيون وفاطميون» الأفغانية الباكستانية، التى تتمركزُ فى سوريا وأبدت استعدادَها للقتال بجانب حزب الله؛ لأنها جميعًا ستُنعش سردية المظلوميَّة والمُحيط المُعادى التى يحترفُها الصهاينة، وقد تُعيدُ الحاضنةَ الغربيَّةَ إلى ما كانت عليه من سابق المُؤازرة، بالدبلوماسية والقوَّة، ومن دون اعتباراتٍ إنسانيّة أو أخلاقية.
وُضِعَ أخيرًا على مكتب نتنياهو تقريرٌ قديم، أعدَّته لائحةٌ من الخُبراء العسكريِّين والمدنيين، لصالح معهد سياسة مكافحة الإرهاب التابع لجامعة رايخمن. خُلاصتُه أنَّ الحرب مع حزب الله لها تكاليف باهظة؛ لكنها ربما تكون وجوبيَّةً وآمنة، على الأقل من زاوية إمكان الانتصار النهائىِّ، وتحييد الجبهة الشمالية فى آخر المطاف. يستعرضُ المُشاركون تحدِّيات الجبهة، وشُروطَ النصر، وبالنظر إلى ما صار معروفًا وأعلنَه الحزبُ بنفسه فى حركة الهُدهُد الاستعراضية؛ فالاحتلال صار عليمًا بمقدار القوَّة المُضادَّة وتطلُّعاتها وحدود وُصولها، وفى ضوء ذلك يُمكن التنبّؤ بطبيعة اشتباكه معها أو ردِّه الاستباقى عليها. سيعملُ فى الغالب على تجريف الجنوب وصولاً إلى نهر الليطانى، وقد يُمدِّد عملياته ناحية صيدا والبقاع والضاحية وغيرها، وسيعتمدُ تكنيكًا عمادُه القَصفُ النيرانىُّ المُكثَّف، واستهداف المخازن ومنصَّات الإطلاق والتمركُزات القائمة على المُرتفعات، وقد يتجنَّب المساس بالدولة اللبنانية فى بادئ الأمر؛ إنما بحسب التطوُّرات ربما يعودُ لاستغلال ذلك فى تهييج البيئة الداخلية وتأليب الحاضنة الشعبية على الحزب.
لا يمكنُ التغافُل عن توازناتِ القُوَى، ولا الارتكان إلى الساحات الرديفة. مُقابل الميليشيَّات الشيعيَّة سيجدُ الاحتلالُ طابورًا داعمًا من الولايات المُتَّحدة وأوروبا؛ أمَّا بالاعتماد على النفس فالفارقُ كاسح. ولا ينحصرُ التقويم فى قوَّة الجيش وقُدراته، وحجم الاقتصاد والاحتياطى، وُصولاً إلى القُدرة على احتمال الأضرار والمدى المُتاح للعودة والتشافى مُجدَّدًا. هنا ربما يكون مُفيدًا أنْ نُقارن من منطلقاتٍ أبسط كثيرًا؛ كأن نَنظُرَ فى حال النازحين على الناحيتين. سُكَّان مستوطنات الشمال وُضِعوا فى فنادق ويتلقَّون مُسانداتٍ ماليَّة ورعايةً حكوميّة رفيعة المستوى، وأهلُ جنوب لبنان مُشرَّدون فى أنحاء البلد تحت أوضاعٍ مُزرية، ولم يتكفَّل بهم الحزبُ ولا مُموّلوه الأكابر. وإذا كان التهديد بضرب مُستودعات النفط ومحطَّات الكهرباء الإسرائيلية؛ فالناحية المُقابلة لا وقودَ فيها ولا إنارة تقريبًا. وهنا يبدو الفارقُ صارخًا بين الدولة الرشيدة وإن كانت مُغتصِبَةً وظالمةً، والميليشيا مهما تستَّرَت بالشعارات البيضاء والقضايا العادلة.
المُغرَمون بالبطولات الوهميَّة لن يُعجبَهم خطابُ العقل، وسيقفزون بالضرورة على حقيقة أنَّ الحزب يأتمرُ من خارج لبنان؛ مثلما يستجيبُ «السنوار» اليوم لإرادةٍ فوق فلسطينية، وبعدما أبدت «حماس» قبولاً لخطَّة بايدن، عادت إلى الصلابة القديمة وغير المُبرَّرة بعدما تلقَّت من قيادة المحور الشيعى ما يُفيد برفضَها للتهدئة. وإذا كان مُنتهى آمال الحركة اليوم أن تتوقَّف الحربُ وينسحبَ الاحتلال؛ فإنها الحالة التى كانت عليها غزَّة حتى السادس من أكتوبر، ما يعنى أنَّ «الطوفان» كان مُقامرةً من دون غايةٍ أو استراتيجية أو برنامج سياسى. وإذا حَقّ للمُمانعين أن يُدِيروا نزواتهم كيفما أرادوا؛ فليس من حقِّ أحدٍ فى القطاع أن يُجبِرَ الناسَ على استمراء اللعبة الخَطِرة، ولا أن ينتقلوا مُستقبلاً من موقع المنكوب؛ ليصيروا جبهةَ إسنادٍ ومُشاغلة لصالح الحزب بالأمر. والصهاينةُ لأنهم مخابيلُ ولا يدفعونَ من جيوبهم، ودماؤهم معصومةٌ أكثر من دمائنا؛ فالبقاء على جبهة القتال أفضلُ وأنفعُ لكثيرين منهم عن مُغادرتها، وقد صاروا مُتَّفقين جميعًا على إفناء الفصائل وإنهاء حلِّ الدولتين، ولا يختلفون إلَّا فى إيقاع الإنجاز ومَوقع أسراهم من المُعادلة.
الامتحان الواجبُ يقعُ فى حيِّز الإنقاذ لا الإيغال.. أن نبحثَ كيف تُسحَبُ غزّة ممّا أحاق بها عاجلاً غير آجل، وأن تُرسَم معالمُ واضحةٌ لطريقها إلى المستقبل. هكذا فالإخلاص الحقُّ شرطُه القطيعة مع كلِّ ما يُضادّ أولوية الهُدنة، أو يستثمر فى إطالة النزاع. وباختصار؛ فكلُّ المُتأخرين عن فَصل الساحات عن بعضها، وتجنيب الغزِّيين كُلفةَ الانضواء تحت رايةٍ سوداء لا تُشبه علمَ دولتهم، ولا تعرفُ عن خريطتها سوى أنها أداةٌ للمُناكفة وتحصيل المنافع؛ إنما يلعبون فى فريق الأعداء ولو تصوّروا العكس.. الحماقةُ أن يُوضَع البيضُ فى سلّةٍ واحدة؛ طالما أنه على موعدةٍ مع حجرٍ يسّاقَطُ من الأعالى. وما فعله المُمانعون أنهم ربطوا أهدافهم بأطراف القطاع، ثمَّ دفعوها على المُنحدر فتَدَحرَجَ البلدُ وأهله من هاويةٍ لِمَا بعدها، وإذ يدخلُ الحزب على الخطِّ اليوم فكأنَّه حَجرٌ آخر يسقطُ على الرؤوس، وليس مِهادًا يمتصُّ سُقوطَهم ويُقيلهم من العثرات. إذا قابلتَ عَدوًّا مَخبولاً وأكثر عافيةً؛ فلا مجدَ لمُنافسته فى الجنون أو التفاخر باحتمال اللكمات. ما خدمَ فلسطينَ إلَّا أهلها ومُحيطها العربى، ولم تنتفع يومًا من خطاب المُمانعة وممارستها، والحال أنَّ تقييدَ القضية عنوةً بأقدام الميليشيات وأصحاب العمائم السوداء، أغبى ما يُمكن أن يحدث للمنكوبين بين النهر والبحر، ولا طريقَ ولا أمل إلَّا بفصل الساحات؛ إذ دعاياتُ الوحدةِ ما فُسِّرت إلَّا على معنى أن يموتَ الأبرياءُ هنا، ويتربَّح الأشقياءُ هناك.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة