لعلَّه كان الشهرَ الأطولَ على الدكتور مصطفى مدبولى، منذ تلقَّى تكليفَ الرئيس السيسى بتشكيل حكومته الثانية، وإلى أن وقفَ اليومَ مع وزرائه الجُدد فى مراسم أداء اليمين. ومعيارُ المُفاضلة فى المَشَقَّة إنما ينبعُ من أنه أمامَ امتحانٍ غير كلِّ ما خاضه سابقًا، أوَّلاً لناحية التحدِّيات المُمتدَّة وتلك التى فرضتها ظروفٌ طارئة، ثمَّ لأنه طوال سِتِّ سنواتٍ على ناصية المسؤوليَّة اختبرَ الدولابَ التنفيذىَّ من داخله، وعاينَ الخَطَّ الكثيفَ وثِقَل الوطأة بين الإمكانات والآمال، والحكمةُ السيَّارةُ تقول «ليست المُعاينة كالخَبَر»؛ أمَّا الأهَمُّ فأنَّه مُحمَّلٌ بتكليفاتٍ رئاسيَّة مُحدَّثَة فى أولويَّاتها، ونَشِطة فى مطالبها، وتستجيبُ للتحوُّلات الظَّرفِيَّة بالتزاماتٍ مطلوبة على وجه السرعة، وتفرضُ العملَ من خلال برنامجٍ فَنِّى وزمنىٍّ، وأهدافٍ قابلة للقياس. فالرجلُ بخبراته الإدارية الطويلة، وزيرًا فرئيسًا للوزراة، يبدو كما لو أنه أمام تجربةٍ جديدة ومُختلفة تمامًا.
أكتبُ ظهيرةَ الثلاثاء، وقد تحدَّد موعدُ المراسم واتَّضَحت بعض ملامح التشكيل الجديد، وعندما تقرأُ المكتوبَ اليومَ سيكون المُختارون للحقبة الوزارية الجديدة قد أدَّوا اليمينَ بالفعل، وانتقلوا إلى اجتماعِ التعارُف الأوَّل بين الهيئة الجديدة، أو لاستكشاف مواقعهم وفِرَقِهم المُعاونة فى الوزارات، وبالتبعية لا معنى لأنْ أشتبكَ توقُّعًا أو تفضيلاً مع مسألة الاختيارات ونوعيَّة المُرشَّحين، أو الذين كانوا على لائحة الترشيح قبل أن يستقرَّ التشكيلُ بالفعل. المهمَّة الآن تتحوَّلُ بكاملها إلى النظر فى طبيعة الوجوه وخبراتهم، وفى الانسجام بين العناصر الآتين من حقولٍ شَتَّى؛ وقد صاروا فريقًا واحدًا، والانخراط فى الورشة التى ستدور على ترتيب الأهداف وطُرق الوصول إليها. فإذا كُنَّا فى الأسابيع الماضية قد تداولنا كثيرًا فيمَنْ يرحلُ أو يأتى، وفيما أحاط بالانتقاء من جهةِ الشكل أكثر من المضمون؛ فقد حُسِمَت المسألةُ الأُولَى عَمليًّا بالتسليم والتسلُّم، وبات نطاقُ الانشغال محصورًا فى الخطط وبرامج العمل، وفى التقسيم المرحلىِّ للغايات والالتزامات، والفلسفة التى يتعيَّن أن تُديرَ بها الوزارةُ الجديدة علاقاتها، فيما بينها، وفى المجال العام مع القوى السياسية والشارع، والجميعُ عند أعلى نقطةٍ من الحذر والتطلُّعات، كما لا يخلو الأمرُ بطبيعة الحال من بعض الترصُّد والاستهداف.
بحسبِ ما نُقِلَ عن مصدرٍ حُكومىٍّ مُطَّلع؛ فالحكومةُ الجديدةُ تشهَدُ تغييرًا شاملاً على تركيبة الطبعة الأُولى للدكتور مصطفى مدبولى، وفى مجلس المُحافظين أيضًا، فضلاً على الهَيْكَلة البنيويَّة بدمجِ وزاراتٍ واستحداث غيرها، ضمن رؤيةٍ لتحسين السياسات وآليات العمل، وأنها ستنخرطُ فى مهامِّها وفقَ برنامج مُرتَّب الأولويات، تتقدّمه مسألةُ تحسين الخدمات وما يتَّصل بمعيشة المواطنين، ولا تتأخَّر عنه اعتباراتُ استكمال الإصلاح الاقتصادىِّ وجَذب الاستثمارات. وبينما لا يبدو الكلامُ جديدًا؛ لناحية أنَّ شِقَّ المُستهدفات العُليا وردَ فى خطاب التكليف، وأنَّ موضوع التحوير فى البِنية تردَّد من داخل الحكومة وخارجها طوال الفترة الماضية؛ فإنَّ وُرودَ التفاصيل ضمن خبر الإعلان عن موعدِ القَسَم يُساقُ كبشارةٍ على التغيير فى المظهر والجوهر، وعلى أنَّ الدولابَ الجديد يأخذُ المسألة بجدِّية عالية، وتتبقَّى المُلاحظة بشأن المُواكبة الإعلامية لمداولات التشكيل، فيما يخصُّ الأفكارَ لا الأسماء، والهياكلَ لا شاغليها، بما يضعُ الجمهورَ فى قلب الصورةِ، ويقطعُ الطريقَ على المُستثمرين فى اللغط والشائعات، ومن تلك النقطة يتوجَّب الانطلاق فى المرحلة المقبلة، بإصلاح قنوات الاتصال والتوصيل، وهيكلة نظام الإعلام الحكومى وشبكة المتحدثين الرسميِّين؛ لتُمسك الحكومةُ بزمام المُبادرة فى الإفصاح وتغذية المجال العام بالمعلومات، بدلاً من إخلاء الساحة لقُطعان المنصَّات الرقمية، أو للناشطين من صغار السياسة والصحافة فى المساحة الفارغة بين الإدارة والشارع.
وبعيدًا من الأسئلة التى ستتوافرُ إجاباتُها بمُجرَّد الإعلان عن الهيئة الكاملة، وفيها خريطةُ الحقائب الجديدة بما تشملُه من دَمجٍ واستحداث، وتركيبة التوزيع السياسى والاختصاصىِّ بين قائمة الوزراء، ونِسَب النساء والشباب، وإن كان التشكيلُ يشتملُ على نوَّابٍ لمدبولى وفريقه الحكومى؛ فإنَّ مدارَ الاهتمام منذ اللحظة يتعيَّن أن ينصَبَّ على السياسات والبرامج، وما يفرضُ نفسَه على لائحة الأولويَّات العاجلة أو المُرجَأة نِسبيًّا، وماذا يريدُ الناس من الجهاز التنفيذى فى المرحلة المُقبلة. وكلها أمورٌ نسبيَّة يجوزُ فيها الاختلاف وتفاوت الآراء؛ لكنها سترسمُ معالم الطريق وتُتيح تصوُّرًا إجماليًّا عمَّا يُمكن إنجازه فى المَدَيين القريب والمُتوسِّط؛ لناحية تقييد الأزمات الطارئة، وبدء التحرُّك لمُداواتها والتشافى من آثارها، وتعميق الملفَّات ذات الطابع الاجتماعى بما أحرزته من نجاحات سابقة، وألَّا تنفصلَ حالُ الاقتصاد عن مسألة الأمن القومىِّ بكل أثقالها الطارئة من عدَّة جهات، لا سيَّما شَرقًا عند غزة، وجنوبًا فى السودان والبحر الأحمر.
السياقُ العام، محليًّا وإقليميًّا، يجعلُ من العمل الاعتيادىِّ لتنحية حكومةٍ وتكليف غيرها، حدثًا استثنائيًّا يكتسبُ قيمتَه من مقدار التحدِّيات والآمال. إنها هيئةٌ إداريَّة ذات طابعٍ سياسىٍّ بالتعريف، لكنها جبهةُ قتالٍ بالدور والالتزامات. وقلتُ سابقًا إنَّ على الدكتور مدبولى وكتيبته الجديدة أن يتعاملوا بمنطق حُكومة الحرب؛ فإذا كانوا فى أغلبهم من الخُبراء والفنيِّين، ويأتون فى زمنِ سِلمٍ واستقرارٍ على الجبهة الوطنية؛ فإنهم يشتبكون حُكْمًا مع أوضاعٍ خارجيَّة لها صِفةُ الفوضى والاحتدام، ولديهم جبهاتٌ مفتوحةٌ تنتظر ضخًا أكبر من الموارد والطاقات، وجبهاتٌ يُمكن تعليقُها أو تبريدُ حرارتها. والمهمَّة المُلحَّة تبدأُ من رَصد الشواغل والاهتمامات، وترتيب الأوراق بمعيار الأهمِّ فالمُهمّ، ثمَّ توجيه الإمكانات المُتاحة على قاعدةِ التناسُب والمُوازنة الدقيقة وفقَ رؤيةٍ عميقة وجادَّة، لا تغفَلُ قطعًا عن معيار الجدوى والعوائد طويلة المدى؛ إنما فى الوقت نفسه لا تتعالى على منطقِ الأدوار الوجوبيَّة غير المُثمرة أحيانًا، وأنَّ بعضَ الأبواب التى تبدو معنويّة فى مردودها، تتقدَّم أحيانًا أو لا تقلُّ أهميَّة عن غيرها كثيرة المزايا والمنافع.
لو سألنا عُمومَ الناس فلن نجدَ ملفًّا يتقدَّم على موضوع المعيشة، وتحديدًا ما يخصُّ الطاقة والأسعار. سيكون على الحكومة الجديدة أن تُولِى اهتمامًا مُضاعَفًا لتقليص تخفيف الأحمال وسرعة العودة إلى انتظامِ التيَّار الكهربائى، وقد أعلن رئيس الوزراء خطَّة زمنيّة مُتدرِّجة لإنهاء الأزمة فى غضون أسابيع، يُمكن البدء من تفعيلها والتزام مراحلها مُنطلَقًا لإبرام تعاقُدٍ إيجابىٍّ مُطمئن للشارع، ثمَّ الالتفات إلى تكاليف السلع والخدمات ومُعدَّلات زيادتها، وما يتَّصل من ذلك بضغوطِ النقد والإتاحة، أو بانفلات السوق وجشع التجار، وهنا يتمثَّل مجالُ الصعوبة والاستعجال فى السيطرة على مُؤشِّر التضخُّم، وأحدث الإحصائيَّات تُشير لاتِّخاذه مسارًا هُبوطيًّا على أساسٍ سَنَوى؛ إنما الظرفُ يتطلَّبُ تسريعَ الوتيرة بالعمل المُتكامل بين السياستين المالية والنقدية، وضَبط ملف الديون مع ترشيد عجز الموازنة، بما يسمحُ باستقرارٍ طويل المدى لسعر الصرف، وألَّا تضغطَ تكلفةُ خِدمة الدَّيْن على الاستثمارات العامة ومُخصَّصات الخدمات والرعاية الاجتماعية، ولا تُزاحِمُ الحكومةُ المُستثمرين فى ملاءة الإقراض المُتاحة. وبإيجازٍ؛ فإنَّ الاتجاه ناحيةَ شكلٍ من التقشُّف الحكومى، وكبح الإنفاق غير الضرورىِّ جُزئيًّا، قد يُؤتيان أثرًا سريعًا وملموسًا بأكثر من المُبالغة فى تحريك النموِّ بأدواتٍ لا تُناسب أزمنةَ الضغط ومراحل الأزمات الثقيلة والانتقالات الحَرجة.
وإذا كانت أولويَّاتُ الناس تنصرفُ بالضرورة إلى مَعَاشِهم، وحاجاتهم الوقتيَّة العاجلة؛ فإنَّ الدُّوَل لا تُدارُ يومًا بيومٍ، ولا على ميقاتِ الضرورة فحسب. والتكليفاتُ الرئاسية تضمَّنت أمورًا شديدةَ القيمة والحيويَّة، فيما يخصُّ المجالَ العام والأُسسَ الاجتماعية الصلبة، كالهويَّة والوعى والتفاعلية بين كلِّ الفئات ومع الدولة، ولعلَّ أهمَّها على الإطلاق ما ينطوى على توجيهٍ بالعمل على تحفيز المُشاركة السياسية، وهى لا تبدأُ من الانتخابات البرلمانية المُنتظرة فى العام المُقبل، إنما ينطلقُ الطريق إليها من الاتِّصال الدائم بالأحزاب والأفراد والمجتمع المدنى، والمُكاشفة الدؤوب والمُتجدِّدة بين الوزراء والجمهور، وأن تكون الأذرعُ التنفيذيَّةُ أكثرَ كفاءةً فى مُتابعة الرأى العام وقياسه وإجادة الحوار معه، ليشعُرَ الناسُ بأنهم جزءٌ عضوىٌّ من المنظومة ومُرحَّبٌ بهم بين مُكوِّناتها الفاعلة، من أوَّل النقد والاقتراح وإلى الترشُّح والتصويت. وإلى ذلك؛ فإنَّ محورَ بناء الإنسان يتوجَّب أن يكونَ هدفًا استراتيجيًّا رفيعًا فى ترتيبه والاشتغال عليه، لا سيَّما فى الثقافة والرياضة والفنون والخطاب الدينى، وقد يُفيدُ هنا أن تتشكَّل مجموعةٌ وزارية من الحقائب المعنيَّة بالملف، لغرضِ أنْ تتوافقَ الخطط وتتكاملَ الجهود، ويعمل الجميع فى سياق رؤيةٍ واحدة تُحقِّق الأثرَ المطلوب، ولا تأكلُ الطاقات الفرديَّة وتُبدِّد مفاعيلها. كما لا يغيبُ عن رأس القائمة أن تستكملَ الحكومةُ انخراطَها فى الورشة الإجماعية للحوار الوطنى، وما أفرزته من رؤىً ومُقترحات، أو ما تُبشِّر به فى المرحلة المقبلة من نقاشاتٍ مُعمَّقة، يمكنُ أن تكونَ خزّانًا مَعرفيًّا و«بنكَ أفكارٍ» للتنفيذيِّين وواضعى السياسات.
كانت الفكرةُ قبل سنتين أن يلتقى الجميعُ على طاولةٍ واحدة؛ لتذويب الخلافات وإعادة ترميم تحالف 30 يونيو، بصبغتِه المدنيَّة المُتوافقة فى الأولويات والخطوط العريضة. وبعد شهورٍ من الجلسات العامَّة والخاصّة، وحصيلةٍ مُعتبَرة من النقاشات والأُطروحات المرفوعة إلى القيادة السياسية، تطوَّرت المُمارسة واتَّخذ «الحوار» طابعًا مُؤسَّسيًّا، وتعمَّقت أهميّته مع توجيه الرئيس بأن يبحثَ مسائل الأمن القومى والسياسة الخارجية، بعدما كان مجلسُ أُمنائه قد أقرَّ بالإجماع أن يتجاوزها؛ لطابعها الحسَّاس وإدارتها الجيِّدة، قبل أن تفرضَ التطوُّرات الإقليمية أن تُثارَ الموضوعاتُ كلُّها على قاعدةِ المسؤولية التضامنيّة المُشتركة والاستفادة من كلِّ المعارف والخبرات. وهكذا فإنَّ المُؤسَّسة غير الرسمية قد صارت تشتبكُ مع المُؤسَّسات الرسمية فى كلِّ المجالات تقريبًا؛ صحيح أنها ليست كيانًا دستوريًّا ولا تنوبُ عن المَعنيِّين الأصليِّين؛ لكنها أقربُ إلى مجموعة خبرةٍ شديدة الاتِّساع فى تمثيلها وإمكاناتها، ويُمكن أن ترفدَ الحكومةَ بأوراقٍ ومُعالجات نوعيَّةٍ تغيبُ أحيانًا عن أذهان المسؤولين وأنظارهم، أو لا تُطرحُ بالطبيعة فى الأروقة النظاميَّة؛ لأنها تتحلَّل فى الغالب من كلِّ القيود الاعتبارات، وترفعُ الخيالَ المُنطلِقَ والعَصف الذهنىِّ والتفكير الحرِّ، فوق مُواءمات السُّلطة وواقعيَّتها وخيالها المُحافظ. وسيكون على الحكومة بمُوجَب التكليف الرئاسى، وبمَنطق المصلحة والحاجة الشخصية المُباشرة، أن تُكثِّف الاتِّصالَ بالمُتحاورين وتشتبكَ معهم عضويًّا، وأن تُركِّز على أدوار اللجنة المُشتركة بينهما لتفعيل مُخرجات المرحلة الماضية؛ لأجل أن تكونَ اتِّفاقَ صداقةٍ وشراكةٍ حقيقيَّتين فى المراحل التالية.
بحسبِ المُتاح لى قبل يومٍ من أداء اليمين؛ فإنَّ التشكيلَ الجديد يأتى بتغييرٍ يتجاوزُ ثلاثةَ أرباع الهيئة الوزارية القديمة، ما يعنى أننا إزاء ما يتراوح بين 20 و25 وزيرًا جديدًا. والأسماء التى تناهت لسَمْعِى مُبشّرةُ للغاية، لا سيِّما فى الأوقاف والتضامن والخارجية والمجموعة الاقتصادية. وإذا أضفنا اعتبارَ الدَّمْج الذى قد يشملُ قطاعات الصناعة والنقل والطاقة والهجرة، والاستحداث الذى قد يتركَّز على الاقتصاد وملف الاستثمار؛ فإننا بالتقريب أمام وزارةٍ مُغايرة تمامًا لحكومة مدبولى الأُولَى. ومن المُؤكَّد أنها لن تنطلقَ من فراغٍ، ولديها موضوعاتٌ عابرةٌ وتكليفاتٌ مُمتدَّة، وقضايا أجادت فيها وتحتاجُ لاستكمالها لا تغييرها؛ لكنها فى النهاية ستعملُ وُفقَ فلسفةٍ مُطوَّرة ورؤيةٍ تُقاطع السابقَ فى الكثير وتتقاطعُ معه فى القليل. وإذا كانت ملامحُ المرحلة الماضية أنها انطلقت بعنفوانٍ ودون قَيدٍ فى التنمية الكثيفة وواسعة المدى، رهانًا على الحجم والنوعيَّة معًا؛ فإنها فى التحدِّى الجديد ستكون معنيّةً أكثر بالكَيْف لا بالكَمِّ، وبالاشتغال على أزماتٍ مُحدَّدة بأهدافٍ مرحليَّة، لا على تحدِّيات عُموميَّة ببرامج مستقبلية طويلة المدى، وستكون مُلزمةً بحُكم الواقع أن تنظُرَ فى مواردها وإمكاناتها بتعمُّقٍ وموضوعيَّة، وتُعيد توجيهها بدقَّةٍ وحساباتٍ تحكمُها المُفاضلة والترتيب. ربَّما اختبر رئيسُ الوزراء أن يحلُمَ خارج الأُطر والقيود؛ لكنه فى نُسخته الثانية سيكون مُطالَبًا بالحلم على قدر الإمكانات، والواقعية بما يُناسب الامتحانات، وبوضع أهدافٍ عقلانية قابلة للقياس، على أن يكونَ إيقاعُ التقييم والتقويم أسرعَ وأكثر كفاءةً، مع القُدرة على التوقُّف والمُراجعة، والانتقاء من بين البدائل المُمكنة. وشجاعةُ الاعتراف بالمصاعب هنا، ربما تتقدَّم على شجاعة الاصطدام بالظروف والقفز عليها إنكارًا أو تهوينًا.
ليس تفصيلاً عابرًا أن تقف الحكومةُ الجديدة أمامَ الرئيس اليوم. إنه الثالث من يوليو، والذكرى الحادية عشرة لإتمام مشهد 30 يونيو الحاشد، ووضع الثورة المدنيَّة المُدهشة على طريق الانتصار وفرضِ برنامجها التصويبىِّ لما أفرزته «25 يناير» عندما تراخت أمام الرجعيَّة، وسمحت للإخوان بامتطاء ظهرها. المعنى أننا على العهدِ الذى أطاح الخطرَ الوجودىَّ، واحتملَ المَشَقَّة والأعباءَ كلَّها بإخلاصٍ واقتدار؛ لأجل استنقاذ الدولة من مسارٍ مجهول. أمَّا الرمزيّةُ وراء المشهد؛ فخُلاصتها أننا إزاء تأسيسٍ جديد، و«خارطة طريق» لا تقلُّ فى أهميَّتها عن الخارطة الأُولى. فإذا كان المُجتمعون فى صيف 2013 التأموا معًا لإنهاء مرحلةٍ وبداية أُخرى، وترجموا الإرادة الشعبية الهادرة رفضًا للإملاءات التى تَصِمُهم بالضعف، وكسرًا للقيود التى تُحجِّم خيالَهم وحُدودَ حركتهم، فالذين يُؤدِّون القسمَ اليومَ يُعيدون الحكايةَ نفسَها على وجهٍ آخر؛ والمخاطر التى تُطوّقنا من جهاتنا الأربع تلعبُ دور الإخوان، والأزماتُ الطارئة أو الوافدة تختبر قُدرتَنا على التكاتف والإجماع. والمقصود هنا أننا إذ نقفُ مَوقفًا شبيهًا بالمُؤتمر القديم، وكان له طابعُ السياسة والحرب معًا؛ فإننا بتكراره اليوم نستشعرُ تشابُه التحدِّيات، ونعترفُ بأننا على مُفتَرقِ طُرقٍ يستأهلُ الجدّية والتغيير، ونتشارك معًا فى ترسيم خريطة الخروج من الأزمة، واستعادة العافية.. إنها محطَّة بين زمنين، كان تثبيت الدولة واستعادة ثقتها فى نفسها عنوانًا للأول، وسيكون تكييفها مع الواقع وتمكينها من مُغالبته محورا للثانى. كل الأمنيات الطيِّبة للحكومة، ولليمين الدستورية المُؤداة بروحٍ ثورية، وللشارع الذى ينتظر من الوزراء الجُدد الكثير، وما يليقُ به وبهم وبالدولة أيضًا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة