حازم حسين

رقصة بالنار على كومة بارود.. «فخ نتنياهو» أكبر من اغتيال وأقل من إعلان حرب

الخميس، 01 أغسطس 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تجاوزتْ المنطقةُ صفيحَها الساخنَ إلى َمصدر النار مُباشرةً، ولم يعُد حائلٌ بين بارودِها والانفجار؛ اللهم إلَّا أن يقتنعَ كلُّ فريقٍ بحِصَّته من الهزيمة، وبأنه لا مُنتصرَ إطلاقًا، وقد اشتعلت الجغرافيا وشَبَّ التاريخُ على أطراف أصابعه، وتتوحَّشُ الأُصوليّة الجارحةُ فى الناحيتين.. لطالما احترفت إسرائيلُ العيشَ على حدِّ السِّكّين، وأتقنت لعبةَ الاستثمار فى الفوضى المُزجاة إليها، أو تخليقها قهرًا كلَّما آلت أمورُ المنطقة لشىءٍ من الترتيب. وإذ تُوغِلُ اليومَ فى جولةٍ جديدة منها، وعلى صفةٍ أشرس وأشدّ تبجُّحًا وخَلطًا للأوراق؛ فإنها تُمارس هُوايتَها المُفضَّلة والمُستحبَّة، بينما يبدو خصومُها كأنهم يُجرِّبون أنفسَهم فى مضمارٍ غريب، ويفتتحون صراعًا لا يقدرون على حَسْمِه أو إغلاقه. إنها واحدةٌ من امتحانات «عَضّ الأصابع«، لها عُمق النزاعات الوجودية، وظاهرُ الاستطلاع الخَشِن والحَسم بالنقاط، بينما سوابقُ التجربة تقطعُ بخِفَّة المُنازلة على أرضيَّة الغريم وبقوانينه المائلة، وتفرضُ الارتدادَ خطوةً للخلف، والتحلِّى بشجاعة الاعتراف بالخطأ والاجتهاد فى التصويب.

أدار نتنياهو تُروسَه على آخرها، وفى ليلةٍ واحدة أصاب الجبهةَ التى تُوصِّف نفسها بالمُمانَعة فى نقاطٍ قاتلة، ساعيًا من وراء الجنون إلى عَقلَنة الميدان على المُرتكزات التى ترضيه؛ وإلَّا فالبديلُ الجاهز أن يُسرَق مُناوئوه بالعاطفة المُلتاعة، وأن يجرفهم الدمُ الساخنُ إلى زاوية الاحتراق الكامل. كأنه يُراهنُ بكلِّ ما فى حوزته من أوراقِ قوَّةٍ وعناصر ضَعف؛ فإمَّا يتسيَّدُ المجالَ الحيوى للصراع من مركزه إلى أطرافه، أو يُغذّى فوائضَه من البأس والدعاية ورغبة الثأر، وصولاً للّحظة الحَرِجة التى يصيرُ عندها الانفجارُ قدرًا مَحتومًا، واستدعاءُ اللاعبين الخارجيِّين مَخرجًا أخيرًا من مُعادلة التوازنات المُختلَّة. وهكذا يتصوَّرُ أنَّ بإمكانه إعادة بناء مُعادلة الرَّدع، بيده العارية وحدها، أو بأيدى الأمريكيين معه، أو بإخضاع المحور الشيعىِّ تحت سقف الرِّضا بالخسائر القريبة بدلاً من المُغامرة مع الخطر البعيد، والمُراد هنا أن يبتلعَ المُمانعون مرارةَ حُلوقهم، أو يتبرَّعوا بما تبقَّى فى شرايينهم لحقبةٍ سائلةٍ من النزيف العارم.

خُلاصةُ الليلة الدامية أنهم قَتَلوا مسؤولاً رفيعًا بحزب الله فى قلب الضاحية، ووقفوا على جُثّته مُفاخرين بالضربة وحصادها، بينما أتبعوها بهجماتٍ على مَعقلٍ للكتائب الشيعيَّة فى العراق دون تعقيبٍ، وحَيَّدوا إسماعيل هَنيَّة فى طهران مع مُواكبةٍ إعلاميّة مُراوغة، لا تُنكر الجريمة ولا تعترفُ بها صراحةً. وبعيدًا من حسبة الخسائر؛ فالمُعالجةُ لها طابعٌ دعائىٌّ يتجاوزُ طبيعتَها المادية، وهى أشبهُ بإغارةٍ شاملة على كلِّ الخواصر الهَشَّة دفعةً واحدة، لإيصال رسالةٍ لا تقبلُ التأويل عن فَتح الميدان على كلِّ الاحتمالات، واختراق أعمق تحصينات العدوِّ ورمزيَّات قوَّته، والذهاب نحو مرحلةٍ لا تعترفُ بقواعد الاشتباك السابقة، ولا تُوفِّر هدفًا خارج نطاق القَنص. لم تكن غزَّة بعيدةً عن أجواء الإحماءِ الصاخبة، كعادتها لعشرةِ أشهُرٍ لم تعرفْ فيها النومَ إلَّا على إيقاع القنابل، أمَّا سوريا فإنها فى مجال الاستهداف الدورىِّ، والحوثيِّون أقلُّ من الاهتمام وأبعدُ من التهديد، وتُطوِّقُهم أساطيلُ الحُلفاء لدرجة الاختناق. وهكذا يُمكن القول إنَّ القصفَ طالَ 3 دول وتردَّدت أصداؤه فى سِتّة؛ فكأنّه إعلانٌ لحربٍ كاسحةٍ على شعار «وحدة الساحات«، بين الترويض بالنار، أو الارتداع بالصمت.

حتى اللحظة، لم تتأكَّد وفاة فؤاد شكر، أو الحاج محسن؛ لكنّ رمزيّة الهجمة أصابت هدفَها. فالحزبُ ليس آمنًا فى كلِّ النطاقات، وإذا كان الصراعُ دائرًا جنوبىَّ الليطانى؛ فالشَّرَرُ يتطايرُ وصولاً إلى «حارة حريك». وبالمثل؛ لا يجب أن يأمنَ الحماسيِّون على أنفسهم فى أىِّ مكان، ربما يصعُب استهدافُهم فى قطر أو تركيا لتوازناتٍ سياسية لا يُستَحَبّ تخطِّيها؛ إنما معنى المساس بهم فى طهران ينعكسُ على مرايا الدوحة وأنقرة أيضًا، ليُعيد ترتيبَ العلاقة مع فصائل المُقاومة وفق خيارىِّ الترويض أو الإزاحة. فالحال أنَّ تل أبيب تُثبِّتُ قاعدتَها القديمة بشأن الثأر، وأنها لا تنسى ولا تغفر، وتُلاحِقُ خصومَها فى المكان والزمان نحو نهايةٍ واحدة لا بديلَ عنها. صحيحٌ أنّه سلوكٌ مُتغطرِسٌ ومحمولٌ على البلطجة وتجاوز القانون؛ لكنّه الواقع الذى يُراد ترسيخُه فى وعى الجميع، وعليهم أن يرضخوا له بتسليمٍ كامل، أو يتحمَّلوا تكاليفَه بمُقامرةٍ خَطِرة!

فى التسبيب المُباشر، يُحمَلُ التصعيدُ الإسرائيلىُّ الأخير على حادثة «مجدل شمس»، وتحت مظلَّة الذَّوْد عن الجولان والغضب لدماء المُراهقين الدروز. ثمّة مُفارقةٌ غبيَّة أن يَسرقَ المُحتلُّ الأرضَ بِمَن عليها، ثمَّ يدَّعى أنه مهمومٌ بضحاياه الذين قتلهم الاحتلال قبل أن تقتُلَهم القذيفةُ المجهولة، وعندما يقتصُّ لهم فإنّه يضربُ بيئتَهم الأصيلةَ لحساب انتمائهم الإذعانىِّ المفروض عليهم غَصبًا. إنما خارج تلك المَلهاة المُؤسفة؛ فالواضح أنهم مُجرَّد تَكئةٍ لتمرير أجندةٍ سابقة التجهيز. لقد أعدَّ زعيمُ الليكود عُدَّتَه واستقرَّ على أهدافه قبل المَظلمة الدُّرزيّة أصلاً، وتحديدًا حينما وقفَ فى الكونجرس مُحاضرًا نوَّابَه، وزاجرًا الدولةَ الأمريكية بكاملها بعدما انقلبت آيَتُها، وصارت جَروًا يسيرُ فى ظلِّ الملك اليهودىِّ المجنون، عِوَضًا عن أن تُسيِّرَه بأثرِ المكانة أو بحَقِّ الإسناد الكاسح على الأقلّ. انتزعَ الرجلُ إرادةَ واشنطن من رجالها، وقرَّر لهم المسار الذى يتعيَّن عليهم أن يسلكوه؛ ثمَّ كانت ليلةُ نوافير الدم، المُتفجِّرة بامتداد الخريطة، عنوانًا على ترسيخ سرديَّته وإنفاذ ما رآه وأقرَّه بإرادةٍ فردية، وتفويضٍ منه لنفسه باسم الولايات المتحدة، وكلِّ السائرين فى ركابها من الغرب والشرق.

وقف الذئبُ العجوز على منصَّة الكابيتول؛ كأنه يدوسُ على عَلَم الاتِّحاد، وينتهكُ ذاكرةَ قرنين من الأُمثولة القيميَّة والحضارية، ونحو قرنٍ كاملٍ من الهيمنة والانفراد بقيادة العالم. قال كثيرًا من الكلام السخيف؛ لكنَّ أسخفَه أن يتَّهمَ المواطنين المُتظاهرين ضدَّه بالعمالة لإيران، وأن يذكرها فى خطابه زهاء عشرين مرَّة؛ كعنوانٍ على الشراكة فى العداوة وحُروب الهُويَّات، وأخيرًا جاء التبجُّح بأنّه يخوضُ معركتَه دِفاعًا عن أمريكا نفسها، لا عن إسرائيل فحسب. وفى ضوء البضاعة الفاسدة التى ألقاها على أسماع صفوة الأمريكيِّين، وأجبرَهم على شرائها بأضعاف قيمتها الحقيقية، أعاد رسمَ خُطَّته التكتيكية والاستراتيجية للصراع المُحتدِم فى أنحاء الإقليم؛ ولعلَّه استقرَّ فى يومها على رُزمة الأهداف الجديدة، وكتب اسمَى «هنيّة وشُكر» على ظَهر أوراقه التى امتلأ وجهُها بالهُراء سالف الذِّكْر.

أراد بالتصفية الجسدية أن يُجسِّدَ ما سرَّبه بالتضليل الدعائىِّ. وإذا كان فؤاد شكر أو الحاج محسن قيادةً حزبيّة رفيعةً، ويُوجِعُ «نصر الله« والملالى مثلما أوجعَهم قاسم سليمانى ورضا زاهدى وغيرهما؛ فإنه أيضًا هدفٌ مطلوب لواشنطن منذ ثلاثة عقود. كان صديقَ عماد مُغنية المُقرَّب، وشارك فى بناء الجهاز العسكرىِّ للحزب، وهو أرفعُ مُستشارى أمينه العام وبمنزلة رئيس أركانه وقائده الميدانىِّ، وتُلصَقُ به تُهمةُ المُشاركة فى استهداف مقرِّ المارينز فى بيروت أوائل الثمانينيَّات، ما أسقطَ نحو 241 من نُخبة الجيش الأمريكى، كما أنه موضوعٌ على لائحة المُكافآت بخمسة ملايين دولار منذ سنواتٍ طويلة، وفى قائمتى تصنيف الإرهاب والإرهابيِّين الدوليين منذ العقد الماضى، وبكلِّ تلك الصفات يبدو التطبيقَ الأمثلَ لنظرية نتنياهو فى حماية الولايات المتحدة والدفاع عنها، وبالتبعية فإنها لا يُمكن أن تُدِين العمليّةَ، ولا يصحُّ أن تتأخَّر فى إسناده تجاه تداعياتها، وهو ما حدثَ بالفعل عبر تحريك بوارجِها منذ الساعات الأُولى صوبَ السواحل اللبنانية؛ كأنها تُحذِّرُ الضاحيةَ وتُلوِّحُ من بعيدٍ لطهران.

أمَّا مسألةُ «هنيّة» فلا يُقصَدُ منها شخصُ الضحيَّة؛ بقدر ما أنها رسالةٌ فى صندوق الدولة الشيعيّة رأسًا. يَعرفُ الصهاينةُ أنَّ رئيسَ المكتب السياسى بالخارج على هامش حماس، ولم يعُد حاكمًا فى مشهدها منذ غادر القطاع لصالح السنوار، كما لا ولايةَ له على قرار الداخل بأيّة درجةٍ فاعلة. ما يعنى أنَّ بقاءه كإزاحته؛ لا أثرَ لهما ولا يُغيِّران شيئًا فى مُعادلة الحرب الغَزِّية. المقصود هُنا المساس برأس المُحور فى جُحره الآمن، وتلطيخ عمامتها بالوَحل والحطّ من كرامتها على مرأى الأطراف والذيول جميعًا، مع تأكيد أنَّ التوازنات القائمة تحرسُها التزاماتُ الارتداع من جانب الشيعة، لا مخاوف الصهيونيّة أو عجزها عن إعادة بناء المُعادلة على وجهٍ مُغاير.. وإذا كانت جرَّبَتْ من قبلُ بتصفية جوهرة المشروع النووىِّ، العالِم مُحسن فخرى زادة؛ فإنها اليومَ تختصمُ الغريمَ فى هامش الصورة لا مَتنِها، لإيصال المعنى دون تسخينِ قناة الاتِّصال لدرجة الحريق؛ إذ تعرفُ أنَّ الدمَ الفلسطينىَّ رخيصٌ على حلفائه الأُصوليِّين ولو ادَّعوا العكس، وغالبًا سيبتلعون مرارةَ الحادث بصَمتٍ مُطبق، أو برقصةٍ استعراضيّةٍ خفيفة بما يُجنِّبهم المَذَلَّة ولا يُبدِّل الإيقاعَ المُتَّفَق عليه.

وما وراءَ الرسائل أكثرُ إزعاجًا من نصوصها. سبقَ أنْ قتلَتْ إسرائيلُ قادةً ميدانيِّين فى جنوب لبنان، منهم وسام الطويل وطالب عبد الله وحسين برجى، وحتى عباس رعد نجل رئيس الكتلة النيابية للحزب، إنما كان ذلك بعيدًا من الضاحية، وحتى عندما اقتربت لم تتجاوز ضيفًا عابرًا من ذوى الدم الزهيد، عندما أَرْدَتْ صالح العارورى مطلعَ يناير الماضى. والجديدُ الآنَ أنها استهدَفَتْ نجمةً لامعةً على كتف حسن نصر الله، وفى أشدِّ معاقلِه تحصينًا، حارة حريك، والمعنى أنَّ دُرَّة التاج الشيعىِّ بين خيارين أدناهُما كابوس: الاختراق بالعُملاء والجواسيس، أو الانكشاف على استخبارات العدوِّ وفِرَقِه الميدانيّة وتقنياته الحديثة. وهكذا لا يعودُ سماحةُ السيِّدُ نفسُه آمنًا، وقد هدَّد الصهاينةُ غيرَ مرَّةٍ بأنهم يرصدون حركتَه، ويعرفون مَخابِئه، وقادرون على الوصول إليه حالما تنعَقِدُ الإرادةُ على إخراجه من المسرح. والمسألةُ ذاتُها تقريبًا فى المركز العتيد؛ إذ تُراقُ عِصمةُ إيران فى عاصمتها، ويومَ تنصيبِ رئيسِها الجديد.

قُتِلَ إسماعيل هنيَّة بصاروخٍ مُوجَّهٍ شديد الدقَّة؛ حتى يُقال إنه أصابَ سريرَه مُباشرةً، ولم يهدِمْ عليه بِنايةً أو يُحرِقْ غُرفةَ نَوم. والمعلومات المُتاحة أنه جاء من خارج الحدود، ولم ينطلقْ من داخل المجال الجوىِّ الإيرانى. وأقربُ نقاط التَّمَاس التى يُمكن أن تعملَ منها إسرائيل: مُثلَّث التقاطع بين العراق وسوريا ويبعُد ما لا يقل عن 700 كيلو متر، وأذربيجان أو سماء بحر قزوين وتفصلهما عن الهدف 500 كيلو متر على الأقل، بينما المدى إلى أفغانستان وباكستان أضعاف تلك المسافة، ولا علاقةَ لهما بتل أبيب أو وجود صهيونى يُمكن تحريكُه فيهما من الأرض أو الفضاء. وبافتراض أيسر الاحتمالات؛ فإن صاروخًا قطعَ مئات الكيلو مترات ليُصيبَ جسدًا فى رقدته، ما يعنى أنه عالى التقنية ومُزوَّد بإحداثياتٍ خالية من أىِّ هامش خطأ، وهنا نتحدَّثُ عن مستوىً مُتقدَّمٍ من الانكشاف لا يُوفِّره عناصرُ الموساد الميدانيِّون، ويستحيلُ أن يتوافرَ إلَّا من الدائرة اللصيقة بالهدف، أكانت من الحرس الثورىِّ أو من أمن الرئاسة. وفرضيَّةُ المُؤامرة والتسليم العَمدىِّ تبدو سخيفةً فعلاً، ولا سوابق لها فى سُلوك إيران؛ لكنها للمُفارقة البائسة تبدو أرحمَ وأقلَّ إيلامًا من بقيّة التفسيرات المُمكنة.

لنَقُل ما شِئنا عن خِفَّة المحور الشيعىِّ، وسذاجة دعايات وحدة الساحات، واسترخاص الدمِ العربىِّ لدرجة اتِّخاذه حَطَبًا لمدفأةٍ صَفَويَّةٍ تتدثَّرُ بالدِّين والتَّمَذهُب؛ لكنَّ كلَّ ذلك لا يُبرِّر توحُّشَ إسرائيل وانفلاتَها، ولا يعفيها من الإدانة والوَصْم وطلب المُساءلة الدولية. لقد استُدعِى «هنيَّة» على صِفة الأداة لا الشريك، لهذا وُضِعَ فى مَقرٍّ للمُحاربين القُدامى، وليس فى دار ضيافةٍ رئاسيّة أو فى فندقٍ مدنىٍّ ولا قاعدةٍ عسكرية. كأنَّ شُركاءه فى طهران يعدُّونه بين مُقاتلى الحرس الثورى، لا سياسيًّا حليفًا للدولة ويقفُ رأسًا برأسٍ مع قادتها السياسيِّين. وتلك النقطةُ، وإن كانت لا تُغيِّر شيئًا فى تكييف الجريمة الصهيونية؛ فإنها تفرضُ على الحماسيِّين وبقيّة الفصائل مُراجعةَ مواقفهم وتحالُفاتهم، واستشراف الزوايا كلِّها؛ للتفريق بين الجهة التى يُنظَرُ إليهم منها كأصحابِ قضيّةٍ ومُندوبين عن بلدٍ ضائع، من تلك التى تحسَبُهم فى زُمرة الجنود غير المعدودين، ولا تراهُم إلَّا وقودًا لمعركةٍ «فوق فلسطينية»، ومُعِينًا على مشروعٍ عِرقىٍّ يتمسَّحُ فى الحقوق العادلة وشعاراتها البرَّاقة.

فوَّتَتْه آلةُ القتل فى تركيا وقطر واقتنصَتْه فى طهران؛ لأنَّ المطلوبَ لديها أثر الدم لا حقيقته المادية، وكذلك الأمرُ فى مَظروف الضاحيَّة بمَكتوبه الأليم. قال مُتحدَّثُ الجيش العِبرىِّ إنَّهم لا يُريدون الحربَ مع لبنان؛ لكنهم جاهزون لها؛ وهكذا يقولُ الحزب أيضًا، وسيرُدُّ بالضرورة وينتظرُ رَدًّا على الردّ. لقد وَضَع نتنياهو واشنطن فى قلب المُواجهة، ويُريدُ التصعيدَ وتوسعةَ الميدان؛ إنما على صورةِ الضحيَّة لا مُشعِل النار. والولايات المُتَّحدة مُلتزمةٌ بأَمْن الحليف، وغير جاهزةٍ لنزواته، وعليه فإنها ستَعُمُد لدَوْزَنة الآلات وضَبط إيقاع المعزوفة، بما لا يسمحُ باختراق سَقف الاشتباك أو الإخلال بتوازُن الرُّعب؛ ليبقَى الطرفان مَردوعَيْن عن شهوة المُغامرة باستكشاف النطاقات الغامضة والمجهولة من قُدرات بعضهما. فى تجربة العام 2006 اختَطَفَ الحِزبُ جُنديِّيَن؛ فأشعلَتْ تلُّ أبيب الجبهةَ اللبنانية فى الساعة نفسها، والآن أفسحَتْ مُهلةً من ثلاثِ ليالٍ بين واقعة «مجدل شمس« والتعقيب عليها، وكأنها كانت تستطلعُ المَوجةَ الأمريكيَّة وتنتظرُ الإذن بالهجوم، وتبحثُ بالتبعيّة عن ضربةٍ نوعيَّة مُوجعةٍ، يُمكن أن تَمُرَّ بما يُمكِّنُها من ترميم «صورة الرَّدع» ولا يضغطُ على أعصابها المُتورِّمة بما يكفى. صحيحٌ أنها قادرةٌ على التهييج، وقائدُها راغبٌ فيه لهَوىً شخصىٍّ، لكنَّ تعقيدات الداخل لا تسمحُ بهذا، والمستوى العسكرىّ لا يُجارى نتنياهو فى تفاصيله. ولهذا يُمكن افتراض أنَّ المنطقةَ ليست ذاهبةً إلى صدامٍ إجبارىٍّ بالضرورة؛ بل ربما تَبرُد حرارتُها بعد عبور مرحلة اللوثة والضباب.

سَبَقَ أنْ أوقعَ الاحتلالُ عماد مغنية ومصطفى بدر الدين ومرَّت المسألة، ولطالما ابتلَعَتْ «حماس« فَيضًا من الاغتيالات الدنيئة، وهى اليومَ أحوجُ ما يكون للتهدئة. أمَّا نتنياهو فلديه صورة النصر التى أرادها، والكنيست فى عُطلته المَانِعة لإنفاذ تهديدات التوراتيِّين بتفكيك الائتلاف الحاكم، ولو نجحت واشنطن فى ترويضه فقد تفتحُ مسارًا للهُدنة الضائعة؛ أمَّا لو تمكَّن منها بإملاءاته؛ فربَّما يُورِّطُها فى معركةٍ غير مرغوبة. المنطقةُ مفتوحةٌ على كلِّ الاحتمالات؛ والمُؤسِفُ أنَّ المفاتيح كلَّها فى قبضة مخبول تل أبيب، لا بين أصابع المُمانَعَةِ النازفة؛ ولو ادَّعوا خلاف ذلك.. لا «شُكر وهَنيَّة« أوَّل القَتْلى ولا آخرهم، ولا المُقامرات الاستعراضيَّة أثمَرَتْ فيما مَضَى لتُثمِرَ فى الراهن أو المُقبل، إنّه الجنون الذى يرقُصُ بالنار على كومةِ بارود، ويُدير النزاع الوجودىَّ المُستحكم عَبَثًا وارتجالاً ويومًا بيوم، واستنقاذُ النفس والحاضنة القريبة هُنا بطولةٌ لا ضعف؛ أمَّا تمكينُ الغريم الهائج والمُغترّ بعنفوانه من تسديد «الضربة القاضية« فإنّه عينُ الغباوة والانتحار؛ على الأقلِّ لأنَّ الأمرَ يتجاوزُ التضحيات الشخصية إلى تقديم أُضحياتٍ وطنيّة سهلة، ونحرِ بلدانٍ وقضايا وحقوقٍ ليس لأحدٍ أن يضعَها على مذبح العدوِّ المُستبدّ، ولا فى مَهبِّ الأهواء والرهانات الخائبة.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة