الجميع يُحب الكلام، ويجد لذة في الكلام، ويشعر بحالة شغف أثناء الكلام، ولكن ليس كل الكلام، فأكثرهم شغفًا على الإطلاق هو الكلام عن أحوال الناس وظروفهم، وما آلت إليه حياتهم، وما طرأ على سلوكياتهم، فهذا هو لُبّ الكلام الذي يجد صدى لدى المُتحدث والمُستمع على حد سواء، ولا يهم إن كان هذا الكلام صحيحًا ومن مصدر موثوق منه أم لا، أو إذا كان يُفيد المُستمع في شيء أم لا، فالمُهم فقط هو الاسترسال بالمعلومات غير المُؤكدة، والتسلية بسيرة الناس وأخبارهم هو المناط الذي يسعى إليه الناس.
فقد جاء رجل لسُقراط يقول له بحماس شديد: "هل تعرف ما سمعته أخيرًا عن أحد تلاميذك؟"، أجابه سُقراط: "قبل أن تتكلم أريد أن أجري عليك اختبارًا بسيطًا وهو اختبار مصفاة المثلث"، سأله الرجل مندهشًا: "وما هو هذا الاختبار العجيب؟"، فأجابه سُقراط: "هو اختبار يجب أن نُجريه قبل أن تتكلم، سنبدأ في تصفية ما سوف تقوله، أول مصفاة اسمها "الحقيقة"، هل أنت مُتأكد أن ما ستقوله لي هو الحقيقة؟"، قال الرجل: "لست مُتأكدًا، أنا سمعته من..."، فقال سُقراط: " حسنًا، إذًا أنت لست واثقًا إن كان الأمر صحيحًا من عدمه". فانتقل إلى المصفاة الثانية وهي مصفاة "الخير"، هل ما ستقوله لي هو للخير؟"، فأجابه: "لا بل على العكس".
أكمل سُقراط: "حسنًا تريد أن تقول لي خبرًا سيئًا حتى وإن لم تكن مُتأكدًا من صحته؟ ومع ذلك فسوف تجرب المصفاة الأخيرة، وهي مصفاة "الفائدة"، هل ما ستقوله لي سيعُود عليَّ بالفائدة؟"، فأجاب الرجل في خجل: "لا ليس له فائدة".
ختم سُقراط حديثه قائلاً: "إذَا مادام ما تريد أن تقوله لست مُتأكدًا من حقيقته، ولا هو للخير، وليس له فائدة، فلماذا تُريدني أن أسمع"؟!.
وهكذا، لابد أن يُصفي الإنسان كلماته قبل أن يتفوه بها، ويمنح لنفسه المجال للتيقن من أن كلماته محل اهتمام المُستمع، وستعود عليه بالنفع، والأهم من ذلك أنها حقيقية ومن مصدر موثوق منه، وكذلك الأمر بالنسبة للمُستمع، عليه ألا يمنح أذنيه إلا للكلام الذي له قيمة، وسيأتي بثماره عليه، وإلا أهدر طاقته بدون جدوى، فغير ذلك يكون إهدارًا للوقت والجهد والعقل.