حمل الأب «على أفندى محمد» طفله فور ولادته، وراح يتمتم لنفسه ولمن يقفون حوله، قائلا: رغم أننى لم أرزق ببنات إلا أن هاتفا فى أعماقى يقول لى إنه ليس عاديا، ولقد سميت أخاه «عليا» ترى ماذا أسميه، وأفاق الأب ابن بلدة «كتامة الغاب» إحدى قرى طنطا بمحافظة الغربية على صوت «اللا لا» الزنجية مربية أولاده تقول فى رطانتها: ولماذا لا تنتظر رأى «حفيظة هانم» أمه، وصاحت حفيظة من الداخل فى وهن: مصطفى، سميه مصطفى يا على.
يلتفت «على محمد» فى خجل ويهمس قائلا: كنت أود تسميته «كامل» على اسم جدى، وترد المربية الزنجية فى بساطة، قائلة: وماله ليكن يا سيدى، ليكن «مصطفى كامل»، وهكذا خرج مصطفى كامل إلى النور فى 14 أغسطس، مثل هذا اليوم، 1874 بحى «الصليبيىة» بقسم الخليفة بالقاهرة، وأصبح فيما بعد زعيما للحركة الوطنية فى مصر، حسبما جاء فى العدد التذكارى رقم 1196 لمجلة الإذاعة، الصادر يوم 15 فبراير 1958 بعنوان «مصطفى كامل فى ذكراه الخمسين».
يذكر عبدالرحمن الرافعى، فى كتابه «مصطفى كامل باعث النهضة الوطنية»، أن على أفندى محمد كان ضابطا ومهندسا، جمع بين الصيغتين الحربية والملكية، إذ كان فى أواخر عهده بالحكومة مهندسا ملكيا، وكان معروفا بالاستقامة والشهامة وطيب العنصر والأخلاق الكريمة، وكان له الفضل فى ظهور مصطفى كامل، وكذلك كان لوالدته السيدة حفيظة كريمة المرحوم اليوزباشى محمد أفندى فهمى فضل كبير فى نشأته، وهى سيدة من فضليات النساء من جهة المحجر بالقاهرة بشارع الكومى.
يؤكد الرافعى، أن مصطفى كامل بدت عليه مخايل الذكاء والنجابة وقوة الذاكرة فى طفولته، وكان كثير الاهتمام بما يحدثه به أبوه من القصص على عادته مع أولاده، ويعى هذه القصص ويدركها تمام الإدراك وهو بعد لما يتجاوز الخامسة من عمره، وعهد أبوه وهو فى هذه السن إلى فقيه يدعى الشيخ أحمد السيد أن يعلمه فى المنزل مبادئ القراءة والكتابة، ويحفظه القرآن الكريم، ولما أتم السادسة أدخله مدرسة «والدة عباس الأول» الابتدائية بالصليبية.
يذكر الرافعى، أن والد مصطفى كامل توفى وكان الابن فى المدرسة الابتدائية، فحزن لوفاته حزنا عميقا، ودخل المدرسة التجهيزية «الخديوية»، وظهرت مواهبه من الشجاعة والجرأة والذكاء وقوة الذاكرة واستقلال الفكر وعلو النفس والصراحة فى القول، وحسن الإلقاء، فنال احترام الأساتذة والتلاميذ جميعا، وعرفه فى ذلك الحين على باشا مبارك وزير المعارف العمومية، فأعجب بفصاحته وشجاعته وقال له مرة «إنك امرؤ القيس».
نال شهادة الدراسة الثانوية «البكالوريا» صيف سنة 1891، ودخل مدرسة الحقوق الخديوية فى أكتوبر من تلك السنة، ونجح فى امتحان السنة الأولى، ثم التحق بمدرسة الحقوق الفرنسية فى أكتوبر سنة 1892، وجمع بين المدرستين، وحصل على شهادة الحقوق من كلية «تولوز» فى نوفمبر سنة 1894.
يعدد فتحى رضوان، ملامح تكوين مصطفى كامل فى طفولته، قائلا فى كتابه «مصطفى كامل»: «كان مصطفى كامل مناضلا فى حياته القصيرة التى دامت أربعة وثلاثين سنة، بدأت فى الرابع عشر من أغسطس سنة 1874، وانتهت فى العاشر من فبراير سنة 1908، بدأت والحر فى أعلى ذروته، وانتهت والبرد فى غاية قمته»، ويرى «رضوان»: «كان النضال مفتاح شخصيته، وقد صاحبه النضال منذ كان صبيا، بل منذ كان طفلا، فى طفولته كان يجلس مع إخوته حول أبيه، على طريقة تلك الأيام، حول صينية من النحاس عند تناول الطعام، وكانت هذه الصينية منقوشا عليها: «ملك عبدالرحمن الشنوانى سنة 114»، وكان الأطفال يتنافسون على الجلوس أمام هذا النقش، وكان مصطفى أصغرهم، وأحقهم بالتسليم بالهزيمة لأن الذين ينافسونه يكبرونه فى السن، لكنه كان عنده سلاح الثقة بالنفس، والإصرار على مغالبة الذين يكبرونه».
يضيف رضوان: «عرف مصطفى كامل كيف يصاحب الرجال من طفولته، فكان يصاحب أباه فى صلاة الفجر، واستطاع أن يحفظ ورد السحر، لشدة انتباهه إلى أبيه وهو يردده، ولأنه يود أن يكون كالكبار، فلا بد أن تكون له مؤهلاتهم، فيحفظ ما يحفظون، ويردد ما يرددون، ولما دخل المدرسة الابتدائية بعد أن كان قد حفظ شيئا من القرآن، كان صبيا ناضجا عرف من مبادئ المعرفة ما لا يحيط به أنداده، وربما لا يعرفه أستاذه، فقد كان أبوه يقص على أولاده القصص، ويروى لهم نوادر البطولة، وكان أخواه يطرفانه بالسهل اللطيف من حقائق العلم وغرائب التاريخ، وقد علمه هذا كله، ونمى عنده موهبة تجعل الصبى الصغير يبدو كبيرا، وهى موهبة التعبير الحسن».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة