حازم حسين

بحثا عن الهُدنة بين مُغرمين بالحرب.. جولة أخيرة لإنقاذ غزة من الحناجر والخناجر

الخميس، 15 أغسطس 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

اليوم أحدثُ المواعيد مع ورشة البحث عن تهدئةٍ فى غزَّة. أفاضَ الأمريكيون فى التعبير عن تفاؤلهم، وتعاطت الوساطةُ العربية مع الجولة بحقِّها الواجب من الجدّية والاهتمام، ولا شىء يضمنُ ألَّا يستمرّ نتنياهو فى مُراوغاته المعهودة. الحربُ تُفَّاحتُه المُغرية، وقد تسلَّق الشجرةَ لأجل اقتناصها، ولم يعُد يُريدُ النزولَ بعدما استوثقَ من أنه يربحُ بالجنون ما لا يُؤمِّنه التعقُّل، وأنَّ الحلفاء الغربيين الذين أرخوا له الحَبلَ مُبكِّرًا، باتوا عاجزين عن ترويضه أو كبح فوضاه العارمة، وبينما يسيرُ فى ظلالهم الوارفة؛ فإنَّ له يدًا عُليا عليهم، ويُنفذ إرادتَه فيما يتعارض مع أهدافهم الوقتية ومصالحهم الاستراتيجية، وللأسف يتعزَّزُ موقفُه بالخصوم العاجزين عن رَدعِه بالقوَّة أو السياسة؛ إذ يُلوِّحون بالأُولى دون مسارب بديلة للإفلات الآمن، ويزهدون الثانية دون مَقدرةٍ على الحَسم فى الميدان.


المُقاربةُ الجديدة ليست كسابقاتها، ولا تُشبه فى تفاصيلها كلَّ المواعيد التى طَيَّرها الاحتلالُ والفصائلُ طيلةَ الشهور الماضية؛ حتى مع بعض المُناكفات المُعتادة وأنماط الاستجابة والانفعالات المُتكرِّرة. والاختلافُ نابعٌ من تضاؤل هامش الوقت، وتَبَدُّل التركيبة السياسية فى واشنطن بأثر انسحاب بايدن من السباق الرئاسى، وحلول كامالا هاريس بديلاً فى مواجهة ترامب. فضلاً على تضخُّم الكُلفة الإنسانية فى القطاع بما يفوق الاحتمال، وعلى الاستعصاء المُتسَيِّد للجبهة اللبنانية، ومُحاولات إقحام إيران فى الحرب بصِفَةٍ مُباشرة، لا بالإسناد الدعائىِّ واللوجستىِّ الناعم لحماس، ولا بوكالةٍ عنيفة عبر الأذرُع والميليشيات السارحة فى أربعِ ساحاتٍ إقليمية رديفة. والنزاعُ فى حقيقته ليس بين الصهيونية والشيعية؛ بل بين الأُصوليَّة بأطيافها فى جانب، والمَدَنيَّة المُنحازة للحداثة وتحرير القضيَّة من الاستقطابات العقائدية فى الآخر. وهكذا قد لا تكونُ الصورةُ الفِعلِيَّة أنَّ «فريق الاعتدال» يسعى لإطفاء جمرة القتال بين جبهتين مُسلَّحَتَيْن؛ إنَّما الأدَقُّ أنه يخوضُ مَعركةً سياسيَّة سِلمِيَّة مع مُشعلى الحرائق، ويسعى على خُطى «برومثيوس» فى الأسطورة الإغريقية، ليسرِقَ النارَ من الآلهة المُتسلِّطة بغَرض تدفئة البشر المنكوبين، أو تجنيبهم ويلات الاحتراق بالنزوات والألاعيب الطائشة.


بطريقةٍ أو أُخرى؛ عُزِلَت ذاكرةُ النضال الفلسطينىِّ عن مُدوَّنة حماس، وبدا كما لو أنَّ الصراع يُبتَدَأً من محطَّة الفوز فى انتخابات 2006، أو على الأبعد من انطلاق الحركة فى أعقاب انتفاضة الحجارة. والانقطاعُ يُلبِّى حاجةً صهيونيَّةً رَكينةً؛ لناحية اختزال القضيَّة فى ثُنائيّة التضادّ العقائدىِّ، وإعادة اختراعها على وجهٍ أُصولىٍّ خالص، يُغيِّبُ الأرضَ والبشرَ، ويستحضرُ النصوصَ والمرويَّات الدينية وحدها. عندما استثمرَ زعيمُ الليكود فى الانقسام، ورَعَى السُّلطةَ الناشئة فى غزَّة، على حساب رام الله ومُنظَّمة التحرير، كان يُؤسِّس لسرديَّةٍ سيكون عنوانها تقزيم الجغرافيا وتطييف التاريخ، وغياب الشريك المُوحَّد على أجندةٍ جامعة، ما يعنى فى عُرفه أنه إزاء مُنازلةٍ أيديولوجية، لا ثورة «تحرَّرٍ وطنيٍّ» صافية. وانعكاساتُ ذلك على «طوفان الأقصى» أنّه اعتبرَه مُفتَتَحًا للأزمة لا تحصيلاً لجولاتها السالفة، بينما اعتبرَهُ القسَّاميِّون تأكيدًا لولايتهم المُطلقة على المجال العام، وتثبيتًا لحقِّهم فى إدارة الميدان بإرادةٍ فرديّة، واستحصال المكاسب المُمكنة بمعزلٍ عن الآخرين، فى الشواغل والأولويَّات. والآخرُ هنا كلُّ مَنْ يقعُ خارجَ الميثاق الحركى والدعائيّة الدينية، حتى لو كان حبيسًا معهم فى القطاع.


وُلِد رَضيعٌ جديدٌ للسنوار قبل أيَّام، وأسماه «إسماعيل» تبرُّكًا بسيرةِ سَلَفِه المقتول فى طهران أواخر يوليو، أو ترميزًا لفكرة الاتِّصال المبدئىِّ والنضالىِّ. للحَدَثِ بلاغةٌ تكتنزُ بمعانى الصبر والصمود والوفاء، وتَوَسُّل الحياة وقوّة البيولوجيا، بجانب السلاح والنار، فى مسيرةٍ نزاعيّة يعرفُ الواعون أنها طويلةٌ ومُعقَّدةٌ بالضرورة؛ إنما المعنى الضِّدّ لتلك الدلالات الوَرديَّة، أنَّ صاحبَ «الطوفان» وقائدَ الحركة الفِعلىَّ منذ عشرة أشهرٍ يعيشُ حياةً طبيعيَّة تمامًا مع أسرته فى الأنفاق، يُمارسُ صيرورتَه الجنسيَّة المُعتادة تحت القصف والنار وآهات القتلى، وتتمتَّعُ زوجتُه بحَملٍ هادئ ووُلادةٍ آمنة؛ بينما قريناتها فوقَ الأرض بين أرملةٍ ومُجهَضَةٍ وثَكْلَى، والأطفالُ يموتون جُوعًا ورُعبًا، والرجالُ لا يجدون ما يملأُ بطونَهم ويسترُ ذكورتَهم؛ ليُفكِّروا أصلاً فيما بين أفخاذهم وكيف يقضون وطرَهم. إنها المُفارقة نفسُها على الجانب الآخر؛ إذ يُقامرُ «نتنياهو» بأرواح أسراه، بعدما أرسل ابنَه المُدَلَّل إلى شواطئ ميامى الأمريكية، ويُطِلُّ من شُرفَتِه على أهالى المخطوفين يفترشون الشوارعَ ولا يتوقَّفون عن الصراخ. وإنْ تعذّرت المُساواة بين خِفَّة المُقاوِم واستخفاف المُحتَلّ؛ فالمُشتركَاتُ المَلْهَاوِيَّةُ بينهما ربَّما تُفسِّر بعضًا من سوكِهما المُعادى للمنطق، وقد بدا أنَّه لا يشعرُ بالنار فِعلاً إلَّا الذين يكبشونها، أو تُلقَى عليهم من البعيد والقريب دون فُرصَةٍ للاحتماء والهروب، أو حتى مُجرَّد الاستهجان والامتعاض.


كان رجلُ غزّة القوىُّ، يختبرُ فى أكتوبر ما وصلَ إليه عجوزُ تلِّ أبيب من هشاشةٍ وانكشاف. بيئتُه الداخليَّةُ مُشتعلةٌ بأثرِ مشروع الإصلاح القضائى، وقضايا الفساد المُرجَأة فى المحاكم تحتاجُ ما يُعيدها للواجهة، ونزاعاتُ اليمين مع الوَسَط مُستفحِلَةٌ إلى الحدِّ الذى يُهدِّد بانسدادٍ سياسىٍّ مع أىِّ تحفيزٍ بسيط. وفى المُقابل؛ تنشطُ الولايات المُتَّحدة فى أنحاء الإقليم لتسييد ورقة الاقتصاد على السياسة، وإعادة تحرير توازنات المنطقة وفقَ مُعادلةٍ تحتكمُ لمصالح أطرافها الفاعلة، بغَضِّ النظر عن فلسطين وقضيَّتِها وانقسامات فصائلها. الحماسيِّون ربما اعتبروها فُرصةً لعَضّ أصابع نتنياهو بينما تُكبِّلُه الاحتجاجات، والمُمانعون كانوا يتطلَّعون للشرارة التى ستُشعِلُ حقلَ القشّ، وتنسفُ مفاعيل الاتفاقات الإبراهيمية، ومُحاولات التقريب بين الرياض وتل أبيب. وعليه كانت الهجمةُ على غُلاف غزَّة عملاً سياسيًّا بأجندةٍ إقليمية؛ بأكثر ممَّا هى جولة وطنية بين جولاتٍ سابقة ولاحقة، والدليل أنها أثمرت فى أهدافها الخارجية، وعقَّدَتْ أمورَ الداخل أضعافَ ما كانت عليه. وبالمنطقِ نفسِه؛ كانت هُدنةُ نوفمبر الماضى مُختَبَرًا لجَسِّ النبض، وأقربَ لعمليَّةِ استطلاعٍ حربيّة من الطرفين، لا بحثًا جادًّا عن تبريدٍ حقيقىٍّ للميدان. أرادت الفصائلُ التقاطَ الأنفاس وترتيبَ الأوراق، وإفساحَ مُهلةٍ للحُلفاء أن يُراجِعوا مواقفَهم ويُعيدوا تنظيم خياراتهم، وأراد الائتلافُ الصهيونىُّ الحاكمُ أن يُحَدِّث تقديرَ الحالة، ويُبرِّدَ جبهتَه الغاضبة، ويُجدِّد الحاضنة الغربية ويضعَ خصومَه أمام تناقُضاتهم العميقة.


حصَّلَ كلُّ طَرفٍ ما أرادَه من أسبوع الوقفة المُؤقَّتة؛ فعاد الجنونُ ليُعلِنَ سيادتَه على ساحة القتال. ولنحو تسعةِ أشهُرٍ بعدها ما توقَّفت محاولاتُ التقريب بين الطرفين، ولا خَفَتَتْ ضرباتُ الإفساد من جانبهما. استُهلِكَت أسابيع عديدةٌ على شروط التجربة الأُوَلى والوحيدة؛ ثمَّ طُوِّرَتْ الأفكارُ فى لقاءى باريس، وأنجَزَتْ القاهرةُ عمليَّةَ تحكيكٍ دقيقةً للمُقترَحات وصولاً إلى ورقةٍ موضوعيّةٍ صالحةٍ للإنفاذ، تجادلَ فيها الاحتلالُ بظهيره الأنجلوساكسونى، والفصائلُ برُعاتها المُمانعين، وحينما لانَتْ الحركةُ قليلاً بحلول مايو الماضى، كان الزمنُ قد تجاوز اللحظةَ الحَرِجَةَ لإبرام الصفقة، وهكذا سارت الأمورُ بين شدٍّ وجَذب، يُرخِى أحدُهما حَبْلَ التشدُّدِ فيسحبُه الآخر، والعكس، ولا تصلُ القاطرةُ الضائعةُ إلى محطَّتها المأمولة، كما لا تتوقَّفُ عن الانحراف يومًا بعد آخر. والحقُّ أنَّ إسرائيل كانت الطرفَ الأكثرَ تطرُّفًا، ولها فى إزاحة التسوية وتقديم العُنف سَهْمٌ أكبرُ من غيرها؛ إنما لم تكُن التفاعلاتُ مِثاليّةً على الجانب الآخر أيضًا. عندما أعلنَ الحماسيِّون قبولَ الورقة المصرية، كان القسَّاميِّون قد استَبَقُوهم باستعراضٍ للألعاب النارية على أطراف إحدى القواعد العسكرية؛ فحفَّزوا مُيولَ نتنياهو العُدوانيَّة بأكثر ممّا هى مُتأجِّجة أصلا، ليُغادرَ الغُرفةَ ويجتاح رفح، وحينما رحَّبوا بورقة بايدن أواخر الشهر نفسه، خرجَ حليفُهم المُبجَّل آية الله على خامنئ، ليُعلِنَ قُدسيّةَ الحرب وأفضليّة استمرارها، فتلاقى مع الشيطان الأصغر على مهمَّة إفناء الملائكة المنكوبين فى غزَّة.


المُعضِلَةُ أنَّ الطرفين يرفضان الاعتراف بواقع الحال، واقتسامَ حظوظهما من المكاسب والإخفاقات على السواء. كلاهُما يتمسَّكُ بشَرط النصر الكامل، وهو إن كان لدى العدوِّ محصورًا فى تكسيح القطاع وإعادة القضية عُقودًا للوراء؛ فإنه فى عُرف «حماس» لا يتجاوزُ العودةَ لِمَا قبل السابع من أكتوبر، كأن «الطوفان» كان كابوسًا يُريدون الاستيقاظَ منه. كلاهُما يسعى لعَكس مسار الزمن، وإنْ تفاوتتْ الخياراتُ بينهما فى مقدار الرجوع. والحال أنَّ الهُدنةَ فى معناها المُباشر تثبيتٌ للحظة الآنية، ثمَّ دَفعٌ للخارطة بما عليها إلى الأمام. لكنَّ المُشكلةَ الأكبرَ أنَّ لا أحدَ منهما لديه تصوُّر واضحٌ عن «اليوم التالى»، وهكذا يصيرُ البقاءُ فى القناة المسدودة خيارًا آمنًا؛ بالقياس إلى كُلفة الخروج لمجالٍ مفتوح لا يُعرَفُ ما وراءه من مصاعبَ وامتحاناتٍ. ومن جديدٍ نقفُ أمام مُفارقةٍ مُوجعة؛ فالاحتلالُ يستمسكُ بالحربِ طمعًا فى إنجاز أجندته الإلغائية بكاملها، والمقاومةُ تتشبَّثُ بها خوفًا ممَّا تُخبئُه الأيام بعد توقُّفها، ومحورُ المُمانعة بين نارين: استمرارُ المَقتَلَة يُعَرِّيه ويخصمُ من أرصدته العاطفية، وكَبحُها يضعُه على الحلبة هدفًا بديلاً عن الفصائل الفلسطينية المُستَتْبَعَة؛ فإمَّا أن يُناضل بدماء الغزِّيين كما هى الحال الآن، وإمَّا أنْ يتبرَّع من شرايينه المُتغضِّنة؛ فيستنقذ الدعائيَّة التى أمَّنَتْ له التمَدُّد، ويُضحِّى بما يحوزُه من الإقليم بالفعل.


يتلاقى ثُلاثى الوساطة اليومَ على ورقة بايدن، وفيها ثلاثُ مراحل تبدأُ بتجميد الأوضاع وتبادُل الأَسْرى، ثمَّ تنتقل لوَقفِ النار المُستدَام وتعديل خطوط الانتشار، وبعدها عمليةُ الهندسة السياسيّة والإدارية للقطاع مع إنفاذ خطَّةٍ طويلة المَدَى للإعمار. وبينما يُرسلُ الصهاينة وفدًا لطاولة التفاوض، يغيبُ الحماسيِّون على المعنيين المادىِّ والرمزى. لقد كان المُعتاد أنْ يحضروا بصورة غير مُباشرة؛ لأنَّ الولايات المُتَّحدة تُصنِّف «حماس» كيانًا إرهابيًّا، ونتنياهو لن يجلسَ مع السنوار أو مَنْ ينوبُ عنه. إنما الواقع الآن أنَّ الحركة رفضت الجولة، وطالبت بالعودة شهرًا للوراء، بغضّ النظر عن تبدُّلات الأحوال وحركيّة الميدان، وهكذا لما تعُد طرفًا فى الجولة بالأصالة أو الوكالة. ومهمَّة الوسطاءِ ليست أن يُقدِّموا أطروحةً منطقيّةً مُقنعة فقط؛ إذ لن يخلو الأمرُ أبدًا من مُناكفة هُنا واستعصاءٍ هناك، ومن انكفاء طرفٍ عندما يتقدَّمُ الآخرُ مُستشعِرًا أنه حاز القطعةَ الأكبر من الكعكة. لهذا يبدأُ الحلُّ من ترويض مخابيل تل أبيب، ومن إنزال المُقاومة عن شجرة الشعارات التى زرعها لهم المُمانعون وغادروا، وفى الأُولى يقعُ العِبءُ على واشنطن أنْ تُفعِّلَ سُلطتَها على الصهيونية الحاكمة، وفى الثانية تتعيَّنُ زحزحةُ المُفاوض الغَزِّى عن الأجندة الشيعية، ومن دون إنجاز المسألتين بالتزامن؛ فقد لا يتيسَّرُ تحريكُ البيادق على رقعة الشطرنج المُلتهِبَة.


لا أحدَ يحتاجُ الهُدنةَ أكثر من غزّة وأهلها؛ إنما فى السياق الراهن تبدو مصلحةً إيرانيَّة، ولو بمعنىً مُعاكس. لقد وُضعِت طهران أمامَ امتحانٍ قاسٍ فى آخر أيام يوليو، وقُطِفَتْ أرفعُ رؤوس حماس فى أحضانها؛ فصار عليها الردُّ ثأرًا للضيف ودفاعًا عن كرامتها المُهدَرَة. وما جرى فى الأيَّام الماضية أنها رفعَتْ السقفَ عاليًا جدًّا، وتلقّت رسائلَ وتحذيراتٍ من جهات الأرض كلِّها، وبدا أنَّ المُقاربةَ الأخيرةَ التى توصَّلت إليها أنْ تتعلَّل بالمفاوضات لإرجاء هجمتها على أمل الإلغاء الكامل. مُشاركةُ حماس قد تُنجز اتفاقًا سريعًا يُعيدُها إلى حالة الاشتباك مُجدَّدًا، ويجب التحسُّب لذلك حتى مع ضعف احتمالاته، بينما غيابُها مع ارتفاع منسوب التوتُّر شمالاً قد يُحسِّنُ الشروطَ، ويُطيلُ مُهلةَ التحضير المشمولة بالصبر والسماح، بما يمتصُّ غضبةَ الحاضنة الشعبيَّة المُتأجِّجة عاطفيًّا، ويُنسِى المُتألِّمين من المحور وجيعةَ الصفعة الثقيلة فى الضاحية والعاصمة الأُمّ، وحال تحقُّق الصفقة فقد تكونُ التعويضَ المُريحَ عن دماء «هنيّة»، وعن الشرف المُراق تحت راية الشيعيَّة المُسلَّحة. ولو صحَّ التصوُّر فإنَّ نتنياهو لن يُبادرَ بإفشال الجولة سريعًا؛ إلا لو كان مُتعجِّلاً فعلاً لتوسعة الحرب، ولا قيمةَ هُنا لما يتردَّدُ فى الإعلام الصهيونىِّ عن وَضعِه شروطًا جديدةً تُعوُّق الوصول للتهدئة. سيسعى كعادته لاستنزاف الوقت بينما تتآكل الحركة فى الداخل، وتتفكَّك الساحات فى الخارج، ويُضيفُ الممانعون لفاتورة الهوان مزيدًا من تأثيرات انكشاف الذات وخذلان الحلفاء. أمَّا وقتما يستشعرُ الخطر، أو تتعاظَم الأطماعُ؛ فإنَّ زرَّ التفجير تحت إبهامه، والأساطيلَ الأمريكية على مرمى حجرٍ منه ومن الأعداء.


يصعُب التعويل على نتنياهو فى الجولة الراهنة؛ وقد تحسَّنت أوضاعه كثيرًا. خطابُ الكونجرس أعاد ترميمَ صورته، واغتيال هنيّة وفؤاد شكر حجَّم مُعارضيه، والتظاهرات تذبُل واستطلاعات الرأى تتقدَّم به وبالليكود إلى الأمام؛ ولو ببطء. لديه كلُّ الظروف المثالية التى تحقَّقت فى زمن «الطوفان»، العدوُّ على الجبهة الشمالية فى كامل عُدَّته، وسرديّة الخطر الوجودى صالحةٌ لإعادة الإنتاج والاستهلاك، بينما القطاعُ فى أسوأ حالاته الحربية والإنسانية، والمُمانعةُ كعادتها ترفع الحناجر بدلاً من الخناجر، وكلاهما يُؤجِّج المحرَقة ولا يُطفئها. هكذا لا يتوافرُ ما يُجبره على الانصياع، ولا ما يُغريه بالذهاب لتسويةٍ قد تفتحُ عليه أبواب جهنّم، إنْ بالمُساءلة عن الإخفاق والفساد، أو باستعادة الأجواء الطبيعية المُحفِّزة على البحث عن تجديدٍ سياسىٍّ وحكومةٍ مُحسَّنَة. وكُلَّما جاهرتْ «بنادقُ الصوت» بشعاراتِ البأس والرَّدْع ووحدة الساحات؛ يتصلَّبُ ظهرُ العدوِّ المخبول، وتستطيلُ أظفاره، وتنحلُّ قبضة رفاقِه ومُناوئيه عن مُنازعته فى قراراته النازية الحارقة.

إنه صراعٌ وجودىٌّ لن يُحسَم اليومَ ولا بالضربة القاضية، وإذا لم تستطع إفادته فى الراهن فلا تُصَعِّب المهمَّة على الأجيال المُقبلة. لا حاجةَ لنا إلى اختراع العجلة وتجريب الحقائق القاسية بكامل تكاليفها الباهظة، فقد صرنا نعرفُ بالخبرةِ والمُمارسةِ أن السيرَ فى ميدانٍ مُشتعِلٍ يحرقُ أقدامَ الحُفاة وحدهم، ولا يضرُّ مَنْ ينفُثُ النارَ من ضِفَّةٍ آمنة نسبيًّا؛ وهكذا يتوجَّبُ على من يُخلِصُ لفلسطين قولاً وفعلاً، أن يستميتَ فى بذلِ كلِّ ما يُوقِفُ المَقتَلَةَ ويضعُ ذئبَ الصهيونيَّة فى قفص السياسة، بدلاً من انفلاته الكاسح فى ساحة الحرب، ولا وجاهةَ هُنا للاستشهاد بسوابق الفشل، ولا بواقع المُكابرة والتوحُّش؛ إذ لسنا فى مُنافسةٍ على المفاهيم والمُصطلحات وإعادة تعريف القاتل والقتيل، ولا فى مُكايدةٍ يُغلِّفُها النزقُ الطفولىُّ. كلُّ السُّبل الكفيلةِ بالهروب من قطارٍ طائش؛ مهما بدت يائسةً وتخاذُليَّةً ومُضادّةً لمعانى البطولة الشعبوية، هى عينُ النضال فى حالة كالتى يعيشُها القطاع، وما دونها انتحار مجانى، ومقامرة بالقضية والأرواح، وبالمستقبل أيضًا.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة