تعتبر العدالة الجنائية حجر الأساس فى بناء دولة القانون والمؤسسات، حيث تهدف إلى تحقيق العدالة للمجتمع وضمان حقوق الأفراد وحرياتهم، ومن هذا المنطلق يأتى مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد ليعكس التزام الدولة بتطوير التشريعات بما يتماشى مع المستجدات المجتمعية والتحديات القانونية والواقعية، التى يواجهها النظام القضائى، ومن ثم تأتى قيمة الجهد الكبير الذى بذلته اللجنة الفرعية التى شكلها مجلس النواب، برئاسة السيد النائب إيهاب الطماوى وكيل لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية، والسيد المستشار محمد عبدالعليم كفافى المستشار القانونى لرئيس مجلس النواب - مقررا للجنة - وعضوية أعضاء من لجان الشؤون الدستورية والتشريعية والدفاع والأمن القومى وحقوق الإنسان بمجلس النواب وممثلين عن مجلس الشيوخ ووزارت «العدل والداخلية والمجالس النيابية» ومجلس القضاء الأعلى والنيابة العامة ومجلس الدولة ونقابة المحامين والمجلس القومى لحقوق الإنسان وأعضاء هيئة التدريس بالجامعات ومحامين متخصصين فى القضايا الجنائية بهدف وضع مشروع هذا القانون، التى شرفت بعضويتها ممثلا عن مجلس الشيوخ، وذلك على مدار 14 شهرا متصلة، وهو الجهد الذى أسفر عن المشروع المعروض حاليا على لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب.
يهدف مشروع القانون إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الكبرى، فهو يسعى أولا إلى تعزيز مبدأ سيادة القانون وضمان حقوق الدفاع، وذلك من خلال توفير إجراءات قضائية أكثر شفافية وعدالة، ويسعى من جهة ثانية إلى مواكبة التطورات التكنولوجية الحديثة، وذلك عبر تضمين نصوص قانونية تتيح استخدام الأدلة الرقمية والاعتراف بها فى المحاكم، ومن ناحية ثالثة، فإنه يعمل على تسريع إجراءات التقاضى لتقليل التكدس القضائى وضمان تحقيق العدالة الناجزة، فضلا عن سعيه، من جهة رابعة، إلى ضمان حماية حقوق الإنسان، والوفاء بالتزامات مصر الدولية فى هذا الصدد، وذلك من خلال تصديه لأحد أهم المآخذ التى تثار فى هذا السياق، وهى قضية الحبس الاحتياطى.
ولعل من أبرز التعديلات التى يتضمنها مشروع القانون الجديد تلك التعديلات المتعلقة بالإجراءات الإلكترونية، فقد أتاح المشروع استخدام وسائل الاتصال الحديثة فى إجراءات التحقيق والمحاكمة، بما فى ذلك الاستماع إلى الشهود عن بعد، وتقديم الأدلة الرقمية، وإجراء المحاكمات عبر الفيديو كونفرانس فى حالات معينة، وهى التعديلات التى جاءت استجابة لتزايد أهمية الأدلة الرقمية والاتصالات الحديثة فى الكشف عن الجرائم والتحقيق فيها.
كذلك فقد تضمن المشروع تعديلات تتعلق بحقوق المتهمين، حيث نص على ضرورة إبلاغ المتهم بحقه فى الاستعانة بمحام فور القبض عليه، وكذلك حقه فى الاتصال بعائلته.
وأكد المشروع على ضرورة احترام حقوق المتهمين خلال جميع مراحل التحقيق والمحاكمة، مع وضع ضوابط صارمة لمنع أى انتهاكات قد تحدث خلال أى مرحلة من هذه المراحل.
ومن النقاط ذات الأهمية فى المشروع الجديد، تعزيز الحماية للشهود والمبلغين، إذ غالبا ما يتردد الأفراد فى الإبلاغ عن الجرائم أو الشهادة خوفا من الانتقام، ولذا جاء المشروع واضعا آليات واضحة لحماية هؤلاء الأفراد وضمان سرية هويتهم فى بعض الحالات، بالإضافة إلى توفير برامج حماية خاصة للشهود والمبلغين الذين يتعرضون للتهديدات.
أما فيما يتعلق بالحبس الاحتياطى، وهو أحد أهم المواضيع وأكثرها حساسية فى هذا الصدد، فقد أعاد المشروع الجديد النظر فى تنظيم هذا الإجراء، والذى هو إجراء استثنائى بطبيعته، بهدف تحقيق التوازن المنشود بين متطلبات العدالة الجنائية وحماية حقوق الأفراد، فأدخل تعديلات جوهرية على نصوص القانون القائم تتمثل فى تقليص مدد الحبس الاحتياطى المسموح بها، بحيث لا تتجاوز مدة الحبس الاحتياطى فى مرحلة التحقيق الابتدائى وسائر مراحل الدعوى الجنائية ثلث الحد الأقصى للعقوبة السالبة للحرية، ولا تزيد على 4 أشهر فى الجنح و12 شهرا فى الجنايات و18 شهرا إذا كانت العقوبة المقررة للجريمة هى السجن المؤبد أو الإعدام، وفى الحالة الأخيرة فإنه يجوز لمحكمة الجنايات المستأنفة ولمحكمة النقض أن تأمر بحبس المتهم احتياطيا لمدة 45 يوما قابلة للتجديد لمدد أخرى بما لا يجاوز سنتين.
وفى سعيه إلى ضمان عدم إساءة استخدام الحبس الاحتياطى كوسيلة عقابية، قرر المشروع ضرورة أن يكون الحبس الاحتياطى مستندا إلى أدلة قوية تبرر استمرار احتجاز المتهم.
كما ألزم القضاة بتوضيح الأسباب القانونية التى تستدعى الحبس الاحتياطى فى قراراتهم، لضمان الشفافية والمحاسبة، كذلك فقد عمل المشروع على تعزيز اللجوء إلى بدائل الحبس الاحتياطى، مثل الإقامة الجبرية، أو فرض قيود على حركة المتهم كمنعه من السفر، بدلا من الحبس الاحتياطى فى الحالات التى لا تستدعى الاحتجاز الفعلى.
كذلك قرر المشروع، تفعيلا لنصوص الدستور ذات الصلة، تقديم تعويض مادى ومعنوى مناسب لكل من حبس احتياطيا دون وجه حق.
كما يعتبر من أهم الإنجازات التى سعى إليها مشروع القانون هو إعادة تنظيم أحكام الطعن بالمعارضة فى الأحكام الغيابية بشكل يحقق التوازن الكامل بين كفالة حق التقاضى وحماية حق الدفاع وبين الالتزام بتحقيق العدالة الناجزة وبما يحول دون اتخاذ الطعن بالمعارضة وسيلة لتكدس القضايا بالمحاكم، وإساءة استخدام حق التقاضى
فهذه المنجزات وغيرها، مما لا يتسع المقام له يمثل سعيا حثيثا من رجال مخلصين لم يضعوا نصب أعينهم إلا مصلحة هذا الوطن، رغم تعدد أفكارهم واختلافها، فإنها توحدت فى خندق واحد سعيا نحو تدعيم أركان الجمهورية الجديدة بقانون متطور يتبنى أفكار العدالة الجنائية الحديثة، إيمانا منهم بأن هذا الوطن يستحق منا ذلك وأكثر، وأشهد أنهم لم يصدوا الباب أمام أى أفكار أو إسهامات تتحد مع هذه الفكرة، وهذه الغاية إيمانا منهم بأن الوطن ملك للجميع، وليست الأفكار حكرا على أحد.