كنا "رضوان الكاشف وأنا" قادمين من عالم الجامعة والسياسة والمظاهرات نعرف إيقاعها وأساليبها وبالتأكيد "هتافاتها" فنحن من شهدنا "سيد مرعي ياسيد بيه كيلو اللحمة بقى بجنيه".. نعم كنا نحتج على وصول سعر كيلو اللحمة إلى جنيه كامل..!! وشهدنا هتافات بالاسم ضد أشخاص بعينها وصولاً إلى المطالبة بالحرب أيام "عام الضباب" لم نكن نستسيغ الهتافات التي ابتكرها من كتبوا" بونابرت".. وكان معنا أيضًا الممثل الشاب أحمد حجازي الذي كان يضحك بشدة عندما يسمع المتظاهرين في الفيلم يصرخون "مصر هاتفضل غالية على.. قولو هاتفضل غالية على".
وبصرف النظر عن أن هذا الهتاف صار الآن مقبولاً بل ومستحبًا فقد رأيناه "هروبًا" من اتخاذ موقف "نقدي" ينمو بداخلي أثناء العمل بالفيلم يتجاوز استمتاعي بالعمل وامتناني لروح شاهين ومحبته لتلاميذه.. وقد شجعني شاهين نفسه على ذلك إذ لم يكن يأنف من النقد ولا يتعالى عليه.. وأذكر أني جرؤت ذات مرة وانتقدت أسلوب الحركة لشخصيات أفلامه وكنت أرى أن هذه الشخصيات تلقى بأعمق الأفكار وهي تجري أو تتحرك بسرعة وتلهث الكاميرا في متابعتها وبررت ذلك بأنه تأثرًا إيقاع شخصيات البحر المتوسط التي تفرط في استخدام الأيدي ولا تهدأ إلا في أحوال نادرة.. استمع "جو" باهتمام حتي ذكرت "دون قصد" اسم شادي عبد السلام الذي تتميز شخوصه بثبات وهدوء ورسوخ يشبه التماثيل الفرعونية الساكنة "بعكس النحت الاغريقي أو الروماني الذي يضج بالحركة".. وقلت أن ذلك أقرب لشخصية المصري الحقيقي الذي يستمد سكونه من ثبات النيل وحركته البطيئة ومن فكرة الانتظار والتأني لجني حصاد زرعه ثم العودة إلى تمهيد الأرض استعدادًا للفيضان القادم.. وهنا رأيت شاهين غاضبًا للمرة الأولي.
لم يكن غضب شاهين من المقارنة نابعًا من غيره عمياء فشادي رفيق ثقافة مشتركة واحدة وكانا يحترمان بعضهما كل الاحترام وأذكر أن شاهين كان يري أن فيلما واحد هو "المومياء" لا يكفي لصنع تيار أو أن يحدث تأثيرا في بلد يخضع لتجاذبات ثقافية واجتماعية وسياسية متنوعة.. وبالمناسبة كانت نصيحة شاهين لي عندما شاهد "يادنيا ياغرامي" في قاعة صغيرة قبل عرضه وكان اعجابه به من أسعد لحظات حياتي أن قال لي "سوف تذهب إلى مهرجانات وندوات وإلخ وسوف تنال جوائز وتحرم من جوائز وسوف تستنزف بهذا الانشغال لتجد نفسك تعمل فيلما كل 5 سنوات أو أكثر وأنصحك بألا تفعل ذلك أبدا .. اصنع أفلاما كثيرة ..لا تتوقف أبدا حتي لو كان بعض ما تصنع رديئا فهو أفضل من الابتعاد ..وسوف لا تتعلم ألا من اخطائك.. إخرب بيت المنتجين ولا يهمك ولكن لا تتوقف أبدًا".
وأعترف أني لم ألتزم بنصيحة الأستاذ ..جزئيا بسبب ظروف "السوق" الذي رأيت أن من واجبي أن أعمل من خلاله للوصول إلى أكبر قدر من الجماهير.. لم أكن لدي رفاهية التمويل الأجنبي ولا أعرف دهاليزه كما أني كنت أراهن على صنع أفلام "جماهيرية" وليست "تجارية" وهي صيغة صعبة ولكني كنت أري دائما أن "التمويل" الغربي للأفلام المصرية يصبغها- مهما كان غرض المبدع نبيلا – بروح مفرنجة يغلب عليها الفكرة المسبقة التي تحكم على شعوبنا بنظرة استعلائية وتضعنا في دائرة مغلقة من "عدم الإمكان".. وتنزع عنا "الندية" والقدرة على تجاوز واقعنا والانطلاق نحو افق ممتع جديد يليق بتاريخنا وحضارتنا.. والأن لنعد إلى "بونابرت".
لم يكن شاهين يعبأ كثيرا بأبداع المونتاج إذ كان التقطيع الفني متداخلا في رأسه منذ لحظة كتابته للديكوباج ورغم اعادته للتصوير مرات عديدة فقد كان يعرف أين يتوقف وأين يقول cut.. وكان جهده الأكبر يذهب إلى الممثل وكيفية تحسين أداؤه .. ولم يمكن أبدا مسئولا عن فكرة سادت حتي تحولت إلى ما يشبه القاعدة أن كل الممثلين في أفلامه يقلدون طريقته..لم ألاحظ ذلك طوال عملي بالفيلم وليعذرني مروجي هذه الفرية بأن من يفعل ذلك – ببساطة – هو ممثل ضعيف الموهبة والشخصية ينبهر بشخصية جو وانفعاله فيلجأ إلى أبسط الوسائل لما يظن أنه "إرضاء" له ..ودليلي على ذلك أن ممثلين من طراز أحمد زكي ومحمود حميدة وعبلة كامل وهدي سلطان وتحية كاريوكا وغيرهم لم نرهم يمثلون "بطريقة " يوسف شاهين.. بل وأن جو كان في الواقع ينبهر بأي أداء يراه مختلفا ومبتكرا عما يتصوره.. وكان انفعاله بأداء الممثل "الموهوب حقا" ..يذكرني بمشهد رايته لعز الدين ذو الفقار يبكي وهو يتابع أداء فاتن حمامة..!!