من الأسئلة الجذرية التي عادة ما يوجهها رجال ورواد الأعمال للجامعات هو ما فائدة ما يجري في الجامعات من بحوث؟ وكيف يمكن استغلال ما يتم استثماره من موارد وكفاءات وجهود في العملية التعليمية بحيث تخدم الاقتصاد ومسيرة التنمية؟ فمن أكثر المشكلات التي تواجه منظومة البحث العلمي في مصر هي عدم ربط البحث العلمي بالقضايا القومية الملحة وأهداف التنمية المستدامة، فغالبية البحث العلمي المنتج يكون إما بغرض الترقي الأكاديمي أو الحصول على الدرجات العلمية مثل الماجستير والدكتوراة، ولا يوجد اهتمام مناسب بإنتاج أبحاث علمية بغرض تطوير صناعة معينة أو تصميم سلعة جديدة. ويرى معظم المختصين أن قيمة البحث العلمي تكون محدودة إذا لم توجه موضوعاته نحو خدمة قضايا التنمية وعلى رأسها تطوير وتوطين الصناعة، وهناك مسؤولية كبيرة للجامعات والمراكز البحثية في تفعيل آليات البحث العلمي لتحقيق هذه الأغراض عبر دراسات ميدانية في قطاعات الصناعة والزراعة والطاقة والمياه وغيرها من الأولويات القومية.
وقد شهد التاريخ الحديث تجارب لدول عدة انتقلت من مصاف الدول الفقيرة إلى دول صناعية كبرى بفضل تفعيل آليات البحث العلمي في قطاعاتها الاقتصادية. فالاهتمام بتفعيل مخرجات البحث العلمي كان السبب المباشر في انطلاق اليابان نحو التقدم وتحقيق طفرة اقتصادية غير مسبوقة بعد الحرب العالمية الثانية. فبغرض النهوض من ركام الكوارث التي لحقتها بعد هزيمة دول المحور في 1945, لجأت الحكومة اليابانية عام 1950 إلى استراتيجية تقوم على تشجيع الاستثمارات وربط مخرجات البحث العلمي بتطوير الصناعة, وقد أدت هذه الاستراتيجية إلى هجرة عدد كبير من الباحثين والعلماء الأمريكيين إلى اليابان وخصوصًا المفكّرين الذين لم يجدوا اهتمامًا بأفكارهم البحثية في أمريكا. وقد لاقى هؤلاء الباحثين ترحيبًا حافلاً من قبل اليابانيين إلى جانب اعتناق أفكارهم البحثية من قبل المسئولين وطلاب العلم وقتها؛ وكان من أشهر هؤلاء المفكرين هو عالم الإحصاء والإدارة إدواردز ديمنج. وقد وجد ديمنج في اليابان مناخًا خصبًا لتطوير أفكاره البحثية واختبارها اختبارًا عمليًا تطبيقيًا ميدانيًا، فتطور مفهوم ديمنج للضبط الإحصائي للجودة إلى مفهوم أكثر شمولاً وهو "رقابة الجودة الشاملة" ؛ وهو مفهوم يركز على أهمية تحسين المنتج أو الخدمة المقدمة إلى المستهلك أو العميل عن طريق تقليل الأخطاء في العمل والحد من العيوب في السلعة أو الخدمة ومعالجة القصور فيها إلى أقصى حد ممكن. وقد طبقت أفكار ديمنج البحثية في عدة صناعات مثل صناعة السيارات وأجهزة التلفاز وغيرها. وبنجاح أفكار ديمنج البحثية في اليابان ازدهرت الصناعة اليابانية في وقت قياسي قصير لم يتجاوز عشرين عامًا من لحظة وصوله؛ حيث غزت المنتجات اليابانية العالم أجمع بجودتها الشاملة, غزت حتى بيوت الأمريكيين وشوارعهم وأسواقهم. وكان هذا دافعًا للإدارة الأمريكية لتطلب من ديمنج العودة إلى وطنه وتطبيق أفكاره المثمرة في بداية الثمانينات من القرن الماضي.
تجربة اليابان وغيرها من الدول المتقدمة توضح جليا أن ربط البحث العلمي بالصناعة يُعتبر من أهم العوامل التي تسهم في تطور الاقتصاد وتعزيز الابتكار. هذا الربط يعزز من تطبيق نتائج الأبحاث العلمية على أرض الواقع، مما يسهم في تحسين المنتجات والخدمات وحل المشكلات الصناعية.
وقد أدركت الدولة المصرية أهمية هذا الربط بينهما فأصدرت مؤخرا قانون حوافز العلوم والتكنولوجيا والابتكار، الصادر بالقانون رقم 23 لسنة 2018، وهو من التشريعات الهامة التي تهدف إلى ربط منظومة البحث العلمي بالصناعة والابتكار. وينص القانون في مادته الثالثة على أن لهيئات التعليم العالي والبحث العلمي تأسيس شركات بمفردها أو بالاشتراك مع الغير فى مجال تخصصها البحثي بهدف استغلال مخرجات البحث العلمي، وللسلطة العلمية المختصة الموافقة على اشتراك الباحثين فى تلك الشركات بنسبة تحددها، وذلك لقاء استخدام مخرجات البحث العلمي أو التطوير الذى تقوم الشركة باستخدامه. وقد مر على صدور هذا القانون الهام ما يقرب من ستة سنوات ويمكن للجامعات والمراكز البحثية استغلاله في ربط مخرجاتها البحثية بالصناعة والاستفادة من ذلك في تنمية مواردها.
ولكي تقوم الجامعات بدورها في ربط البحث العلمي بالصناعة فأول خطوة يجب أن تقوم بها هي فهم احتياجات ومتطلبات تطوير الصناعات المختلفة وابتكار سلع جديدة. ويمكن أن يتحقق هذا الغرض من خلال إجراء استبيانات ومقابلات مع العاملين في الصناعة لمعرفة التحديات التي يواجهونها والمجالات التي يحتاجون فيها إلى تحسينات. أيضا من المهم مشاركة الباحثين في المؤتمرات والمعارض الصناعية الدولية للتعرف على أحدث التقنيات والاحتياجات المتغيرة في القطاعات الإنتاجية.
وأخيرا من المهم استغلال قانون 23 لسنة 2018 في زيادة التعاون بين الجامعات والمراكز البحثية من جهة والشركات الصناعية من جهة أخرى ويمكن تحقيق ذلك بعدة آليات من ضمنها: إقامة شراكات رسمية بين الجامعات والشركات لتنفيذ مشاريع بحثية مشتركة في إطار المادة الثالثة من القانون؛ تبادل الخبرات والمعرفة بينهما في إطار التحالفات الإقليمية التي أعلنت عنها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وذلك من خلال برامج تدريبية ومنح بحثية يتم تمويلها من قبل الشركات؛ إنشاء مراكز بحث وتطوير مشتركة بين الجامعات والشركات، مثل مراكز الأبحاث التطبيقية والحاضنات التكنولوجية، بغرض تعزيز تطبيق البحث العلمي في الصناعة، ويمكن أن تصبح هذه المراكز منصات لتطوير منتجات جديدة وتحسين العمليات الصناعية؛ تمويل الأبحاث التي تستهدف حل المشكلات الصناعية من خلال القطاع الخاص والحكومي؛ حماية الملكية الفكرية ونقل التكنولوجيا بشكل فعال من خلال الاهتمام بتسجيل براءات الاختراع للابتكارات الناتجة عن الأبحاث المشتركة وإنشاء مكاتب لنقل التكنولوجيا تعمل على تسويق الابتكارات البحثية وترخيصها للشركات الصناعية؛ وأخيرا وليس أخرا تطبيق نتائج البحث العلمي في خطوط الإنتاج من خلال تطوير نماذج أولية وتجريبها قبل الانتقال إلى الإنتاج الكامل وتدريب العاملين في الصناعة على استخدام التقنيات الجديدة وتبني العمليات المحسنة.
في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها العالم كله لم يعد ربط البحث العلمي بالصناعة مجرد خيار، بل هو ضرورة لتحقيق التنمية المستدامة والابتكار. من خلال التعاون الوثيق بين الجامعات والصناعة، يمكن تحويل الأفكار البحثية إلى حلول عملية تسهم في تحسين جودة المنتجات والخدمات، وتعزيز التنافسية الاقتصادية. وتجعل من الأموال الموفرة للبحوث العلمية ذات الطابع العملي تنفق بشكل كفؤ، تماما كما تعمل البحوث الكيفية في دعم اتخاذ القرار.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة