أقصى ما قدَّمته الولايات المتحدة أنها أبقت الحربَ على إيقاعها، ولم يعُد فى مقدورها تقديم المزيد. لهذا لا يُمكن الرهان على نجاح إدارة بايدن فى إبرام هُدنةٍ قبل خطوات من وُصولِها خطَّ النهاية، ولا أنها قادرةٌ على تسييج جنون الاحتلال والمُمانعة بسياجٍ يمنعُ التقاطُعات المُحتمَلَة. لقد وصلتْ للحدِّ الأدنى من الفاعليَّة قبل الانتخابات الرئاسية بسبعة أسابيع، ويتنازعها خياران مُزعجان: إدارةُ التوتُّر على صورته القائمة، أو التدخُّل لحسمِه رغمًا عن الطرفين، وكلاهما يصبُّ فى صالح ترامب على حساب كامالا هاريس. أراد نتنياهو أن يشبُكَ صراعه المحلّى مع مناخ الاستقطاب الأمريكى، وللأسف يبدو أنه نجح.
فُرِضَ المسارُ على واشنطن منذ اللحظة الأُولى؛ عندما عجزت عن إنتاج روايتها الخاصة للأحداث، وانجرفت فى تيَّار السرديَّة الإسرائيلية. وكلُّ التجارب السابقة لم تكُن خاليةً من انحيازٍ واضح؛ لكنَّ البيتَ الأبيض كان قادرًا على التحرُّك وفقَ تقديرٍ ذاتىٍّ، ما سمح له باتخاذ مواقف جادَّة تجاه العدوان الثلاثى أو حصار بيروت، وأن يتدخَّل بقدرٍ من العقلانية بعد أكتوبر 1973. الجديدُ اليومَ أنه صُدِمَ بطوفان الأقصى أكثر من الصهاينة أنفسهم، وتعاطى معه بجنونٍ لا يقلُّ عن الليكود وحكومته التوراتيّة، كما تغلَّبت مشاعرُ الرئيس وأركان اليهود فى إدارته، على أدوارهم السياسية الواجبة. والنتيجة أنهم سلَّمَوا مفاتيح القرار لنتنياهو مُسبَقًا، وساروا على الخريطة التى رسمها؛ وعندما احتاجوا للعودة من مُنتصف الطريق، تكشَّف لهم أنه لا سبيلَ للخروج من فخٍّ داسوه بإرادةٍ واعية.
انصرفَتْ إرادةُ السنوار لافتتاح مُواجهةٍ ثقيلة، كان واعيًا بالضرورة أنها ليست خطوةً على طريق التحرير كما ردَّدت دعايات حماس؛ إنما القصد أن يتحقَّق إيذاءُ العدوِّ، فإمَّا يستثير الحلفاء للدخول فى الحرب، أو يستنفر الخصوم لإظهار أقصى مستوىً من العُنف. أى أنَّ الغاية الأُولى تمثَّلت فى البحث عن معركةٍ إقليمية مُتعدِّدة الجبهات، وبديلها الاستثمار فى الدم لتحقيق الوَصْم السياسى والأخلاقى لدولة الاحتلال. وعلى الجانب الآخر؛ رُفِعَت رايةُ القضاء على الحركة هدفًا أعلى، ومن ورائها «كَىّ الوعى» بما يضمن اللعب فى نفسيَّة الفلسطينيين ورَدعهم عن تكرار المُغامرة. وفق هذه الاحتمالات، كان التصعيدُ خيارًا للطرفين بالتساوى؛ لأنَّ معنى النصر المطلوب منهما إمَّا كان مُستحيلاً، أو اتَّخذ عناوين سائلة وغير قابلة للقياس. إذ بمُجرَّد إحباط الحماسيِّين بالخذلان من محور المُمانعة، ينتقلون مُباشرةً لمسألة الدعاية المفتوحة على الزمن، كما أنَّ الاحتلال كلَّما طال عجزُه عن إفناء المُقاومة؛ يذهب لمزيدٍ من البطش والإرعاب، وكَسرُ الحلقة الجُهنميَّة يقعُ خارجَ الميدان أصلاً، وتحديدا عند مقعد نتنياهو على رأس حكومته، وفى أعمق نقطةٍ يسكنُها السنوار من أنفاق غزَّة.
جهلت الولايات المُتّحدة، أو تجاهلت، أنَّ التحاقها بالميدان سيجعلُها شريكةً فى أهداف الفريقين. لقد سُحِبَت ببطءٍ لتكون طرفًا فى أجندة الإبادة، وهدفًا للتصويب الضَّمِيرى. وهكذا لم تقبَلْ منها تلُّ أبيب الرسميَّةُ أن تطرحَ ما يُخالفها، ولا تَقَبَّل القابضون على قرار القطاع أن يُنظَر لها من زاوية الوسيط النزيه والضامن الموثوق. وما يُعَقِّدُ المشهدَ أنها ما تزال تحتكرُ المنطقة وتفرضُ عليها تصوُّراتها؛ فلا يُسمَحُ للفاعلين الدوليِّين الآخرين مثل روسيا والصين بالاشتباك مع الأزمة، ولا يُترَكُ للدول الإقليمية الوازنة أن تتدخَّل فى سياقٍ مُتوازنٍ لا يُشوِّهه الإسنادُ الأمريكى. وعلى هذا المعنى؛ فربما تكونُ واشنطن المسؤولَ الأوَّلَ والأكبر عمَّا آلت إليه الأحوال. صحيحٌ أنَّ الاحتلال صاحبُ التمثيل الأصيل فى الميدان، ومحورَ الشيعية المُسلَّحة يلعبُ أدوارًا تبريريَّة وتأجيجيَّة واضحة؛ إنما ما سمحَ للوضع بالتعَقُّد أن إدارة بايدن كانت مُلوّنةً لدرجة اعتناق أجندة الليكود، وهشّةً بما يكفى لإدخال المُمانعة على الخطِّ، وفيما بينهما عجزت تمامًا عن الحسم بأيَّة صورة، خشنةٍ أو ناعمة، ولصالح الحقِّ المهضوم أو القوَّة الغاشمة.
بُنِيَتْ حقبةُ السيادة الأمريكية على مُرتكزاتٍ قِيَمِيَّة. لم تكُن شرعيَّةَ الانتصار فى الحرب العالمية الثانية فحسب، وقد تشاركَها الاتحادُ السوفيتىُّ معها؛ إنما تأسَّست الهيمنةُ على ادِّعاء تمثيلها للعالم الحُرِّ، وأنها تلعبُ دورَ القائد المسؤول من مُنطلقاتٍ روحيَّة وثقافية رائدة. هكذا خاضت الحربَ الباردةَ مع شريك الأمس؛ لنزاعٍ على الأخلاق الليبرالية وأُمثولة التحضُّر الجديد، وأطلقت «خطَّة مارشال» لإعانة الأصدقاء والأعداء فى أوروبا دون تفرقةٍ. صحيحٌ أنه كان خطابًا انتحاليًّا لم يطُل الوقتُ عليه قبل الانكشاف؛ إلَّا أنَّ الحقيقة الجوهرية ظلَّت صالحةً للإجراء، وخُلاصتها أنَّ البيئةَ الدولية تحتاج رُوحًا وعقلاً مُنفَتِحَين، قدرَ احتياجها لليد الباطشة، وإذا اختلَّت المُعادلة فلا بديلَ عن استدعاء الصدامات القديمة، أو إعادة إنتاجها على وجهٍ جديد. وما يحدثُ فى أوكرانيا لا يُعبِّرُ عن اختناقاتٍ سياسية تُغذِّيها أطماع وطموحاتٌ شخصيَّة؛ بقدر ما يُمثِّل حُكمًا قاطعًا بإخفاق المنظومة الأُمميَّة الخارجة من رحم الصراعات الهوياتية والجيوسياسية، وبدلاً من إغلاق دفاترها السوداء، خلَّقَت صورًا جديدة لابتعاثها من تحت الرماد. والمأساةُ الجارية فى فلسطين، ليست بعيدةً بحالٍ عن محنة الأرض مع امبراطوريةٍ ضيَّعت مقاديرَ الحكمة والتوازُن، من طُول ما أغرَتْها القوَّةُ وتسلَّطَتْ عليها الشوفينيَّةُ المريضة.
تعثَّر بايدن فى صهيونيَّته مُبكِّرًا؛ ثمَّ فى طموحه السياسىِّ بعدما انطلق قطارُ الانتخابات. واليومَ تتكالبُ عليه المُنغِّصات: من زاويةٍ إيمانيَّة يُحبّ أن يرى إسرائيل مُنتصرةً ومُهيمنة، وعمليًّا يتطلَّعُ لإنجاز ما يُبقيه فى الذاكرة بعد ولايةٍ باهتة، وعُقدَتُه أنه لم يعُد محلَّ ثقةٍ لمُحيطه القريب، وبقدرِ ما دُفِعَ بخشونةٍ خارج السباق لشَكٍّ فى قُواه، يرتعب من التحرُّك فى أىِّ اتِّجاهٍ فيتحمَّل مسؤوليةَ إخفاق الديمقراطيين. بالأصالة يبدو مُلتزمًا تجاه تل أبيب، وبالوكالة عليه التزاماتٌ للحزب ومُرشَّحَتِه، وقد صارت المسألةُ الصهيونية فَخًّا عميقًا فى طريقها، بعدما غابت عن استقبال نتنياهو فى الكونجرس، وصدمته فى مُؤتمرِهما المُشترَك برسائل لم تتردَّد فى لقائهما المُغلَق، واختار ترامب أن يُصَوِّب عليها من تلك الزاوية فى مُناظرتهما مؤخّرًا. والحال أنَّ الرئيسَ لم يعًد قادرًا على المبادرة المطلوبة، ونائبتُه قد ترى مصلحتَها فى إبقاء الحرب على نارٍ هادئة؛ بدلاً من المُغامرة بمحاولة إطفائها بطريقةٍ تستعدى أحد الطرفين وداعميه، وزعيمُ الليكود يعرفُ تفاصيل الارتباك بين أجنحة الإدارة، ويلعبُ عليه بمكرٍ وإتقان. ولم يعُد خافيًا أنه يسعى لاستحضار ترامب، وقد نجح فى تحويل معركته البعيدة لورقةٍ حاكمة فى المُنافسة، حتى لَيُمكِن النظرُ إليه بوَصفِه الناخبَ الأوَّلَ فى الوقت الراهن. وخُلاصةُ كلِّ هذا؛ أنَّ الهُدنة ليست مطلوبةً من ثلاثة أطراف: الاحتلال والمُمانعة والأمريكيين، وتتطلَّعُ إليها الوساطةُ العربية ومحورُ الاعتدال؛ لكنهم لا يملكون الأوراقَ الكافية لترويض شبكة الجنون المُعقَّدة فى الميدان وخارجه، والتى من فَرطِ السُّخرية يتلاقى فيها القاتلُ والقتيلُ؛ على معنىً مجازىٍّ طبعًا، بالنظر إلى أن القتلى الأُصلاء من عوام غزَّة ومَدنيِّيها المنكوبين.
نُمسِكُ فى حقيقة أنَّ نتنياهو تسوقُه حساباتٌ شخصيَّة لطَلب الحرب الدائمة، ونتعامى بالعاطفة أو حُسن النيَّة عن انطباق المعيار نفسِه على السنوار. فى السياسة تُدارُ الأمورُ بالواجب لا بالحقِّ، وكثيرًا ما يتعيَّن على المظلوم أن يُناور الظالمَ لاجتناب مظلمةٍ أكبر. وعليه؛ فإن إطلاق «طوفان الأقصى» له مَشروعيَّةٌ من جهة الثابت الأخلاقى والقانونى لحقِّ المُقاومة فى صدّ الاحتلال؛ لكنه من جهة السياسة يظلُّ محكومًا باعتبارات المنطق والمصلحة وتناسُب القوَّة، وألَّا يُفضى التمرُّد على حصار البيت إلى هدمِه وتشريد ساكنيه. وفى حالة «حماس» فإنها مُقيَّدة بحسابات السياسة والسلاح معًا؛ وقد اختارت منذ الانقلاب قبل نحو عقدين أن تنوب عن القضية فوق الأرض وتحتها، وبالإدارة والإرادة. والحادث أنها فى «الطوفان» فكَّرت بعضلات المُقاوم لا عقل المفاوض، وعلى طول الحرب كانت الأنفاقُ، بمعناها الانسحابى، خيارَها الوحيد، ولم تشأ مُغادرتها بالمواءمة مع العدوِّ أو بالتنازُل للشريك، مُمثَّلاً فى السلطة. والمُختَصَر دون رومانسيَّةٍ أو تفكيرٍ بالقلب، أنها أخطأت فى إشعال نارٍ تتجاوز قُدرتَها على الصمود أو التصدِّى لإطفائها. صحيحٌ أنها كانت فى سياقٍ خانق، وخياراتُها شبهَ معدومةٍ، وما نزلَ على رأسها من صنيعة المُحتلّ وحُلفائه الغربيين؛ إلَّا أن كلَّ هذا كان واجبًا ألَّا يغيب عن نظرها، ولا أن تستبعده فى تخطيطها للاحتمالات وافتراض الأسوأ، مع امتلاك البدائل المُناسبة للتعامل مع أشدِّ مستويات السوء. والقصد باختصار، أنَّ الرصيدَ الأخلاقىَّ للطرفين يتآكل بعلاقةٍ طردية، لو نظرنا من زاوية الضحايا الحقيقيين، وإن ظلَّ أبطأ قليلاً أو كثيرًا لصالح السنوار؛ لكنهما قد لا يختلفان فى نظر الغزِّيين الواقعين بين سماءٍ مَطيرة بالنار، وأرضٍ مُفخَّخة بالخنادق.
الخشيَةُ من توقُّف الحرب لها معنىً واحد. فى تل أبيب سيبدأ موسمُ المُساءلة والحساب، وستُفتَحُ ملفَّات الإخفاق فى وجوه نتنياهو وعصابته. وفى القطاع ستخرج «حماس» بأنفٍ نازف لتجِدَ نفسَها فى مُواجهة مُحاكمةٍ شعبيَّةٍ لا تقلُّ ضراوةً. كثيرون من النازحين غير راضين عن إدارة المعركة، وبعضهم انقلبوا ليُحاكموا «الطوفان» بأثرٍ رجعىٍّ؛ بعدما كانوا مُبتهجين به. والملاحظات كثيفةٌ من أوَّل المُغامرة، إلى الاختباء والاحتماء بالمدنيِّين وتمرير حصَّة من المُساعدات للأنفاق. بعضُ المآخذ قد لا تخلو من مُبالغةٍ وانفعال، وقد تكون من أثر النكبة الثقيلة ومأساوية الحياة على كفوف الموت؛ لكنَّ المُؤكَّد أنَّ فيها قدرًا من الصحَّة؛ ولو ضئيلاً، وأنَّ أهل القطاع لن يتحرَّروا من انفعالهم سريعًا بعدما تتوقَّف الحرب، وستظلُّ الآثارُ النفسيّة تحكمُ نظرتَهم للحركة وقادتها لوقتٍ طويل، وهو ما يتطلَّبُ البحثَ من الآن عن وسائل العلاج الناجعة؛ لا لإبقاء الحماسيِّين مُتسلِّطين على الجغرافيا والبشر، بعدما بدا ذلك مُستحيلاً أصلاً؛ إنما لتخليص القضيَّة من أعباء كراهية الذات واليأس من القدرة على إنتاج البدائل.
العدوُّ يعرفُ هذا بالمواكبة اليوميّة، أو من حصيلة الجهد الاستخباراتى الذى لا يُوفِّر شِبرًا من القطاع. ربما لهذا عمل على تسريب اقتراحٍ بفَتح ممرٍّ آمن لخروج السنوار ودائرته القريبة من غزَّة. الفكرةُ صُيِغَتْ أوَّلَ الأمر على صورة الشائعات مجهولة النسب، قبل أن يتناولها جال هيرش، مُنسِّق إسرائيل للرهائن والمفقودين، فى حديثٍ مع CNN، ثمَّ تأكيده لبلومبيرج لاحقًا أنهم اقترحوها بالفعل، وأنها مرهونةٌ بإعادة الأسرى المُحتجزين لدى الحركة. ومن المقطوع به أنَّ الصهاينة لا يرون قائد حماس إلَّا فى تابوتٍ مُظلم، وكثيرون من سياسيِّيهم وجنرالاتهم قالوا كثيرًا إنه «ميِّتٌ يمشى على الأرض»، ما يعنى أنَّ جزءًا من أجندة الحرب أن يقتلوه، أكان قبل الهدنة أم بعدها، وفى الداخل أو الخارج. وما الغرض من اقتراح إخراجه إلَّا خلق مَنفذٍ لتعريته وإلقاء اللوم عليه. هكذا سيرى الغزِّيون أنَّ صاحبَ قرار الطوفان عقبةٌ أمامَ إنهاء محنتهم، وأنَّ لديه طريقًا يُحقِّقُ النجاةَ الجماعية؛ فيختار أن ينجو بأنفاقه ويتركهم للموت فوق الأرض. أمَّا دعايات الصمود وأن «دماء القادة ليست أغلى من الشعب» فقد لا تكون مُقنعةً؛ لا سيِّما أنه لا يُقاسمهم المأساةَ العَلنيَّة هو وأسرته، ومهما كانت المخاطر التى يواجهها فى العُمق، فإنها أقلُّ ممَّا يُعيشه الأطفال والأُمّهات فى العراء.
مسألةُ الدماء المتساوية حضرت فى الأيام الماضية من زاويةٍ مختلفة. أرسل «السنوار» خطابًا لحسن نصر الله، تداوله إعلام الحركة وحزب الله بكثافة، يشكرُه على التعزية فى إسماعيل هَنيَّة. الاستحضارُ لشعار اتحاد القيادة بالقاعدة كان غريبًا، وقد كان قائد حماس السابق مُقيمًا فى الفنادق لسبع سنواتٍ مضت، وقُتِلَ فى أحضان الشيعيَّة المُسلَّحة لا فى ساحة القتال. وبعيدًا من تلك النقطة؛ فقد انطوت الرسالةُ على مُبالغاتٍ عاطفية فى النظر للطوفان وما تلاه، وفى إكبار محور المُمانعة وجهودِه الإسنادية. والواقع أنَّ الحركة تعرَّضت لخذلان منه، أو تمرَّدت على قواعد عمله فى أحسن الافتراضات، وعليه فقد تقاسما مسؤوليةَ الخِفَّة والمُقامرة بدماء الغزِّيين؛ لاعتبارات أيديولوجية أو جيوسياسية تتجاوز فلسطين وقضيَّتَها. والمُزعج أنَّ السنوار ما زال يتحدَّثُ لُغةً قديمة، لم تكُن صالحةً إلَّا ليومٍ واحد، أو على التحديد لعدَّةِ ساعاتٍ من 7 أكتوبر، وبعدها كان الواجب أن يتواضع أمام خسارة حاضنته اللصيقة، وألَّا يعتبرَ أن ما حقَّقته الحاضنةُ العقائديَّةُ البعيدة يخُصّه أو يصبُّ فى صالح مواطنيه. هذا الخطاب لا ينفصلُ عن الواقع فقط؛ إنما يبدو فجًّا فى القفز على محنةِ البشر والحجر، وتسليم مفاتيح المسألة الوطنية لحليفٍ لم ينشغل بها على الإطلاق، أو على الأقصى يعتبرُها ورقةً ضمن أوراقِه لمُلاعبة الشيطان الأكبر، وتحصيل المكاسب للأجندة الصفوية السارحة فى الإقليم، وقد أنفقت من نارها فى العواصم العربية أضعافَ ما هدَّدت به إسرائيل، ناهيك عن تنفيذ التهديدات أصلاً.
كلُّ هذا يقعُ على عاتق واشنطن. لقد دعمت إسرائيل بجنون، فتيسَّرَ للمُمانعة أن تلعب ورقتَها الاستعراضيَّةَ غير المُثمرة. ولم يُقصِّر نتنياهو فى استثمار موقف الحزب وإيران لتصعيد الحرب، والعمل على إكسابها صِفةً إقليميّة. جنونُ الشمال تكفَّل كثيرًا بتغطية ما ينزل على رؤوس الناس فى الجنوب، والاستفزازُ الإسرائيلى المحسوب أمَّنَ للحكومة المُتطرِّفة مَنفذًا بديلاً لإشعال المنطقة وقتما تريد. وعندما حاولت إدارةُ بايدن التدخُّلَ بغَرَض التهدئة، انزلقت فى اتجاه توظيف ورقة الشيعيَّة المُسلَّحة؛ لترويض زعيم الليكود أو إخافته. إنها اليومَ تمنعُ طهران من الثأر لهَنيَّة؛ بينما سمحت لها فى أبريل بإطلاق مئات الصواريخ والمُسيَّرات فى عرضٍ جوىٍّ لم يُحقِّق شيئا؛ باستثناء إفساد صفقة التهدئة، وإفساح الطريق لاجتياح رفح ومحور فيلادلفيا. وفى الوقت الذى تدَّعى فيه التصدِّى للحوثيين على مدخل البحر الأحمر، تعملُ سفينةٌ إيرانية على مَقربةٍ منها فى دعم الميليشيا وتزويدها بالمعلومات. عينٌ على دَعم الدولة العبرية، والثانية على ترضية الجمهورية الإسلامية بغرض الاحتواء، وبينهما لا ساحة سوى غزَّة؛ لتعويض الاحتلال أو التعبير عن ضيقه من تلك التفاهمات. التشدُّد يرفعُ فرصَ التصعيد، ومخافةُ التصعيد تُبقى الصراعَ مشتعلاً، واشتعاله يُعزِّز التشدُّد، وتظلُّ الدائرةُ مُغلقةً فى انتظار الانتخابات الأمريكية وتفاهمات واشنطن وطهران. ولمعرفة الصهاينة أنهم فقدوا الردع، وغرام المُمانعة بفكرة الفوضى زهيدةِ التكلفة، ومعرفة الوصفة السهلة لاستعراض القوَّة؛ فلا حلَّ فى القريب، ولا أملَ فى البعيد دون تكسير حلقات النار المُتشابكة.
الهُدنة يجب أن تكون فى زمن نتنياهو والسنوار؛ إذ التغييرُ فى أىِّ جانبٍ قد يدفعُ الوريثَ لمزيدٍ من التصلُّب، خشيةَ انسحاب الاتفاق على معنى الإقرار بنصر العدوِّ. أمَّا ما بعد التهدئة فلا مكانَ فيه للاثنين؛ لو اُريد فعلاً أن يكون المسارُ السياسىُّ مثمرًا وقابلاً للحياة، ولو لمرحلةٍ مُؤقَّتةٍ طويلة نسبيًّا. هكذا تتَّخذُ مهمَّة الوسطاء والضامنين والبيئات الداخلية بُعدًا مُركَّبًا، يبدأ بتكثيف الضغط لتطويع القيادة فى الناحيتين، بالتزامن مع العمل على ترتيب الظروف اللازمة لخلافتهما، ويعلم «بيبى ويحيى» من دون شَكٍّ أنهما لن يكونا شريكين فى مرحلة ما بعد الحرب، وأن الوصول لتلك النقطة يمرُّ وجوبًا من خلالهما؛ لهذا سيستميتان فى إبقاء الأمور على حالها: لن يتنازل أحدهما للآخر، ولن يتنازلا معًا لبلديهما، وللغاضبين هناك أو المنكوبين هنا. إنه صراعٌ مُحتدم لا يسهُل التنبُّؤ بمآلاته؛ إنما حاضرُه يضيفُ صِفرًا كبيرًا للولايات المتحدة، لا إدارة بايدن وحدها، وهو ليس إخفاقَهما الأوَّلَ على أيَّةِ حالٍ، وقَطعًا لن يكون الأخير.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة