كانت مصر إلى وقت قريب قلب صناعة النشر في الوطن العربي، وهي لا تزال تنشر تقريبا ثلث ما ينشر في المنطقة العربية، وهذا يمثل تراجعا عن مكانتها غير ملاحظ إلى الآن، فإلى سنوات قريبة كانت مصر تنتج نصف ما ينتج عربيا من الكتب، غير أن صعود حركة النشر في ثلاث دول أثر على مصر.
بدأت مؤخرا أزمة متصاعدة تهدد حركة النشر في مصر بصورة غير مسبوقة للأسباب التالية:
ارتفاع أسعار مدخلات إنتاج الكتاب، وهي معظمها مستوردة، خاصة الورق الذي تجاوزت زيادة أسعاره عالميا 300%، ما يجعل سعر الكتاب المصري مرتفعا وبالتالي فقد أحد مميزات تسويقه.
إذا أضفنا لهذا ضعف منصات تسويق الكتاب المصري رقميا، مع استحواذ منصات أجنبية تدريجيا على نسب متصاعدة من سوق الكتاب المصري، ما يعني أنه مستقبلا ستفقد مصر صادراتها من الكتب ورقيا ورقميا، يعزز هذا اتجاه مكتبات الجامعات المصرية لتفضيل التعامل في تزويد الكتب رقميا من منصات أجنبية على التعامل مع منصات مصرية.
كل ما سبق يؤشر إلى الحاجة الملحة لمناقشات مشكلات الكتاب التي تبدأ بعد اعتراف الدولة بالنشر كصناعة تستحق الرعاية، كما أن إنتاج المحتوى تأليفا وإبداعا بحاجة للمناقشة، فالكتاب المصري من حيث المضمون به مشكلات، فعلى الأقل ثلث ما ينتج مصريا به مشكلات نظرا لاعتماد العديد من الدور على النشر على نفقة المؤلف، فظهرت كتب دون لجان قراءة ومراجعة، بل حتى أحيانا دون مراجعة لغوية أو تنسيق، يأتي خطر آخر داهم يهدد هذه الصناعة وهو القرصنة وتزوير الكتب من قبل مزورين وهي ظاهرة استشرت في مصر وأصبحت حالة مرضية مستعصية تحتاج إلى علاج جذري من الدولة ليس بمصادرة الكتب المزورة بل بإجراءات حاسمة حفاظا على حق الناشر والمؤلف.
كانت مصر هي الرائدة في الكتاب العربي الإسلامي وأكبر مصدر لهذه الكتب للعالم، الآن صارت مكانتها تزاحمها فيها السعودية منذ ثلاثة عقود ولبنان، وبرزت مؤخرا المغرب، لكن الخطر الحقيقي يأتي من تصاعد أدوار ثلاث دول هي: تركيا وماليزيا وإندونيسيا، التي تنتج هذه الكتب باللغات العربية والإنجليزية، وبات العديد من المؤلفين ومنهم مصريون يفضلون النشر في هذه الدول عن مصر، لوضوح حقوق المؤلف ولسرعة الانتشار، وهذه مسألة مرتبطة بقوة مصر الناعمة في هذا المجال، هذا ما يحتاج لقراءة مختلفة وغير تقليدية لهذا الحقل من الثقافة المصرية.
يجب إعادة هيكلة الهيئة المصرية العامة للكتاب، فهي ليست ناشرا منافسا في حركة النشر وليست منظما لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، بل يجب أن تكون راعيا لصناعة النشر في مصر وفق برامج دعم واضحة لهذه الصناعة ويمكن الاسترشاد في ذلك ببرنامج وزارة الثقافة المغربية، وهناك برامج مماثله ناجحة في فرنسا وكندا وبريطانيا، كما أن الهيئة بوضعها الحالي يمكن أن تكون مناسبة لحقبة الستينيات ولكن ليست مناسبة لعصرنا ، فهي تقوم علي الإدارة بأدوات قديمة ، حتي عند طرحها كتبا للقراءة الرقمية علي موقعها طرحت لمن يمر عابرا وقد يلتقي صدفة مع هذه الكتب أو لا يلتقي .
يجب بناء منصات مصرية للنشر الرقمي يقوم عليها مختصون في المحتوى وليس مهندسو تكنولوجيا معلومات، فكل المشروعات التي أشرف عليها هؤلاء انتهت إلى لا شيء، إذ لصناعة المحتوى الرقمي فضاء له مختصين فيه على قلتهم في مصر لا أحد يستعين بهم بل يقدمون خدماتهم للخارج ، هذا ما يقتضي تعاون كل من وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ووزارة الثقافة والجامعات المصرية مع بناء صناع للمحتوي الرقمي بكافة أشكاله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة