إن العديد من المفاهيم إذا جري تحديدها سنعرف كيف نخطط للثقافة المصرية ومنها :
الحق في الثقافة:
هو حق أن تتوافر لكافة المواطنين الخدمات الثقافية بما يحقق الإشباع الثقافي والفكري، ولا تترك العقول في البحار الرقمية تبحث فيلتقطها من يريدها ويصيغها كيفما شاء، لذا يصاحب هذا المصطلح مصطلح الأمن الثقافي الذي يعني أن يكون لديك خطاب ثقافي مبني على الإقناع عبر الحوار والمحاججة.
كل ما سبق يؤدي إلى محددات لتناول وضع الثقافة في مصر بصورة واضحة، فالثقافة في مصر ملف شائك تتقاطع فيه العديد من المؤسسات والوزارات، لذا فإن الشأن الثقافي ليس شأنا يخص وزارة الثقافة فقط، بل تتقاطع معها وزارات أخرى مثل: التربية والتعليم والتعليم العالي والخارجية، لذا فإن الدول تعرف هذا تحت عنوان (الاستراتيجية الوطنية للثقافة) التي يجري صياغتها وتنفيذها عبر ما يسمى بالسياسات الثقافية الوطنية، ولابد أن يجري إدراك أن الدولة التي كانت تحتكر هذا لم تعد كذلك، لأنه بدون فتح المجال للمجتمع المدني ليكون فاعلا ثقافيا يجري دعمه عبر الدولة ستفقد مصر قدرات لا تستطيع العمل تحت مظلة الدولة، بل إن طبيعة الإبداع تتطلب أن تكون عبر المجتمع المدني وكذلك الأفراد المبدعين والشخصيات العامة، ولابد أن نقر أن الفعل الثقافي في مصر يرتكز على ثلاثة: الدولة، المجتمع المدني الذي يحتاج إلى قوانين تحفزه ولا تعوقه، والأفراد بحاجة إلى ما يحفزهم ولا يعوقهم، وللأسف كان هذا في فترة من الفترات يتم عبر منح التفرغ من المجلس الأعلى للثقافة، وهي تجربة لم تثبت فاعليتها، فليس من خلال القول إنها تجربة نجحت لفترة كفيلا باعتبارها مناسبة للمستقبل، بل إن يكون ذلك عبر برامج محددة في مدى زمني محدد بمخرجات واضحة.
إذًا، ما هو مدلول الثقافة الذي سيجري من خلاله بناء استراتيجية وطنية وبلورتها في سياسات ثقافية: الثقافة هي أسلوب حياة ينغمس فيه كل مواطن بصورة قد تختلف من مكان لآخر داخل الوطن طبقا للعادات والموروثات والأعراف والتعليم الرسمي والشفهي الذي يتلقاه المواطن ليصيغ هذا كله الشخصية الثقافية للمواطن وتراكم المعرفة لديه، تظهر الثقافة في طريقة التفكير والسلوك الجماعي، ونظرة الأفراد لأنفسهم وللآخرين، وكيفية التعامل مع الممتلكات العامة والخاصة، والاستمتاع بالحياة، وطريقة الطهي والأزياء، وغير ذلك.
هذا يؤدي إلى تكوين ما يسمى الصورة الثقافية وهي المرآة التي يشاهد من خلالها أي بلد، فيجري الحكم عليه إن كان متقدما لديه أبعاد حضارية، وتظهر هذه الثقافة في الشوارع والميادين.. فأسوأ صورة لمصر هي ما تقوم به شركات المقاولات حين تقوم بتكسير الأرصفة أو الشوارع وترك المخلفات بها لتعيق حركة المارة، بل قد تترك لأسابيع، وفي وقت يرى الزائر لمصر من خارجها هذا باعتباره ثقافة إهمال وعدم نضوج، فإنه في بلده أن من يعملون في إصلاح الشوارع في الخارج يقومون بالعمل كما يقوم الجراح بعمله مع المريض في زمن قياسي وبدقة ويقوم بتضميد الجرح، ثقافة المقاولات والإهمال، هي ما دمر السينما المصرية كصناعة في السبعينيات وما تلاها، فثقافة المقاولات هي عنوان لثقافة "الفهلوة" و"تفتيح الدماغ" وغير ذلك، وهذا النوع من الثقافة سلب من الشخصية المصرية جديتها وما يعرف شعبيا بقيم "الجدعنة"، هنا تتقاطع الثقافة مع مخزون القيم الوطني، لنرى حاجة ماسة لمعالجة مشكلة في داخل الشخصية المصرية والمجتمع المصري لتقاطع الثقافة مع الحاجة لتدخل جراحي من علماء الاجتماع، هنا الثقافة تعكس أيضا كيفية تعامل أفراد المجتمع مع بعضهم، وهو ما يعني أن نوعية الحياة لابد أن ترتكز على معايير الجودة والقيم.
الثقافة والعلم: هناك غياب تام للثقافة العلمية في مصر، والتي تقوم على المنهج العقلاني ومنهجية التفكير العلمي والحوار القائم على الوعي بالعالم والمتغيرات المتسارعة به، مع التأكيد على احترام حرية العقيدة الدينية واحترام الأديان، والثقافة العلمية تقوم على المعرفة الدنيوية القائمة على الحواس والاستدلال بالقياس والاستنباط بالمنطق وإعمال العقل البشري.
ماذا نريد مستقبلا؟
إن السياسات الثقافية التي كانت تمارس في الماضي فعل ماض ليس له أي أثر في الحاضر ولا في المستقبل، لذا علينا أن نقر أنه لكي نحافظ على الهوية الوطنية وتصبح لدينا قوة ناعمة تخدم الوطن أن نعيد صياغة وبناء الثقافة المصرية من جديد على مستوى الأفكار والقيم والفنون والمورثات من مختلف العصور.
لذا فإن أولى الخطوات هي فك الاشتباك بين العديد من المؤسسات المصرية وأولها العلاقة بين وزارة الشئون الاجتماعية والجمعيات العلمية المصرية سواء المختصة بالعلوم التطبيقية أو الإنسانية أو الثقافية أو الفنية، لاختلاف طبيعتها عن الجمعيات الاجتماعية التي تمارس أدوار على صعيد القضايا المجتمعية كالفقر ودفن الموتى والرعاية الصحية وغيرها، فلا يعقل أن نكبل المجمع العلمي المصري والجمعية الجغرافية المصرية بقوانين تعيق قدراتها العلمية وأبحاثها وتفاعلاتها على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي، حتى حرمت العديد من الجمعيات من المشاركات الدولية نتيجة لقيود لا تتناسب مع طبيعتها، على جانب آخر فإن الجمود والتصلب أصاب هذه الجمعيات عبر مجالس إداراتها التي لا تقدم شيئا سوى تسيير الأمور، وهو ما جعلها حبيسة جدرانها، وجمودها هذا سبب ضررا للحياة الثقافية في مصر، والحقيقة التي يجب ذكرها أن فاروق حسني وزير الثقافة المصري السابق قدم لها مساحات ودعما لكنها لم تبن على ما قدمه، إذ ظلت في ذات الدائرة لم تتطور ولم تسع إلى أن تتطور مع المعطيات، خذ مثلا على هذا الجمعية المصرية للدراسات التاريخية التي لم تقدم -منذ رحيل الدكتور رؤوف عباس- الجديد الذي يجذب حتى سكان مدينة نصر لمعرفة أن الجمعية في نطاقهم، وعليه، ففي هذا الموضوع هناك شق يتعلق بالدولة وهو صياغة قانون ينقل تبعية هذه الجمعيات قانونيا لوزارة الثقافة مع صياغة مواد تعطي لهذه الجمعيات ما يناسب طبيعتها من مواد، على أن تقدم الدولة تمويلا لبرامج بحثية محددة تقوم بها هذه الجمعيات ولا يجب أن تقدم منحا غير مشروطة لها، على جانب آخر يجب أن تجدد هذه الجمعيات آليات ومناهج عملها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة