"الطبيعة تكره الفراغ"، هذه مقولة معروفة لأرسطو، الفيلسوف اليوناني الشهير، المولود عام 384 قبل الميلاد، وقد اتصلت كلماته مع أغلب المفكرين والعلماء، الذين يؤكدون دائماً أن الفراغ أكبر عدو قد يصادف الإنسان على الإطلاق، فالاستسلام لفكرة الفراغ تجعلنا دائماً نفقد القدرة على العمل، ليحاصرنا العجز والكسل، والتخلي عن السعي والدأب.
لم أدرك خطورة "الفراغ" إلا في الصيف الحالي، بعدما صار أولادي في سن خطرة، ويحتاجون إلى إدارة ناجحة لأوقات فراغهم بصورة صحية، بعيداً عن دمار الإنترنت، والفضاء الأزرق، والساعات الطويلة التي تمر عبر شاشات الموبايل، بين برامج وتطبيقات، جيدة، وسيئة، سلبية وإيجابية، طريفة ودرامية، لكن ما يميزها دائماً أنها متنوعة وغير مصنفة ولا تنتهي، وهذا التنوع يجعلها أكثر خطورة على الصغار، ومن في مقتبل العمر، فهم كالاسفنجة التي تمتص كل شيء، ولا تفرق بين الجيد والردئ، الغث والسمين..
قبل عدة أشهر وتحت ضغط كبير أو بمعنى أدق "زن" من أطفالي، رنا 11 عاماً، وعمر 9 سنوات، رخضت لفكرة ضرورة تحديث هواتفهم المحمولة، بإصدارات أحدث، ومزايا أكثر، وبالطبع ميزانية أكبر، وديون أضخم على فيزا المشتريات، بالفعل تم تحديث الهواتف لتتناسب مع أعمارهم الجديدة، ومحاولة لشغل وقت فراغهم في أيام الإجازات، وأوقات غيابي أنا وزوجتي عن المنزل، لطبيعة ظروف العمل، وبالفعل انشغل الأولاد عن مطالبهم المعتادة، والدراما اليومية التي كانوا يؤدونها، بداية من إحضار الشيكولاتة في المساء، حتى المقرمشات والتسالي، فقد أكل "الموبايل" كل أوقاتهم وصاروا لا يتحركون إلا بدونه.
الموبايل والانترنت هما العدو الأكبر في بيتي، بعدما اكتشفت أن الصغار يمضون عليه من 12 إلى 13 ساعة يومياً، من اللحظات الأولى عند استيقاظهم صباحاً، حتى الخلود إلى النوم، وهذا أشعرني بقلق كبير، بعدما بدأ الأولاد يرددون كل ما يتابعونه ويشاهدونه، وبالتبعية زادت الصراعات المباشرة داخل الأسرة، خناقات يومية مع الأم، مشاحنات بين الولد والبنت، والسبب الواضح والمعلن الاستنزاف الذي أحدثه الإنترنت والموبايل لعقول وقلوب الصغار، حتى صاروا أقل ارتباطاً بالأسرة، وأكثر سلبية وتبلد على مستوى المشاعر والأحاسيس..
لأول مرة في حياتي أسعد باقتراب موعد بدء الدراسة، وهذا ليس إلا سعيا لإنهاء كابوس الفراغ الذي يعيشه أطفالي، نتيجة عدم وجود أنشطة صيفية مناسبة أو معسكرات تدريب أو أفكار يمكنهم تنفيذها والاستفادة منها لمواجهة سطوة الموبايل، الذي صار العدو الأكبر لكل أسرة في الوقت الراهن، لذلك بات مهما أن ندرك حجم الخطر الذي يحيط بصغارنا، بعدما صار الموبايل مع كل طفل!!
المعسكرات الصيفية، فكرة جادة ومهمة، تستخدمها كل دول العالم، لتنمية مهارات الأطفال في المرحلة العمرية من 12 إلى 16 عامًا لتنمية مهاراتهم، واكتشاف مساحات جديدة في شخصياتهم، والتنقيب عن المزايا الحقيقية، ومساحات الإبداع التي يتمتعون بها، وتحسين مؤشرات الفهم والاستيعاب لديهم، وتربيتهم على مفاهيم التسامح وقبول الآخر والإنسانية التي يجب أن نحتكم لها جميعا، لذلك صار مهما أن نستغل المدارس، والجامعات، ومراكز الشباب، والمنشآت العامة، في تقديم أنشطة صيفية حقيقية، لإنقاذ أطفالنا من تغول الإنترنت، وسيطرة السوشيال ميديا على أفكارهم وعقولهم.
خلال البحث عن البرامج الخاصة بالأنشطة الصيفية، وجدت أن أغلب الشركات الدولية الكبرى تتولى الإنفاق على برامج ضخمة للأنشطة الصيفية، وتدريب الأطفال على العمل الجماعي والأنشطة التطوعية، التي تسهم في تنمية المجتمع، وقد صادفت خلال البحث أن الشركة الروسية المسئولة عن بناء محطة الضبعة النووية تقدم برنامجا للأطفال من كل دول العالم تحت عنوان برنامج روساتوم للعطلات الذكية الدولي، في مدينة نوفورالسك، روسيا، وهناك 5 طلاب مصريين في مختلف المراحل التعليمية يشاركون في هذا البرنامج، الذي يكفل لهم تجربة السفر والانتقال والإقامة المجانية، والتعرف على تجارب مهمة ومؤثرة تمنحهم التلاقي مع مختلف جنسيات العالم.
في مصر أكثر من 60 ألف مدرسة على مستوى مختلف محافظات الجمهورية، يمكن استخدامها كقواعد للأنشطة الصيفية، وإطلاق برنامج طموح يعزز مهارات الأطفال، ويربطهم مع المدرسة بصورة مختلفة، وينمي لديهم روح القيادة والتعاون والعمل الجماعي، والأهم من ذلك كله ينقذهم من مخاطر الإنترنت، والجلوس على الموبايل لساعات طويلة لدرجة أنهكتهم بدنيا وذهنيا، وهذه رسالة مفتوحة إلى وزير التربية والتعليم الجديد، لإنقاذ ملايين الأطفال في مصر من هذا الشبح الجامح، الذي صار إدمانا يستوجب التدخل السريع والعاجل من مختلف الجهات المعنية بالتربية والتعليم وتنشئة الشباب في مصر.
المعسكرات الصيفية أو المدارس الصيفية حل مهم للتغلب على أوقات الفراغ، التي يعيشها الأطفال خلال فترة إجازات الدراسة، وتطبيقها ضروريا بعدما تراجع دور الأسرة، نظراً لضغوط العمل، والأوضاع الاقتصادية التي باتت تفرض أعباءً إضافية على كاهل الأسر بمختلف مستوياتها في مصر.