عادل السنهورى

زمن عدوية (2)

الجمعة، 03 يناير 2025 11:35 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لماذا هاجم اليسار أحمد عدوية، ولماذا وجد عدوية نفسه فى معركة لا يعرف عنها شيئا، ولا أطرافها، ولا يدرك طبيعة الأعداء فيها، ولم يكن أمامه سوى الصمت والغناء فقط؟

فى تاريخ الأغنية العربية لم تشهد مسيرة مطرب مصرى أو عربى نقدا وهجوما استمر إلى أكثر من ربع قرن تقريبا، مثل مسيرة أحمد عدوية، لقد نظر إليه ورأى فيه مثقفو اليسار والطبقة الوسطى وأبناء جيل ثقافة الستينات ومشروع عبد الناصر، رمزا ساداتيا معبرا عن قيم الانفتاح الاقتصادى. واجه عدوية هجوما وانتقادات واسعة من بعض المفكرين والمبدعين الذين رأوا فى صوته رمزا لسيادة الطبقات الطفيلية" العفنة" التى قدمها الانفتاح. شاعت هذه النظرة فى كتابات اليسار والمثقفين التقدميين عموما ، وغالبا ما كانت تتم الاشارة فيها إلى محتوى أغنياته التى اعتبرت أغانى عبثية وبلا معنى مثل "كركشندى دبح كبشه يا محلا مرقة لحم كبشه..عكشه"» أو "ستو بسبست له".


نال عدوية من الهجوم وتحمل ما لا يتحمله أو تحمله مطرب أو مطربة آخرى وحملوه "وزر" وخطايا مرحلة سياسية واقتصادية واجتماعية بأكملها وأقاموا حوله مراعى للقتل.. لقتله فنيا ومحاولة القضاء على ظاهرته وعصره وزمنه واعتبروا أن أغانيه تساهم فى تدنى الذوق العام، وأنها أغانى تناسب ظاهرة الانفتاح السداح مداح..!


الهجوم على عدوية شاركت فيه أطراف السياسة والثقافة المصرية والإعلام والرقابة على المصنفات ولجان الاستماع فى الإذاعة والتليفزيون والرقابة على المصنفات وحتى شرطة الآداب..!


اتخذ اليسار ومعظم المثقفين من عدوية موقفا مناهضا، كما فعل الدكتور مصطفى محمود حين وصف صوته بأنّه "فحيح ذكر البط"، وصلاح عيسى عبر مقاله "طه حسين فى عصر أحمد عدوية" فى مجلة الثقافة الوطنية التى صدر منها عدد واحد فقط، وعبد العال الحمامصى فى  مجموعته القصصية "أحمد عدوية وأشياء أخرى"، لم يتوقف الهجوم يوما واحدا طوال 20 عاما أو أكثر عبر المقالات الصحفية وقرارات شرطة الآداب والرقابة على المصنفات الفنية، ومنعه من الإذاعة والتليفزيون من جهة أخرى.


انهمر الهجوم والعداء لعدوية وزمنه مثل انهمار أمطار الشتاء، فمؤسسة رسمية مثل منظمة الشباب التابعة للاتحاد الاشتراكى وزعت منشورات تهاجم أغانيه، وأحيل فى منتصف الثمانينيات إلى بوليس الآداب..! وتعسف كتاب سياسيون ومؤرخون موسيقيون فى تغليف ظاهرة عدوية الغنائية بغلاف سياسى يصعب دائمًا الإفلات من سحره، وتشكلت مجموعة من الكتابات التى صاغت الكيفية التى بلورت بها النخبة خطابها «العدائى المتعالي» من «عدوية»، حيث اعتبره صلاح عيسى  فى كتابه «مثقفون وعسكر» الصادر عام 1988، أنه "تجلٍّ لعصر السادات، مثلما كان عبدالحليم حافظ  جزءًا من النسيج المتكامل للظاهرة الناصرية"، وتعرض صاحب أغنية «زحمة» لحملات هجاء قادتها النخبة اليسارية التى  كانت تملك سلطة نقدية لها وزنها، واختارت أن تحمّله وحده فواتير مناخ الانفتاح الاقتصادى حتى أصبح عدوية أيقونة لزمن سياسى ومنظومة اجتماعية وتحولات اقتصادية ومرحلة تاريخية، فأفلام الواقعية الجديدة تشير إليه كعلامة على تحوّلات السبعينات، وإن لم يحضر بنفسه، حضرت أغانيه الشهيرة ورقصت عليها عشرات الراقصات فى أفلام جادة وهزلية، وأشهرها أغنيات: السح الدح إمبو، زحمة يا دنيا زحمة، سلامتها أم حسن.


عواصف الهجوم على عدوية استمرت ما بين مقالات ورسوم كاريكاتيرية طوال السبعينيات ومنتصف الثمانينات مع صدور كتاب عن «الأغنية البديلة» ألفه إبراهيم عيسى وعبدالله كمال فى بداية عملهما الصحفي، انتصرا فيه لمطربى الثمانينيات الجدد أمثال على الحجار ومحمد منير وإيمان البحر درويش وأدانا فيه دون هوادة «عدوية» باعتباره نقيضًا لهذه الأسماء، فضلا عن أنه يعبر من وجهة نظرهما عن انتصار الطبقة التى أفرزها الانفتاح، ولعله نفس السياق الذى يدفع بشاعر متمرس فى صناعة الأغنية مثل مجدى نجيب إلى أن يربط نجاح «عدوية» بما خلفته نكسة 1967 من كوارث، فى حين رأى الشاعر سيد حجاب أن «عدوية» كان يعبر عن طبقات صعدت مع موجة الانفتاح واعتمدته مطربها الرسمي، إذا مست كلمات أغانيه طموحهم فى الصعود الطبقى وتعويض دونيتهم وحلمهم فى بنت السلطان، وكانت أغنياته الأولى، تخاطب أشواق أفراد هذه الطبقة فى الانتقال إلى مستويات أرقى.


وفى فيلم "خرج ولم يعد" عام 1984، استعان المخرج محمد خان بجملة على لسان البطل يحيى الفخراني، حين قرر أن يعود إلى المدينة، فصرخ: "جاى لك يا عدوية" .واستعان أيضا بالأغنية التى أصبحت مقولة سائدة فى المجتمع "زحمة يا دنيا زحمة" التى ألفها حسن ابو عتمان ولحنها هانى شنودة، وتعد تجليا لما يعبر عنه عدوية، حين يبلور ذلك الواقع القاسى غير المحتمل فى كلمات وأغان تجد صدى لها لدى ملايين المستمعين من المهمشين.


ولذلك يعتبر مفكرون محايدون أن عدوية وغناءه الحدود بين الثقافة النخبوية والثقافة الجماهيرية، فإذا كان الفن قديماً حكراً على طبقة بعَينِها، فإن الفن فى حقبة ما بعد الحداثة متاح للجميع، فالسطحى والعميق، فى نظر ما بعد الحداثي، كلمتان يَستعملهما النخبويون، لا كحكم جمالي، إنما للتمييز الطبقي. لذلك يرفض أنصار ما بعد الحداثة تراتبية الأذواق والثقافات.


فأغنية “السح.. الدح.. أمبو” الذى ألفها ولحنها " الريس بيرة" كانت بمثابة قنبلة انفجرت فى عالم المثقفين، أكثر من كونها فجرت جماهيرية عدوية وجعلته نجما، وقد هوجم الرجل لأن الأغنية لم تكن جديدة، فقد غناها الممثل والمطرب الشعبى محمود شكوكو قبله.


وقد افتعل الصحفيون والنقاد معركة وهمية، شهدت استقطابا بين أحمد عدوية من جهة، وبين محمد رشدى الذى انحاز له مثقفو اليسار، لكونه أقرب إلى المرحلة الناصرية من عدوية، الذى يعد رمز للمرحلة الساداتية.


والذين تعاطفوا بعض الشىء مع عدوية رأوا أن  نقاده قد صدموا بسماع “سلامتها أم حسن” و” كركشندي” وغيرها من الألفاظ والتشبيهات الغريبة، بعد مرحلة من الغناء الراقى لعبد الحليم وأم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وغيرهم، ولذلك فإن ذلك الدوار الذى أصابهم جراء تلك الغرابة كان طبيعيا، فقد انعزلوا عن الطبقة الخفية من أبناء الحارات الشعبية.


بل سعت الدولة إلى تبنّى أغنية شعبية منضبطة وخاضعة للأعراف الرسمية مثلها محمد عبد المطلب ومحمد رشدى ومحمد قنديل وغيرهم.


لكن عدوية لم يكن ينتمى لأى تصورات رسمية سواء الكلاسيكية أو الشعبية، بل كان أقرب إلى نبتة برية تزامن بزوغها مع تحوّلات اجتماعية وسياسية عميقة فى عهد السادات، حيث تراجع الاهتمام الرسمى بالثقافة، وتقدّم تيار الإسلام السياسى وخفّت قبضة الرقابة على الغناء.


وظل عدوية فى مجمل مشواره كان شبه "ممنوع ومحاصرا" من التليفزيون والإذاعة، لكنّه صنع أسطورته الخاصة التى فرضت نفسها على الجميع.


ومع ظهور شريط الكاسيت، انتشر صوت أحمد عدوية فى الشارع المصري، ورفع راية التحدى ضد محاولات الخنق والحصار والمنع والهجوم اليسارى الضاري، وشق طريقه إلى الشهرة والمال والنجاح والى بيت أنور السادات رئيس الجمهورية، فقد كان ضيفا ثابتا فى المناسبات الاجتماعية للرئيس أنور السادات وأسرته. فبعد أن اختاره السادات للغناء فى زفاف ابنته، أصبح أحمد عدوية فرصة وصيد ثمين أكثر أمانا لتوجيه سهام النقد للمرحلة وملامحها، فلم يكن كثير منهم يجرؤون على انتقاد شخص السادات.


شاء القدر أن يظهر عدوية ويتجلى فى مرحلة زمنية، يترأس فيها مصر رئيس منفتح يكره المثقفين،  أصحاب الكلام المجعلص - على حد وصفه لهم - ويسخر منهم، وأن يكون هؤلاء المثقفين هم صحفيو الثقافة ومسئولوها وكبار رجالها فى مصر. ولد عدوية غنائيا مع ميلاد مشروع السادات، فأراد أن يكايد مثقفى اليسار به، فاستضافه فى مناسباته، ودافع عنه صحفى السادات المفضل أنيس منصور.


لكن بقيت ملامح عدوية الغنائية أكثر أصالة من أن يطمسها التشويش السياسى والكيد المتبادل بين الرئيس ومثقفى وكتاب اليسار المصرى بتنوعاته.
كانت كراهية اليسار لعدوية هى كراهية لزمن الانفتاح الاقتصادى وليس لشخص عدوية فلم تكن أغانيه سوى نقلا مجسدا وحقيقيا لمناخ التحولات الكبرى التى شهدها المجتمع المصرى فى السبعينيات.

 







مشاركة



الموضوعات المتعلقة

زمن عدوية

الخميس، 02 يناير 2025 01:20 ص



الرجوع الى أعلى الصفحة