د. نعمان جلال

مصر وروسيا وأمريكا من المنظور الحضارى والثقافى" 2-2 "

الجمعة، 29 نوفمبر 2013 11:08 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
نتيجة للعوامل الثلاثة التى أشرنا إليها فى المقال السابق ترتكب السياسة الأمريكية أخطاء فادحة فى تضييع الفرص، والتخلى عن الأصدقاء والبطء فى إدراك الواقع السياسى الحقيقى، ولهذه السذاجة ركزت عندما انهار الاتحاد السوفيتى على بوريس يلتسين وكان مدمنا للخمر وضرب الدوما( البرلمان) الروسى بالمدافع.

كما ركزت عندما انهارت القوة العربية على عناصر عربية أو عراقية أو إيرانية أو ذات أصول أوروبية، ولعلنى أذكر شخصيتين لعبتا دوراً مهماً فى القرار الاستخباراتى والسياسى الأمريكى، هما البروفسور برنارد لويس المستشرق والخبير ذو النزعة الاستعمارية فى شئون الشرق الأوسط، وكذلك البروفسور والى نصر Vali Nasser الأستاذ الأمريكى المتخصص فى الاستخبارات وهو من أصول إيرانية، وكثيرون من أمثالهما.

هذا المنطق الأمريكى ينظر فقط للعالم على أنه أبيض أو اسود، معى أو مع عدوى، كما ذكر جون فوستر دالاس، مدير الاستخبارات فى الولايات المتحدة فى الخمسينات، وكما ذكر جورج دبليو بوش الرئيس السابق إما أن تكون معى أو تكون عدوى.



باختصار إن السياسة الأمريكية لا تعرف ألوان الطيف السياسى نتيجة الاعتبارات التى أشرت إليها، ولهذا استعدت وتخلت عن الرئيس المصرى حسنى مبارك رغم انه كان حليفا لها طول 30 عاما، كما عادت غيره دون الدخول فى ذكر أسماء قادة عرب أو حتى أوروبيين، يكفى فضيحة التجسس الأمريكية على حلفائها ليس فقط فى الشرق الأوسط وإنما فى أوروبا وآسيا.


السياسة الروسية أكثر ذكاء فهى تعيش الفكر الاستراتيجى، وكذلك السياسة الصينية تعيش فلسفة التغيير والنفس الطويل، لهذا فالولايات المتحدة تستقبل الدالاى لاما وتعادى الصين، وتقدم أسلحة لتايون وتعادى الصين، وتحتضن السياسة الأمريكية الإخوان المسلمين الذين حولت بعضهم إلى عملاء وتعادى الشعب المصرى بل والشعب العربى كله وهكذا.
الشعب الأمريكى شعب عظيم رفيع الخلق صاحب همة عالية، ولكن السياسة الأمريكية أسيرة الاعتبارات الثلاثة السابقة ترتكب الأخطاء الجسام رغم ما لديها من مراكز أبحاث وأجهزة استخبارات كثيرة ومتنوعة، ولكن من يقدم لها نصيحة مخلصة لا تروق لها فتعتبره عدوا لها.



ولهذا فإننى لا أستبعد قيام الولايات المتحدة بقطع باقى المعونة عن مصر وهذا من وجهة نظرى سيكون فيه فائدة مزدوجة الأولى للشعب المصرى لكى يعتمد على نفسه وعلى أصدقائه الحقيقيين وعلى أشقائه العرب الذين بادروا لمساعدتها وخاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت والمساندة الأدبية من مملكة البحرين والثانية فائدة للدب الروسى وربما التنين الصينى وان كان الأخير أكثرت تحفظا فى حركته، لأن الصين احتفظت بحضارتها، ولم تتجه للخارج والتعرف على العالم الحقيقى المتنوع الأطياف،غير مهتمة أحيانا أن السياسة الدولية تحتاج لقرار سريع فى لحظات معينة، ولهذا فإننى أدعو الصين لأن تبادر لإثبات صداقتها الحقيقية لمصر، التى كان زعيمها جمال عبد الناصر أول من اعترف بالصين متحدياً الولايات المتحدة آنذاك وأقام معها علاقات دبلوماسية قبل غيره من الدول العربية والأفريقية.
وروسيا كسياسة وكقيادة وخاصة شخصية مثل فلاديمير بوتين ابن الشيوعية والاستخبارات، فهو أكثر إقداما وجرأة فى انتهاز الفرص التى تتاح له لقلب الطاولة على خصومه، وتحقيق المكاسب لدولته، خذ على سبيل المثال موقفه فى سوريا أو فى أفغانستان أو آسيا الوسطى أو فى أوروبا أو مع إيران أو الهند أو غيرها. انه يدرك الأبعاد المتعددة للسياسة والأوجه المتنوعة للثقافة، ويربط بين هذه الأبعاد. وبين سرعة الحركة والتغيير لدى بوتين بشكل أفضل من كثير من قادة الدول الأخرى، ولهذا فان أوروبا أصبحت أسيرة الطاقة المستوردة من روسيا، كذلك الصين تحولت لعلاقة إستراتيجية مع روسيا، رغم ما حدث من خلافات قديمة.



السؤال إلى أين تتجه مصر؟ وأقول إن مصر لن تصبح خاضعة لروسيا أو أمريكا وإنما تعطى مصالحها الوطنية الأولوية، ثم يليها المصالح القومية العربية، لارتباط الأمن المصرى عضويا بالأمن القومى العربى، وفى مقدمته الأمن الخليجى، ولن تصبح أمريكية أو روسية، إذا إن مصر حفيدة حضارة عريقة منذ الفراعنة، وتعتز بحضارتها واستقلالها وترفض الخضوع لأية دولة، إنها تتصادق وأحيانا تتحالف مع روسيا، كما فى مرحلة عبد الناصر، أو مع أمريكا كما فى مرحلة السادات، ولكنها تسعى للحفاظ على استقلالية قرارها خاصة عندما عندما يمس مبادئها وأمنها الوطنى أو القومى العربى.


إنها مصر المعتدلة المتوسطية ذات البعد الحضارى، وذات المكانة الإستراتيجية وهذه نصيحتى كباحث مصرى متخصص فى دراسة الأبعاد الحضارية للسياسة سواء فى مصر أو الصين أو غيرها.



وقد أصدرت كتابى المعنون " دبلوماسية الحوار الدولي" من مؤسسة الأهرام عام 2003، وتناولت فيها مفهوم الحوار السياسى والدبلوماسى مع مختلف التكتلات والقوى الدولية، ومن بينها روسيا والصين والولايات المتحدة وإسرائيل وإيران والهند وباكستان وأوربا وغيرها. إن الدبلوماسية المصرية قادرة على اتخاذ القرار المناسب الذى يتماشى مع مصالحها، ولعلنا نذكر ثعلب الدبلوماسية المصرية الدكتور محمود فوزى وبعده الدكتور عصمت عبد المجيد وعمرو موسى وغيرهم كثيرون.


إن مصر هى محور السياسة العربية والإسلامية، فالأزهر الذى أقامه الفاطميون تحول ليكون مركزاً إسلاميا معتدلاً يجمع المسلمين من مختلف المذاهب والطوائف فهو يقر التعبد على المذاهب الإسلامية بما فى ذلك الجعفرية الاثنى عشرية ولهذا أصبح ركيزة للثقافة الإسلامية والعربية، دون الانحياز لمذهب دينى وكذلك السياسة المصرية والثقافة المصرية، لقد كان من أكبر الأخطاء للإخوان المسلمين أنهم تصوروا أن مصر عزبة لهم، وحقا قال بابا الأقباط الراحل شنودة "إن مصر بلد يعيش فينا"، وليست بلداً نعيش فيه، وقال البابا الحالى تواضروس، "انه لا يهتم بتدمير بعض الكنائس، فالمبانى يمكن إصلاحها وإعادة بنائها، ولكن يهتم حماية الأرواح المصرية الغالية، بغض النظر عن انتمائها الدينى، ولهذا كان الوفاق المصرى كاملا بين شيخ الأزهر وبابا الكنيسة المرقسية، كما هو بين الهلال والصليب منذ ثورة 1919م، بل منذ فتح عمرو بن العاص مصر، وستبقى رغم المحن. أين هذا القول الكنسى من ذلك الزعيم الاخوانى الذى لا يعرف قيمة مصر وشعبها وقال بعنجهية "طظ فى مصر" أو ذلك الذى قال "ما لم أصبح حاكما على مصر فسوف أشعلها نارا" أو ذاك الذى قال أعيدوا لنا الرئيس مرسى يتوقف العنف فى سيناء فى لحظة واحدة.

إن تحليل الوضع الواقعى استنادا للتاريخ الحضارى المصرى يوضح أن مصر ترتبط عضويا من حيث الثقافة والسياسة بقوى خمس هى: الشعب والجيش والأزهر والكنيسة والبيروقراطية المصرية.

الشعب المصرى فرعونى التراث، عربى اللغة، متوسطى الثقافة، إسلامى الدين، والجيش المصرى منذ ثورة 1881 فى العصر الحديث، وهو يلتحم بالشعب ويعبر عنه ضد المحتلين وضد الطغاة من الحكام، أما الأزهر والكنيسة فهما فى تلاحم رغم اختلاف الدين.فالدين لله وللوطن وللجميع. وهكذا عاشت مصر الفرعونية ومصر الإسلامية العربية، ومصر الحديثة، إن تغير السياسة المصرية الخارجية الآن ليس سوى تغيير توجه سياسى، وليس تغيير هوية.فالهوية المصرية ترتبط بما أسماه العالم الجغرافى المصرى المشهور جمال حمدان فى كتابه الموسوعى شخصية مصر المتغلغلة فى جذورها الجيو استراتيجية والثقافية، وما أطلقت عليه فى احد مؤلفاتى المشتركة مع الدكتور مجدى المتولى بعنوان "هوية مصر" وهى هوية فريدة فى نوعها لا تستطيع دولة ما أن تسيطر عليها سواء كصديقة أو حليفة.


هى كما قال جمال عبدالناصر " نصادق من يصادقنا، ونعادى من يعادينا". ونحن لا ننشد عداء احد من الجيران، أو الأشقاء أو أية دولة، ولكننا نحرص على الحفاظ على هويتنا وترابنا الوطنى وأمننا العربى، وبعدنا الحضارى العميق فى إفريقيا، ارتباطا بنهر النيل العظيم الذى هو جزء لا يتجزأ من هذه الحضارة العريقة، ولذلك لن نخذل أو نتخلى عن أخواتنا فى القارة الأفريقية، فمصر عرفناها فى القديم تنتمى للجنس الحامى فى أفريقيا السمراء، كما أنها فى حضارتها الإسلامية أصبحت تمتزج بالجنس السامى العربى.



إن هذا المزيج المصرى الفريد، هو ما ينبغى على كل مصرى وكل صاحب قرار فى العالم أن يأخذه فى الحسبان، وعلى الولايات المتحدة أن تعيد النظر فى منهج تعاملاتها مع مصر، كشعب وكحضارة ،وكقوات مسلحة، هذا هو المدخل الصحيح لتعامل أية دولة مع مصر المعاصرة أو مصر المستقبل.
* باحث فى الشؤون الإستراتيجية الدولية.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة