د. نعمان جلال

الدولة ومنهج إدارة الغضب (2)

الجمعة، 22 فبراير 2013 11:11 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تمثل "إدارة الغضب" Anger Management حالة من حالات إخفاق إدارة الدولة بصورة من الصور، ومن ثم يثور الشعب بدرجات متعددة من الغضب، فهناك الغضب السلمى، أو الغضب المكبوت، أو الغضب الثورى عبر التظاهر السلمى، أو الغضب المدمر عبر تخريب مؤسسات الدولة، عندما يشعر المواطن أن الدولة لا تعبر عنه فلا يعير اهتماما لمؤسساتها العامة، وأخيرا هناك الغضب الإجرامى الذى يلجا إليه المواطن نتيجة الإحباط الشديد واليأس فيرتكب الجريمة بالسرقة أو القتل أو التدمير والحرق للمنشآت العامة أو الخاصة.

إدارة الغضب بالخداعAnger Management by Deception: عانت مصر عبر عقود طويلة من حالة الغضب الشعبى ولكنه كان غضبا سلبيا، فى معظم الأوقات، عبر تباطؤ العمل، الإهمال والتكاسل، عدم دقة العمل والإنجاز أو الهروب من المدرسة والالتجاء للدروس الخصوصية سواء من المدرس أو الطالب، أو منح المكافآت الوهمية للموظف غير المنتج كوسيلة للتأثير عليه واسترضائه، ومن وسائل إدارة الغضب الخداع الإعلامى، والخداع السياسى، والخداع الدينى، ولعل الخداع الإعلامى واضح، من خلال وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمشاهدة أو المرئية وبرامج التوك شو Talk Show وغيرها، ومن ثم نشر الأكاذيب والبيانات غير الصحيحة التى يدلى بها كثير من المسئولين وأتباعهم من رجال الإعلام المسيسين، ولكن مثل هذه الأساليب السلبية لا تقلل من أهمية الصحافة الحرة المستقلة، ولا من مكانة الصحفيين الأحرار، فالصحافة جهاز مهم من أجهزة الرقابة على كافة السلطات وعلى أى انحرافات، وهى جهاز إعلامى لنشر الحقائق والتحليلات، ولا ننسى أن الذى أطاح بالرئيس الأمريكى نيكسون رغم أنه رئيس منتخب عبر صناديق الاقتراع هو صحفى استطاع نشر ما عرف بفضيحة وترجيت Watergate كذلك الذى أطاح برئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، وإسحاق رابين، فى رئاسة كل منهما الأولى للوزارة الإسرائيلية، كان صحفيا اكتشف أن زوجة رابين لديها حساب خاص شخصى فى أمريكا بعد عودته منها وانتهاء عمله كسفير لبلاده فى واشنطن، مخالفة بذلك القانون الإسرائيلى، وشىء مماثل حدث مع نتنياهو ولم يطعن أى منهما فى صحة معلومات الصحافة، أو فى قرار القضاء، وهذا نموذج من نماذج العمل الصحفى فى النظم الديمقراطية، ولا ينبغى للصحفى أن يوجه انتقادات شخصية أو اتهامات دون وثائق ومستندات أو نقدا يمس بمكانة الأفراد، أو تشويه سمعتهم، فهذا يعاقب عليه القانون، وليست هناك حريات لأحد فوق القانون الواجب التطبيق، فالردع المتبادل للجميع هو ضمانة للحريات العامة والخاصة وضمان للمصداقية الإعلامية.
كذلك الأمر بالنسبة للخداع السياسى من الأحزاب أو الجمعيات السياسية أو حتى الاجتماعية بالترويج لأفكار غير واقعية فى مجالاتها أو رفع شعارات ومطالب غير ممكن تحقيقها مما يؤدى لإثارة الشعوب ضد الحكام، أما الخداع باسم الدين فهو أكثر أنواع الخداع سوءاً، لأن الله سبحانه وتعالى لم يفوض أحدا لتوجيه اتهامات بالكفر أو الشرك أو نحو ذلك من البشر، والحديث النبوى" هلا شققت عن قلبه" خير دلالة على ذلك، وآيات القرآن الكريم تؤكد على الحرية الدينية " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" يونس الآية (99). وقوله تعالى "لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً" سورة الرعد الآية 31، وقوله تعالى "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوُجُوهَ يئس الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا" الكهف الآية (29) هذا خير دلالة على تسامح الإسلام.

كما جاء فى القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، هذا التسامح الشامل، اللا محدود تجاه غير المسلمين، وتجاه المسلمين، وتجاه كل إنسان، واحترام العقائد الأخرى وعدم المساس بها مهما كانت هذه المعتقدات، لذلك قال الله تعالى: "وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" الأنعام الآية (17).
إدارة الغضب بالقانون الظالم: من المعروف لدى كثير من فقهاء القانون أن القوانين تعبر عن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية فى أية دولة، ومن هنا فإن مبدأ تغير القوانين بتغير الأحوال والأوضاع من المبادئ الرئيسية فى تطور التشريعات والقوانين، ولكن فى نفس الوقت لا يمكن إدارة الغضب بإصدار قوانين عشوائية بين ليلة وضحاها، دون دراسة لمختلف الأبعاد، ولا يمكن إصدار قوانين أو دساتير يتم تفصيلها عن طريق ما يعرف لدى العامة بأنهم تزرية القوانين لمنع فلان أو علان أو لمعاقبته لخروجه على إدارة الحاكم المستبد الظالم الذى يدعى القدسية والعصمة والحصانة.

هذا يعنى إدارة السلطة التشريعية أو التنفيذية للغضب إدارة خاطئة، ما يزيد من تفاقم حالة الغضب وتحولها من حالة كامنة إلى حالة ظاهرة، وهذا ما حدث فى عهد الرئيس السابق حسنى مبارك، وما يحدث فى ظل الحكم الراهن بدرجة ما، الأول بالسعى للتوريث والبقاء فى السلطة للأبد فى نظام جمهورى، والثانى عبر عملية إقصاء الخصوم ومعاقبتهم، وهذا لم يحدث فى أية دولة ديمقراطية، فضلا عن مخالفته للشريعة الإسلامية القائمة على الحرية الفردية أو الحرية الدينية، ورفض روح الانتقام من الخصوم والمعارضين، كما تجلى فى إعلان النبى الكريم بعد فتح مكة لخصومه من المشركين الذين اضطهدوا وعذبوا أصحابه، بل وتآمروا على قتله أكثر من مرة فقال لهم: "ما تظنون أنى فاعل بكم"، فأجابوا بخبث ورجاء أمل" "أخ كريم وابن أخ كريم"، فأجابهم بتسامح الإسلام: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، بل زاد بإعطاء عهد الأمان لهم: "من دخل داره وأغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل دار أبى سفيان"- زعيم المشركين الذى كان من أشد خصوم الإسلام- "فهو آمن"، هذا هو الإسلام الذى يرفض روح الثأر وغريزة الانتقام، ويقدم عليها التسامح والصفح والعفو عند المقدرة، لهذا أشاد الله بمن يفعل ذلك بقوله: "وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) سورة آل عمران.
إدارة الغضب بنشر الحقيقة، ومن أساليب ذلك ما يلى:
1- أسلوب نشر الحقائق للمواطن الذى يعانى من مشاكل اقتصادية وأزمات مالية فى حين أن الدولة لا تستطيع الوفاء بكل متطلباته.
2- أسلوب محاسبة الدولة لمؤسساتها على التبذير والإسراف مثل السفريات غير المبررة وغير المنطقية لكبار المسئولين لحضور منتديات عامة، بدون أن يكون هناك مردود حقيقى لها، أو عقد مؤتمرات لمجرد الشهرة أو إظهار المكانة والسعى للحصول على جوائز دولية، فى حين أن المؤتمرات أصبحت صناعة تدر عوائد للدولة وكذلك المهرجانات الثقافية والرياضية.
3- الاهتمام بحل مشاكل المواطن اهتماما حقيقيا وجعله شريكا فى العائد الاقتصادى من التنمية والتقدم ومن ثم رفع مستوى معيشته.
4- الاهتمام بالفئات المهشمة من المرأة والشباب والمعوقين وكبار السن، والعمل على مواجهة مشكلة البطالة، وإتاحة فرص العمل والتأمين الاجتماعى وكذلك التأمين ضد البطالة كما يحدث فى البلاد المتقدمة بل وبعض الدول النامية.
5- الاهتمام بالعشوائيات، وقد أصبح سكان العشوائيات قوة خطيرة، خاصة فى المجتمع المصرى، حيث تهدد المدن الكبرى المحاطة بحزام من للعشوائيات، وهذا إنذار خطير بإمكانية حدوث صراع طبقى وليس هذا فى مصر أو الدول النامية فقط بل فى دول متقدمة أيضا، كما حدث فى ثورة الضواحى فى فرنسا، حيث العمال المهاجرون، ومعظمهم من أصول عربية، ويحمل كثير منهم الجنسية الفرنسية، ولذلك وضعت فرنسا خططا للتعامل مع هذا الموقف، وكذلك حدث بدرجات مختلفة فى بريطانيا وفى الولايات المتحدة حيث الأحياء التى يسكنها أقليات فقيرة.
إدارة الغضب عن طريق التنمية: إن التقدم والتنمية هما اللذان يحققان توفير فرص العمل لمواجهة البطالة، وهذا يساعد على إدارة حالة الغضب الناجمة من ذلك.

إدارة الغضب من خلال تنمية الثقافة العلمية ونشرها، وكذلك عبر مراكز التعليم والمدارس والجامعات والإعلام بنشر الوعى لدى المواطن حول أساليب العمل الديمقراطى، أو التعامل مع مؤسسات الدولة، وتوضيح واجباته وحقوقه وأن الاثنين يمثلان كفتى ميزان، وكذلك تطوير التعليم المهنى والحرفى وتطوير مفهوم المبادرة الذاتية للمشروعات الصغيرة والمتوسطة.

أجهزة الأمن وإدارة الغضب: من أسوأ أنواع إدارة الغضب الالتجاء لأجهزة الأمن، ولكنها فى نفس الوقت تكون ضرورية والمبدأ الإدارى بل والدينى أن الضرورة تقدر بقدرها، والضرورة تأتى لمواجهة الإرهاب أو الجرائم مثل الاتجار فى المخدرات أو القتل أو الاغتصاب أو فى حالات المساس بالأمن العام والأملاك العامة والخاصة ونحو ذلك.

أما الجانب السيئ فهو ينبع من إساءة استخدام السلطة من ناحية، ومن التوسع فى إدارة مشاكل المجتمع من خلال الجانب الأمنى وحده وليس السياسى والاقتصادى، وهذا يعد إخفاقا للنظام السياسى، ويهدد بتحول الدولة إلى دولة فاشلة، كما حدث فى أعقاب سقوط مبارك، وهو نتيجة منطقية لإدارة الدولة من أجهزة الأمن فى عهد مبارك، ثم معاناة الشعب وانفجاره فى ثورة عارمة، ثم اتجاه بعض القطاعات للتخريب والخروج على القانون، ومع عودة الشرطة عاد القمع فى الشوارع والتعذيب، بل أضيف لها السحل أمام قصر الاتحادية مقر رئيس الدولة، والتحقيق مع المتظاهرين فى داخل سور القصر الرئاسى أحيانا، كما نشرت الصحف وتناقلته وسائل الإعلام ونحو ذلك، وهذا من شأنه الدفع بالمجتمع لثورة جديدة من خلال انفجار طاقة الغضب المكبوتة نتيجة حالة الإحباط الجديدة.

هذه مجموعة من الأفكار نطرحها لذوى الاختصاص والمسئولين وللمواطن وللحكام والمحكوم من على حد سواء.
والخلاصة أن الغضب ظاهرة إيجابية لمواجهة الظلم والقمع، ولكنه أيضا ظاهرة سلبية تؤدى للدمار والفوضى، ومسئولية الحاكم إدارة الغضب إدارة سليمة، وليس عبر الديكتاتورية أو الفساد الذى ورد فى الأمثال بشأنه: "إن الظلم يولد الكفر"، ونقول: "إن الإدارة السيئة للغضب المشروع تولد الانفجار فالثورة فالدمار"، ولا ننسى أن الشعب ثار عام 1919م رغم بداية الازدهار الاقتصادى، ولكنه شعر بأن الازدهار لم يصل إليه، كما ثار عام 2011م ضد نظام مبارك رغم ارتفاع معدل النمو لأن عائد التنمية لم يصل إليه، وثار الفرنسيون ثورتهم المشهورة ضد لويس السادس عشر، عندما شعر بالظلم ودمر الباستيل، وثار الأمريكيون ضد الضرائب الجائرة التى فرضها عليهم الاستعمار البريطانى عن طريق البرلمان الإنجليزى الذى ليس لهم تمثيل فيه وطرحوا شعار "لا ضرائب بلا تمثيل برلمانى" No Taxation without Representation، كما أن تزوير الانتخابات بالأساليب المعروفة يعنى تزوير إرادة الشعب، ومن ثم يعد البرلمان المنتخب بالتزوير غير ممثل للإرادة الشعبية، فالشعب لا يمكن فى أى مجتمع أن يعطى ثقته مائة فى المائة لأى حاكم مهما كان عادلا، فهناك طبقات وطوائف ومصالح متنوعة، وتناوب السلطة هو الأساس فى أحداث الرضا عن طريق خلق الأمل، كما يحدث فى الدول الديمقراطية، وليس عن طريق الاستمرار فيها، ولا ننسى أن الخلفاء الراشدين رغم عدالتهم كان لهم معارضون، فالسياسة نسبية ومصلحية ومتغيرة ومن يتقدم للسلطة والمسئولية عليه أن يأخذ ذلك فى حسبانه، ولذلك قال الفقهاء وخاصة الإمام ابن تيمية: "إن الله ينصر الدولة – بمعنى النظام- العادل ولو كان كافراً، ولا ينصر النظام الظالم ولو كان مؤمناً".
* باحث فى الدراسات الإستراتيجية الدولية








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة