لم أدرك أن الله يختار من يحبهم ويشفق عليهم من البقاء فى هذه الأرض التى تحولت إلى غابة تسفك فيها الدماء وتهدر فيها الكرامة وتتصاعد فيها المعارك التى لم نعد ندرى أهى معارك حق أم باطل؟ يرحم الله بالموت الأخيار فينا الذين لا تحتمل قلوبهم النقية الاستمرار وسط هذا الكدر والخبث، ويتركنا لمزيد من الكرب والابتلاء والامتحان فى دار الدنيا.
يخطف الموت من بيننا أروع من فينا فى أشد حاجتنا إليهم، يفاجئنا الموت ولا يمنحنا مهلة لنفعل كل ما أردنا فعله، يوما بعد يوم ينقص عدد من يسيرون معنا فى الطريق ونكمل نحن، لأنه لا بديل عن السير واستكمال الدرب بمراراته وجراحه، نتمنى كثيرا الموت لنجد فيه الراحة التى نفتقدها والسعادة التى ننشدها ولكنه لا يأتى، زمن عز فيه الموت وصعبت فيه الحياة وصار الإنسان فيه لا حيا ولا ميتا، نقول إن فى العمر بقية ونسوف ما ينبغى أن نفعله والعمر لا ينتظر، وحين يطرق بابنا الموت ندرك أننا أهدرنا ما منحته لنا الحياة عبر الغرق فى بحار الرجاء ووهم الانتظار والتأجيل وإهدار اللحظات.
كثيرة هى لحظاتنا التى نضيعها فى الجدل والكراهية وفى هجر من نحب وخصامه وفى معارك لإثبات صحة أفكارنا وخطأ المختلفين عنا، ولو اغتنمنا هذه اللحظات فى البحث عن سعادة نفوسنا وراحة بالنا ووصال أحبابنا لصارت حياتنا أروع، نفتقد الراحلين ونبكيهم ونشعر بقيمتهم فجأة حين يفارقون حياتنا رغم أننا لم نكرمهم فى حياتهم ولم نقدرهم قدرهم ونبقى هكذا لا نعرف قيمة الأشياء والبشر إلا إذا فقدناهم، هل تستحق الدنيا كل هذا الصراع والألم؟ لماذا لا نتذكر حقارة الدنيا إلا حين يفاجئنا الموت ويختطف من بيننا من نحبهم، كم من كرام يسىء الناس إليهم ولا يعرفون قدرهم ولا ينزلونهم منزلتهم وحين يرحلون يفجع الناس فيهم ويقولون لقد عاشوا بيننا ولم نكتشف روعتهم ونقاءهم إلا بعد أن رحلوا، من يبيعون ضمائرهم ويركنون إلى الظلم والاستبداد طمعا فى مغنم ومأرب، هل تتعظون مما يحدث حولكم؟ تجار الدين ودهاقنة الوهم هل ما زلتم تتجرأون على دين الله وتجعلونه أداة لأهواء البشر ورغباتهم ونفى الإيمان عن مخالفيكم وتشويههم باسم الدين الذى هو برىء مما تفعلون؟ ألا تتعظون وأنتم تقرأون آيات الموت وتطالعون أثره وهو يضرب كل حين بيديه لينقل الناس من دار إلى دار، مضى من مضوا وتركونا نكمل الدرب وحدنا، يحملوننا مسئولية تحقيق ما ماتوا من أجله من قيم ومبادئ وأحلام لهذا الوطن، ولكن حالنا لا يبشر بالخير، تائهون نحن بين ظلمات الطريق وعثراته، نفقد بوصلتنا فتضل أقدامنا الطريق، لم يعد الحق بينا فنتبعه والباطل جليا فنجتنبه، اختلطت كل الأشياء وتمازجت النوايا والأغراض وصار التمايز عسيرا بين هذا وذاك، نحنّ إلى لحظات الطهر والنقاء وسلامة القلوب من الأغراض، نحنّ إلى وضوح المقصد وجلاء الطريق ووضوحه لنعرف إلى أين نمضى، قد نستفيق لحظيا من تأثير فاجعة الموت، ثم نعود إلى ما كنا فيه قبل ذلك وتغرقنا دوامة الحياة وأحداثها المتعاقبة، ولكن لو تخيل كل منا أنه قد يكون الراحل القادم فسيعيد حساباته ويبتعد عن إدمان التأجيل والتسويف عن ذواتنا يجب أن نبحث فلا أحد يخاف على المرء أكثر من نفسه.
فى وداع الراحلين نقف إجلالا لمن ضحى منهم وبذل وترك أثرا فى حياتنا ونستلهم من سيرتهم عبق البذل والتجرد والإخلاص، لحظة صدق مع النفس قبل أن تنتهى الفرص، النداء الأخير لمن يريد النجاة، ابحث عن ذاتك.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
نشات زقزوق
رجاء للدكتور مصطفى النجار